تقوى مزيَّفة بلا أساس لاهوتي –2

أثلج صدري الشرح والدفاع الذي قدَّمه الأخ ماهر فايز، لما امتاز به من أدب مسيحي جم، وصدق وشجاعة. وقبل أي شيء آخر، لم يكن لا العنوان، ولا السطور التي جاءت تحت هذا العنوان تمس كاتب الترنيمة من قريب أو بعيد، بل هي تتصدى في الأساس لما تزرعه الكلمات في الوعي والإدراك الإنساني الذي لا يمكن أن يقدم بالمرة، وينمو ذلك النمو الذي وصفه رسول الرب بأنه “من الله” (كولوسي 2: 19)، إلَّا بثلاث حقائق هي من ثوابت الإيمان المسيحي:

الأولى: الانتقال من العموميات إلى ما هو خاص. وعلى سبيل المثال، سمعت هذه الترنيمة في كنيسة عربية هنا في انديانا، تقول كلماتها:

دم يسوع غالي وثمين

دم تشهد له الملايين

وسئلت الحاضرين، ما هو المقصود بالضبط، وما علاقة ذلك بالتحديد الكتابي نفسه عن دم يسوع، وما معنى “دم يسوع ابنه يطهرنا من كل خطية”؟ ولم أسمع رداً مسيحياً كتابياً؛ لأن ما يقال في هذا الصدد هو كلام عام بلا تخصيص يفتقر إلى الوضوح وإلى الهدف. غياب الوضوح وغياب الهدف يزعج ضمير أي إنسان مسيحي؛ لأن الدم = الحياة، ولأن الدم هو ما قُدِّمَ لنا وللآب، قُدِّمَ لنا “ذبحاً” كتعبير عن الحب اللانهائي، وللآب لكي يقدس ويخصص الإنسانية إلى ميراث الملكوت. ولم يكن الدم “ثمناً” دفعه الابن للآب، هذا تجديفٌ لا يليق.

الثانية: الوعي الإنساني لا يتقدم ولا ينمو إذا كان يسير في طريق العموميات، ويتحرك حسب ما تقدمه العموميات. وعلى سبيل المثال، درجنا على استخدام كلمة “عبادة”، وهي كلمة خاصة باليهودية والإسلام، في حين أنه لا عبادة في المسيحية، وإنما حسب العهد الجديد اليوناني – القبطي، لدينا كلمة “خدمة”. حاول أن تسأل الفريق الذي يخدم معك يا سيدي العزيز: هل يخدمنا الثالوث في الابن والروح القدس، أم أننا نحن الذين نخدم الثالوث؟ وسوف أترك لك مجال الرد؛ لأن البحث الرائد الذي قمت به هنا في أمريكا عن ذات السؤال جاء بردود غير مسيحية وغير متوقعة من كبرى الكنائس.

نحن لسنا “عبيداً”، بل أبناء الآب الأحرار في يسوع. وعندما يصف رسول الرب نفسه بأنه “بولس عبد يسوع المسيح”، فهو يقصد أن الرب اقتناه كما يقتني السيد في المجتمع الروماني القديم العبد من “سوق النخاسة”. وبالرغم ذلك لا زال التعليم بالعبودية سائداً رغم أننا نُقلنا من العبودية إلى حرية أبدية في المسيح، وأترك لكم مراجعة الترانيم التي تصف هذه العبودية؛ لأن هذا هو حقل خدمتك الممتازة.

ومرة ثانية، أنا لا أقصد شخصاً معيناً، لا أنت أخي الكريم ولا غيرك. حاشا لي من قِبل الرب يسوع أن أُصدر حكماً على إنسان حتى ولو كان غير مسيحي.

الثالثة: لعلك تعرف ترنيمة “يا سائح للقاء يسوع”، والأخرى “يا من بحضوره نفسي تطيب”. مثل هذه الكلمات هي من العموميات التي تصيب الحياة الروحية بالضعف. أساس التسبيح هو الاتحاد بالآب بقوة الروح القدس، ولذلك، الضعف الروحي الحادث عندنا له مكونات لا بُد سبق لك أن رصدتها، وهي بالتحديد:

– اعتبار يسوع فكرة في العقل، مثل ما يقال عن الدم، وبالتالي التنازل عن يسوع الشخص أو الأقنوم. هنا تصبح العلاقة نفسانية عقلية تقع تحت سيطرة الفكر، تذهب هذه العلاقة وتجيء مع الفكر ومع الشعور؛ لأنها تفتقر إلى الأساس الأبدي، أي اتحاد الرب بنا اتحاداً أبدياً أصبح مهجوراً في زماننا يُمسُّ من بعيد.

– تحول يسوع إلى كائن آخر خارج إطار الحياة اليومية، فهو لا يشارك الأجساد والأرواح. هو في السماء، وعندما أسمع عبارة طلب الغفران على “حساب الدم الكريم”، أجد نفسي أمام أكبر مشكلة، وهي بالتحديد افتقار الخطاة إلى ينبوع الحياة الأبدية الكائن فيهم في يسوع؛ لأن التعليم بانفصال الخطاة عن الرب هو تعليم شائع هدم وأضعف الحياة المسيحية.

ما هي التقوى المزيَّفة التي تفتقر إلى الأساس اللاهوتي؟

أنا لا أطعن في تقواك الشخصية، لأن هذا موضوعٌ لا يخصني، وإنما يقع في إطار علاقتك الشخصية بالرب يسوع، وبالتالي ليس لي أن أحكم فيه على الإطلاق. وللمرة الثالثة لست أقصدك، بل أقصد ما زرعته الترانيم -بشكلٍ عام- من تيار شعبي يفتقر إلى الأصالة وإلى العودة إلى الثوابت.

طبعاً لديكم ترانيم جيدة عن تجسد الرب والصلب والقيامة والروح القدس، والثالوث (رغم ندرة ما لدينا من ترانيم عن المحبة الثالوثية)، ولكني أتصدى هنا للعموميات التي تزيِّف الحياة، وهي بالتحديد، تجعل الحياة تبدو مسيحية وهي ليست كذلك؛ لأن كل ترنيمة مهما كان كاتبها، ومهما كان انتماؤه الكنسي (وهذا لا يخصني)، لا تضع كلماتها خصوصية المسيحية في اعتبارها، لا بُد وأن تزيِّف الحياة.

– الكلمات التي تحول العلاقة بين المؤمن والمسيح إلى وصف خارجي للمسيح لا يصل بعد الوصف العام إلى ما يعطي دائما من الرب، تصبح كمن يصف مباراة كرة قدم، يمدح فريقها ولا يجيد اللعبة نفسها، ويكتفي بالمشاهدة. أعتقد أن هذا واضح. لكن وصف الرب بكل ما لدينا من أوصاف، إذا لم ينقل الوعي إلى ما نناله من الرب، عندئذٍ نسقط في فراغ روحي، لا يهم هنا مصدر الترنيمة أو حتى تاريخها؛ لأن القِدَم لا يعني الأصالة.

– وعندما نصف دون أن نشترك، أو يقتصر الوصف على الصلب والمصلوب وحذف القيامة، فإن ذلك يجعل الصلب والمصلوب يفتقد إلى العمق الأبدي الخالد والانتصار على الموت وإبادة الشيطان، الذي تحول في السنوات الأخيرة إلى قوة مساوية للمسيح يخاف منها الناس.

هذا هو التزييف الذي أقصده.

وثمة مسألة أخرى ذات دلالة هامة، ألا وهي أن كل كلام عن الله هو كلامٌ عام، لا يجب أن يقال عندنا مهما كان الانتماء الكنسي؛ لأن “الله” قضية عامة عند اليهود والمسلمين. “الله” عندنا هو الآب أبو ربنا يسوع المسيح. نحن نعيش في زمن اختلفت فيه الأمور، وقد عاتبت الأنبا شنودة الثالث -عندما كان لازال يسمعني- على تكرار استخدام عبارة “السيد المسيح”، وقلت له إن العبارة الصحيحة هي “الرب يسوع”؛ لأن كلمة “السيد” ليس لها مكان في اعتراف صحيح، والهرب من عار الشهادة عيبٌ كبير، ولكن الخوف واعتباراتٍ أخرى –أنت تعرفها- لازالت تحكم الكلام عن “السيد المسيح”، وليس “الرب يسوع”.

أنا لا أقصدك بالمرة، وإنما هذه هي الحالة العامة التي عندنا والتي يجب أن نتجاوزها.

العواطف الإنسانية العامة لا تكفي

يا ليت كان لديَّ ذات المواهب التي لديك في الكتابة والموسيقى والصوت العذب. إن تسبيح حقائق الأبد التي جاءت إلينا في يسوع رب المجد، ليست عواطف تذهب وتجيء، بل هو الإيمان بما فيه من إرادة توصف في اللاهوت الشرقي بأنها “تتأله”، أي تنال الثبات الإلهي والدعم بالنعمة. الشوق إلى الله هو شوقٌ طبيعي، وقديماً قال العلَّامة ترتليان: “إن النفس الإنسانية مسيحية لأنها خُلِقت على صورة الله، فهي مدعوة لأن تفهم حقيقة خلقها على صورة الله”. لكن –يا أخي الكريم- تحريك العواطف والانفعالات يقود إلى فراغ روحي لا يصل إليه “العابدون”. وعلى سبيل المثال لا الحصر، كم مرة سمعنا مزمور 23 “الرب راعيَّ”؟ المزمور كُتِبَ تحت روح العهد القديم، يفتقر إلى ما ورد في إنجيل يوحنا ص 10 عن الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف، ولذلك، العاطفة التي تقول:

راعيَّ العظيم نفسي تتبعك

ما أجمل صوتك لي

هذه العاطفة، تنسى ذبح الإرادة الإلهية على الصليب، وتنسى بسبب صياغة الكلمات أن المذبوح يأتي إلينا دائماً؛ لأن ذبح الإرادة صار قوة حياة بسبب القيامة، وهو ما توحي به الرسالة إلى العبرانيين.

إن حركة بحث الإنسان عن الله هي حركة مضادة للتجسد والصلب والقيامة وانسكاب الروح القدس. ولكن بحث الله الآب عن الإنسان، والسعي الدائم إليه هو التعليم المسيحي. تأمل معي –يا سيدي الكريم- هل وصل الإدراك عندنا إلى أن عبارة الذوكصا: “المجد للآب والابن والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين. آمين”، لا يمكن أن يكون المقصود منها تمجيد الثالوث فقط، بل نحن ننطق بالمجد لأننا اشتركنا فيه؟ وعندما “يعترف كل لسان بأن يسوع ربٌّ لمجد الله الآب”، فهذا لا يمكن فصله عن قول الرب: “المجد الذي أعطيتني قد أعطيتهم”.

هل تصل بنا الترانيم المعاصرة إلى تأكيد أننا ننال نعمة غير مخلوقة، نعمة إلهية، وأبدية، ودائمة، أم أننا حاصرنا الإنجيل في بشارة بعواطف سامية نبيلة فقط؟

لم أتهمك بأنك تعلِّم “بالفناء”، ولكن ترك أو التخلي أو نسيان القلب، أو أي تعبير آخر من هذا القبيل هو تعبير ينطوي على خطورة. فقد جاء المسيح رب الحياة لكي يجعلنا بشراً بقلوب لحمية، وبقلوب تنال صراخ الروح: “أبَّا أيها الآب”. واختلاط جحد الذات بتدمير وكراهية الذات، بل انعدام محبة الإنسان لنفسه هو تعليم شائع مدمر؛ لأن الوصية العظمى الثانية تقول: “حب قريبك كنفسك”، وهكذا صارت محبة الإنسان لنفسه في المصلوب، وفي المصلوب وحده هي المحبة الحقيقية، وهي ليست كراهية النفس أو الذات كما تعلم.

أتمنى أن تكون رسالتي قد وصلت؛ لأن التيار الشعبي العام يجب أن يتوقف، وأن تصبح خصوصية المسيحية، ونقل الوعي إلى الاتحاد بالرب يسوع هو هدف ما نسميه “العبادة”.

أكرر شكري على أسلوبك النقي، وأرجو أن نستمر في الحوار، والمحبة غالبة لكل ما لدينا لأنها انتصرت على كل أشكال العداوة في يسوع المسيح ربنا الذي فيه أُرسل لك تحية الاحترام والمحبة الأبدية.

دكتور

جورج حبيب بباوي

التعليقات

9 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة