لم نصدِّق ما أشاعه البعض عن منع كتب الأب متى المسكين من العرض بمعرض الكتاب القبطي في هذا العام. ولكن تم افتتاح المعرض بغياب دير الأنبا مقار.
من الحقائق الثابتة التي لا جدال عليها بشهادة التاريخ المعاصر، هي أن الأب متى المسكين لم يحاكَم حتى على اتهامٍ واحد. فقد ظلت الاتهامات والأقاويل تحاصره، ولكن وعي شعب الكنيسة كان يدرك أن محاولة الحصار كانت لوقف إعمار الدير الذي كادت تسقط كل مبانيه؛ لأنه أقدم المباني في صحراء رهبان مصر.
وثمة حقيقةٍ أخرى، هي كما نقول أسطع من الشمس في وقت الظهيرة، وهي أن مؤلفات الأب متى المسكين فوق المستوى المعرفي لكل مَن يتهمه، مهما كان الاتهام، ومهما كان الشخص. فقد توقف أصحاب الاتهامات عند الأدبيات الكنسية التي سادت في الفترة ما بين 1950 – 1970. ولعل من يسمع هذه الاتهامات يرى بوضوح أن الذين يطلقونها هم أولاً: لا يعرفون التاريخ الكنسي. وثانياً: يجهلون تراث آباء الإسكندرية العالمي. وثالثاً: ليس لديهم مرجعية لاهوتية إلا ما تداولته كتب ومؤلفات الفترة التي حددناها بعاليه.
هؤلاء هم قضاة الأب متى المسكين، يقفون عرايا تماماً إلا من أقنعة الحسد والغيرة والبغضة.
وثمة حقيقةٍ أخرى وهي الأهم؛ لأنها خاصة بقداسة البابا تواضروس الثاني؛ لأنه جاء إلى مجمع أساقفة يزيد عددهم على الـ 100 أسقف جميعهم رسمهم الأنبا شنودة الثالث، الكثرة الغالبة منهم يظنون أنهم أخذوا الكهنوت من الأنبا شنودة لا من الذي يقيم الكهنة، وهو رأس الكنيسة الرب يسوع المسيح.
فقد حاول أسقف أرثوذكسي نشر بحثٍ عن رئاسة أعمال الكهنوت، رداً على مقولة رئاسة بابا الإسكندرية للكهنوت، فتصدى له أسقفٌ آخر نشر بحثاً رداً على البحث الأول، كشف فيه عن جهلٍ مطبق بالعقيدة المسيحية، والتاريخ، بل وحتى اللغة اليونانية نفسها؛ لأن كلمة “أرشي” اليونانية لا تعني رئيساً، بل متقدماً. والرئاسة هي التخصص في خدمة، لا سلطة، حيث لا يوجد أسقف أعظم من أسقف. ورئاسة البابا السكندري هي المسئوليات الرعائية وليست رئاسة كهنوتية، ومن هنا جاء اسم بحث الأسقف الأرثوذكسي: “رئاسة أعمال الكهنوت”، وذلك في تناغمٍ مع أقدم كتاب عن رئاسة الكهنوت لديونيسيوس الأريوباغي.
هؤلاء لا يدركون -أي أساقفة الأنبا شنودة- محنة الوطن. فهم عن غير وعي يضعون أنفسهم في ذات الخندق مع الجماعات التي تسعى لإسقاط الدولة المدنية، وهو المشروع الوطني الذي جاء بالرئيس عبد الفتاح السيسي إلى رئاسة الجمهورية. هدف هؤلاء هو تفتيت وحدة الصف التي تكونت مع مجيء البابا تواضروس الثاني الذي وقف مع ثورة 30 يونيو بلا تردد.
ولذلك، أثاروا عاصفةً حول كتب الأب متى المسكين، وعدة عواصف أخرى في موضوعات جدلية نُشِرت في مجلة الكرازة بعد رسامة البابا تواضروس، إلى جوار ما أثاره المركز الثقافي القبطي أيضاً من عواصف. القصد الواضح من هذه العواصف إحداث أكبر قدر من البلبلة والتشويش، بل جاءت شائعة محاولة عزل قداسة البابا تواضروس الثاني في ذات الاتجاه، رغم صعوبة تحقيق هذه الشائعة التي قوبلت بصدور بيان التيار العلماني القاطع ضدها، إلَّا أنه ورغم قوة وصدق البيان إلَّا أن الشائعة حققت الهدف منها، وهو طرح فكرة عزل قداسة البابا تواضروس بواسطة المجمع.
لقد كان المجمع طوال فترة سكرتارية الأنبا بيشوي قادراً على خلق اتهامات لا وجود لها، ولم يصدر بها أية قرارات. فلنكن على حذر.
ويمكننا أن نرى الوجه القبيح للعصر الوسيط فيما يأتي:
أولاً: منع الكتب؛ لأن المنع قرارٌ غامض لم يقدم أسباباً معقولة؛ لذا فهو ينطوي على أفظع أنواع الاستبداد والقهر.
ثانياً: ليس غياب القرار الواضح هو المشكلة، بل المشكلة الأكبر هي منع القراء من القراءة، ومن التفكير، ومن معرفة الرأي الآخر، مهما يكن هذا الرأي.
هكذا وصف هذا الوجه الفيلسوف برديائيف في دراسة له بعنوان “عودة العصر الوسيط”، تلك العودة التي بدأت بإشعال النيران في مؤلفات أبونا متى، حيث يقول الفيلسوف إن أهم ملامح العصر الوسيط هو مصادرة الرأي بواسطة قرار وسلطة دينية وكنسية.
إن الطريق للإصلاح والتجديد، طريق طويل، ومساندة البابا تواضروس الثاني غدت واجباً وطنياً قبل أن تكون ممارسةً للإيمان المسيحي نفسه.
دكتور
جورج حبيب بباوي