الثالوث القدوس – ممارسة أبدية – 3
السبت 3 يناير كان لقاءً هاماً مع الأخ سامي. لا زال يصارع داخلياً فكرة قديمة، وهي أن الجوهر والأقانيم الثلاثة موضوع معقَّد لا يمكن فهمه، ولا يجب أن يصبح فكرنا الإنساني عن الله معقداً بهذا الشكل.
سامي: لماذا التعقيد في موضوع هام، وهو الله. ألا يكفي أن الله واحد؟
جورج: أي علاقة حقيقية هي علاقة معقدة، وأي علاقة سطحية هي علاقة -حسب الرأي السائد- علاقة بسيطة. مثلاً، قبل الخطوبة كانت العلاقة عسل، وصارت أحلى بعد الخطوبة، ولكن بعد شهر أو ربما أكثر، دخلت العلاقة في الواقع الإنساني: اختلاف المزاج – العادات – والرغبات – والآمال، وأصبحت العلاقة تحتاج إلى بذل وفهم وتضحية وحكمة. وكلنا بعد الزواج بأيام قد تطول أو تقصر، اكتشفنا بسبب الشركة خفايا لم نكن نعرفها.
علاقتنا بالله الواحد علاقة لفظية سطحية. هو واحد وهذا حق يمنع الوثنية، ولكن بعد ذلك ماذا بعد تجاوز الوثنية؟ ما هو التقدم الذي نحصل عليه من توحيد بلا ثالوث؟
سامي: أظن، أن تجنب الوثنية -كما ذكرت- هام وضروري. ولكن لماذا يجب أن تنمو العلاقة إلى ما هو أكثر من ذلك؟
جورج: الله ليس موضوعاً سلبياً. نحاول أن نحذِّر الناس من الابتعاد عن شر الوثنية بوضع توحيد سلبي، وهو إنكار وجود الآلهة باسم الواحد. هذا الإنكار جيد، ولكن لا يمكن أن يبني علاقة إيجابية. تأمَّل مثلاً لو قلت إن المصري ليس إنجليزياً، ولا هو أمريكياً وصمت بعد ذلك، ألا تجد أن تراث 5 آلاف سنة من الحضارة، ومن مساهمة مصر، ومن الانتماء لوطن عظيم وقديم، قد ضاعت في ثنايا إنكار مَن هو المصري، بينما تعريف المصري بأنه من شعب بنى حضارة ويسكن في شمال قارة إفريقيا .. الخ يؤكد على مساهمة إيجابية.
سامي: هذا جيد لأنه عن أمثلة من الواقع، ولكن ما هي المساهمة الإيجابية لعقيدة الثالوث؟
جورج: توجد ثلاث مساهمات -إذا جاز القول- لعقيدة الثالوث، أو بالحري استعلان الله كثالوث في حياتنا:
أولاً: استعلان المحبة الثالوثية المتبادلة والشركة لأقانيم الثالوث. المحبة هي حياة الله، ولذلك قال الرسول: “الله محبة”، وأضاف: “مَن لا يعرف المحبة لا يعرف الله”. المحبة داخل الثالوث هي حركة حياة تشبه نبض القلب في الإنسان، طبعاً مع فارق كبير، وهو أن نبض القلب لا يصدر من الإرادة، بل يتوقف في حالات الجلطة. أمَّا المحبة، فهي حركة حياة وحركة إرادية وحركة شركة.
ثانياً: العطاء الإلهي لهذه المحبة، فهو عطاءُ ذات المحبة. نحن نعطي المال والملابس والطعام، وأخيراً في الطب الحديث يوجد من يتبرع بإحدى كليتيه لمريض مصاب بالفشل الكلوي، ولكن لا يمكن لإنسان حي أن يتبرع بقلبه؛ لأن هذا يعني أنه يجب أن يموت حتى يعطي قلبه لآخر، لكن يا سامي، الله يعطي حياته ومحبته لنا دون أن يعاني الموت، بل إذا استطعنا أنت وأنا أن ندرس تدبير الخلاص، يمكننا أن نقول بكل ثقة إن الله أباد الموت الذي فينا وأعطانا القيامة. الله يعطي ذاته، وهي عطية الحياة الأبدية التي تحول الإنسان الترابي من الأرض إلى إنسان سمائي حي إلى الأبد بفضل نعمة الحياة الأبدية التي أُعطيت لنا بالابن في الروح القدس. وسوف نعود إلى هذه النقطة بالذات لاحقاً. لكن يهمني الآن أن أضع أمامك الجانب الثالث.
ثالثاً: أننا نتحول إلى صورة الثالوث نفسه، وهذا هو سبب خلقنا على صورة الله ومثاله. نحن مدعوين إلى أن نحيا حياة إلهية إنسانية مثل حياة الابن المتجسد. أن نصبح مثل الله في المحبة وفي العطاء وفي الشركة، وأن نتشبه بالثالوث.
سامي: لقد أخذتني على غرة. أنت متمكن من إيمانك وأنا إنسانٌ حديث الإيمان. يا أخي هذه الموضوعات الثلاثة تحتاج لوقت للدراسة، لا يجب أن تباغت إنساناً غير مستعد مثلي.
جورج: يا أخي نحن لسنا في حلبة مصارعة يجب أن تنتهي بفوز واحد وهزيمة الآخر. نحن نسير معاً لاكتشاف أعظم استعلان أُعطيَ للإنسانية، وهو حياة الله. أو الله كما يحيا حياته الإلهية، وهي حياة الآب والابن والروح القدس.
سامي: طيب. لازم نرجع لرأس الموضوع، وهو المساهمة الإيجابية.
جورج: جيد جداً. ما أعظم الفرق بين الله كآب، والله كسيد. بين أن تكون أنت ابن، وأن تكون عبد. أيهما أفضل؟ طبعاً بالحس الإنساني الصِّرف ستقول لي الابن هو الأفضل، ولكن هنا أعظم ما يمكن أن يُقال عن الله والإنسان معاً، وهو أن البنوة ليست رتبة شرفية. الموسيقار عبد الوهاب نال رتبة لواء في الجيش المصري دون أن يكون له أي إلمام بالعلوم العسكرية، هذه مجرد رتبة شرفية. ونحن لسنا أبناء الله مثل اللواء الموسيقار عبد الوهاب، نحن نولد من الله ولادة روحية تنقل كياننا الإنساني الترابي إلى كيان جديد وهنا لا بد أن نقول إن تبني الإنسان يعني أن الله آب وابن معاً. أُبوة في الآب، وبنوة في الابن تجعل تبني الإنسان حقيقة معاشة أبدية حية. وتحول صلاتنا من صلاة العبيد إلى صلاة الأبناء، ولذلك علَّمنا الرب يسوع الصلاة الربانية: “أبانا الذي في السموات”؛ لأنه جاء وأعلن لنا أُبوة الله كأب له ولنا. هل يمكن أن يعطى الإنسان التبني إذا كان الله واحداً فقط؟
سامي: طبعاً ممكن. لأن أي إنسان ممكن كإنسان واحد يتبنى أي طفل أو طفلة.
جورج: هذا صحيح، ولكن أنت نسيت نقطة هامة، وهي أن الطفل ليس ابناً حقيقياً من زرع الأب ومن رحم الأم. أما نحن، فإن بنوتنا هي من الله نفسه، هي ليست انتساب، ولا هي لفظ بلا كيان حقيقي. نحن أولاد الله؛ لأننا نولد من الله. ومثال الولادة هي ولادة الابن من الآب.
سامي: أنت تعرف مقدار الحساسية اللي عندي من كلمة ولادة الابن من الآب؛ لأن هذا يشبه إلى حد كبير الحياة الإنسانية.
جورج: العكس هو الحق، وهو أن الحياة الإنسانية تشبه حياة الله، وليس العكس، بدليل: مَن هو خالق الانسان؟ أليس هو الله؟ فإذا كان الله خالق الكل قد وضع الأبوة والبنوة فينا لأنها أصلاً كائنة في الله، فما هي المشكلة؟
سامي: المشكلة يا سيدي هي أن الله صار مثل الإنسان.
جورج: العكس صحيح، وهو أن الإنسان مدعو لأن يصير مثل الله؛ لأن الإنسان خُلق على صورة الله ومثاله كما ذكر سفر التكوين (1 : 26). نحن مدعوين للتشبه بالله. وقد جاء التدبير الخاص بالخلاص وتجسد الابن ربنا يسوع المسيح، فصار الإله المتأنس، فقد قابلنا في منتصف الطريق كما قال القديس اثناسيوس في كتابٍ أرجو أن تدرسه بعناية، وهو تجسد الكلمة. جاء وتجسد لكي يعلن لنا حقيقة الله وحقيقة الانسان معاً في شخص واحد.
سامي: عاوز أرجع لرأس الموضوع، وهو أنت ترى أن الثالوث أعلن لنا التبني، وأن التبني حقيقة إلهية كائنة في الله في ابن الله وهو ابن الآب. هل أنا فهمت كلامك؟
جورج: نعم. وأنت محاور بارع. لكن يجب أن نعود إلى الموضوعات الثلاثة التي أشرت إليها، وهي: المحبة حركة حياة إرادية في الله – العطاء الإلهي هو عطاء حياة – التشبه بالله هو غاية خلق الإنسان.
سامي: لقد أضفت بعض كلمات لم تذكرها من قبل، وهي التشبه بالله غاية خلق الإنسان.
جورج: صحيح، معاك حق، أنت صاحي.
سامي: لازم أرجع الشغل. شاكر الغذاء اللي دفعت ثمنه. ياريت كل مرة كده.
جورج: تحت أمرك يا أخي، الطعام هبة من الله الآب والابن والروح القدس.
سامي: يعني حتى الثالوث يتدخل في الغذاء؟
جورج: الثالوث هو حياتي الأبدية، مش الغذاء بس. وانصرفنا على أن نلتقي في موعد يحدده الأخ سامي.