فرحت جداً بزيارة سيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الكاتدرائية الكبرى بالعباسية مهنئاً المصريين بعيد ميلاد رب المجد يسوع، وأقول مهنئاً المصريين لا الأقباط؛ لأن المسيح للكل. لقد أثبت الرئيس السيسي أنه ليس فقط رجل مخابرات جيد، ولكنه رجل دولة من الطراز الأول أيضاً، وأنه رئيس لكل المصريين، متجاوزاً في ذلك كل ما تم تداوله من لغط وجدل حول جواز أو عدم جواز تهنئة أقباط مصر بالعيد، ذلك الجدل القديم الجديد، الذي اعتدنا على متابعته في كل عيد. وفي الحقيقة ليس الرئيس السيسي فقط هو من تجاوز هذا الجدل بتلك الزيارة الكريمة، فالرئيس لم يفعل إلَّا ما يفعله المصريون الذين يتقاسمون معاً رغيف العيش وحبات العرق يومياً لا في المناسبات فقط. فبلا شك، لقد تجاوز العيش المشترك بين المصريين ترف هذا الجدل إلى الالتحام معاً في معترك القضايا والمشروعات القومية الكبرى التي سجلها وما يزال يسجلها التاريخ ويرسم بها صورة لكفاح المصريين المشترك من أجل غدٍ أفضل، فأصبح هذا الجدل لا يعني ألا فصيل من المصريين قليل.
تلك مقدمة ضرورية لما أطرحه الآن.
من تاريخنا القديم، ما سجله الجبرتي عن تبادل سجاجيد الكنائس والمساجد ومصابيح الزيت في الأعياد ابتهاجاً بالمناسبات. بل من تاريخنا المعاصر عندما كانت الأسر المسلمة والمسيحية تتبادل الفطائر وكحك العيد، بل وحتى لحم عيد الضحية “العيد الكبير” كان يوزَّع في بعض أحياء القاهرة على الكل بغض النظر عن الإيمان … إلى واقعنا الممزَّق حيث تخرج الآراء والفتاوى بعدم التهنئة بالعيد لأهدافٍ سياسيةٍ واضحة … أمرٌ غريب؛ لأن التعايش والتسامح وقبول الآخر هي من عناصر التقدم. أما نشر البغضة والعداوة باسم الدين – أياً كان هذا الدين – فهو زرع قوى التخلف التي تبدأ بإنكار وجود الآخر.
ما هو الضرر الواقع على أي إنسان يقول لأخيه الإنسان: “كل سنة وأنت طيب”؟ وما هي أركان الدين التي تهتز بأمنية صالحة أن يأتي العيد، أي عيد، والآخر “طيب” أو “بصحة جيدة”؟ الذي يتزعزع -بكل يقين- هو الانتماء للوطن، والإخاء الذي يجمع سكان العمارة الواحدة أو الشارع الواحد، وهو ما يجعل الإحباط والقلق والتوجس يأكل قوى النفس، ويكبِّل الإرادة، ويلوث الرجاء والأمل بأن هناك شرٌّ مبيَّت. والجار الحقود -كما يقول المثل- هو أخطر عدو تراه، ولا تعرف ماذا تفعل؛ لأن كل محاولات الود تصطدم بالإيمان بالمطلق بالله، الذي لم يأمر بالعداء والقتل. صحيح أنه أمر بالدفاع عن الحياة والنفس والمال، ولكن الجار -مهما كان دينه- ليس عدواً يهدد، ولا هو محتل غاصب.
التصدي بالقانون والعقوبات لا يخلق الصفاء. بدأت النهضة الأوروبية باستعادة التراث والعودة إلى قراءة معاصرة لما جاء في التراث. ربما كان من الضروري كتابة تاريخ مصر، وتأكيد الوجود التاريخي للمسيحية والإسلام معاً في مناهج المدارس الإبتدائية والثانوية. الثقافة الوطنية موضوع لا يمكن اهماله. فقد عرض برنامج “القاهرة والناس” أن البعض قاموا بتربية أسماك في معبد أبيدوس بعد امتلائه بالمياه الجوفية، حتى أن الذين قاموا بهذا العمل الشاذ لا يعرفون قيمة أثار مصر القديمة، ولا حتى معناها، أو قيمتها الإنسانية. وعندما ارتفعت بعض الأصوات النشاز لهدم تمثال أبو الهول لم يتصدى لها الإعلام بكفاية. ليست القيمة التاريخية للآثار –رغم أهميتها– هي محور الاهتمام، بل أن يبقى الأثر شاهداً على قدرة الإبداع الفني، وهي القدرة التي تبدع كل ما هو صالح وجيد.
إن فتوى عدم التهنئة بالأعياد هي مهد “الجفاء”، والجفاء هو بداية الاغتراب ومقدمة طبيعية للعدوان، بل للإرهاب نفسه.
إن المسئولية التي تقع على عاتق المركز القومي للبحوث، ومراكز البحث وأساتذة التاريخ وعلوم الاجتماع والنفس، مسئولية وطنية كبرى، إذ عليهم التصدي ليس إعلامياً فقط، بل ببرامج تربية وبرامج ثقافية ونشر تراثنا. لقد أصابتني دهشة عندما كنت في مصر، وبالذات في عام 1977 عندما حضر ثلاثة من أساتذة جامعة كامبردج – انجلترا – كنت قد تعرفت عليهم أثناء دراستي، وطلبوا شراء كتب عن مساجد القاهرة، ولم نجد إلَّا كتاباً فرنسياً، ولم نعثر على كتاب واحد عن كنائس القاهرة القديمة.
تحيا مصر بتراثها، وبذكرى رجالها الأوفياء، وتحيا مصر بروح مصر التي لا تعرف الكراهية والبغضة والعداء كأداة للحياة اليومية.
وكل عام وشعب مصر كله بخير.
دكتور
جورج حبيب بباوي