لا تعرف الأرثوذكسية ذلك الاسم الغريب الذي وفد مع الإرساليات: “العشاء الأخير”؛ لأن كل قداس هو عشاءُ الرب، فهو الذي يشكر ويبارك ويقدِّس. وهو الذي يوزِّع جسده على كل المؤمنين. فَعَلَ هذا يوم الخميس الكبير، أو خميس العهد. وقد سبق تقديم جسده ودمه للتلاميذ قبل الصلب والقيامة؛ لأن العطاء والبذل هو عطاءٌ شخصي، أي أقنومي (لا داعي للتستر وراء كلمة شخصي للابتعاد عن أقنوم الابن الكلمة المتجسد).
ولأن العطاءَ الشخصي الذي يكون وليد الأحداث، وتتحكم فيه المصادفات وتدابير البشر، لا يكون عطاءً حراً، بل لا يعدو أن يكون محصلة أو نتيجة لهذه الأحداث؛ لذلك سبق الرب وقدَّم ذاته بذاته تقدمةً حرةً في العلية، وعبَّرَ عن ذلك بكلمات قوية: “شهوةٌ اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم. لأني أقول لكم إني لا آكل منه بعد حتى يكمُل في ملكوت الله، ثم تناول كأساً ..” (لوقا 2: 15-17). فقد اشتهى أن يقدِّم ذاته حسب حريته: “لهذا يحبني الآب لأني أبذل ذاتي (أضع ذاتي) لأخذها أيضاً” (يوحنا 10: 17). أي أنه اشتهى أن يضع محبة الآب في مكانها الصحيح، أي العطاء، مستعلَناً في تقديم الذات، وهكذا وضع ذاته فوق كل الحدود التي نعرفها عن الحياة: “ليس أحد يأخذها مني”، وفوق موانع الموت: “بل أضعها أنا من ذاتي”. وقد شرح ذلك على قدر ما نعرف نحن بكلماتٍ نطقها هو تُعلن شخصه، أي أقنومه المتجسد: “لي سلطان أن أضعها”. ومعلومٌ أنه ليس لأي إنسان -مهما كان- القدرة على أن يقول: “لي سلطان أن أضع حياتي”؛ لأن الحياة تُنتزع منَّا رغم إرادتنا. وعندما أضاف الرب: “ولي سلطان أن آخذها أيضاً. هذه الوصية قبلتها من أبي” (راجع يوحنا 10: 17-18)، فقد أزال كل الحدود التي تقيِّد الحرية.
هنا يخضع الزمان للسلطان الإلهي. وهنا تعبُر المحبةُ كل العوائق؛ لأن البذل الحر، يعود إلى المحبة الحرة. فلا محبة حقيقية بدون حرية.
وبعد قيامته، أكل يسوع مع تلاميذه (أع 10 : 41)، فقد تم الفصح الحقيقي في الملكوت بعد حلول الروح القدس. فبعد أن أكل التلاميذ وشربوا مع الرب طعاماً يؤكد قيامته، في ضوء كلمات الرب نفسه، كان هناك عشاءٌ للرب بعد القيامة، وإلَّا ما معنى الكلمات: “لا آكل منه حتى يكمُل في ملكوت الله” (لوقا 22: 15-17)؟ فقد جاء المعزِّي، وأكمل التدبير.
ولذلك، الذين يحاولون وضع يسوع في قفص التاريخ، يفقدون ما قاله الرب نفسه في (يوحنا 10: 17-18)، فسلطان خالق التاريخ هو الذي يُحرك التاريخ.
الخبز -في الآرامية- هو “لخم” (ل خ م)؛ لأن الكلمة الآرامية تعني أيضاً لحم. كما أن الخمر من عصير العنب الأحمر هو”دما” (د م ا)، أي دم. وعلى ذلك، فلا ازدواجية بين الجسد واللحم، ولا بين الدم والخمر. ولكن الجدل الفلسفي أضاع منَّا هيبة وقوة العطاء؛ لأن يسوع يعطي ذاته خبزاً، والخبز حسب كلمات يسوع: “الخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم” (يوحنا 6: 51)، وحسب الآرامية، الخبزُ = الحياة = جسدي، ولاحظ قوة الكلمات: “الذي أبذله من أجل حياة العالم”؛ لأن العالم لا حياة فيه. ولذلك لا نستغرب -في ارتباطٍ بين الخبز والحياة- أن نقول في مصر عن الخبز: “عيش”!
والبذلُ عطاءٌ لا دخل لخيانة يهوذا، أو كراهية اليهود وبطش الرومان، به، ولا بتقديمه تقدمةً حرةً. والغاية من البذل هنا هو أن يعبر يسوع أكبر مانع، وهو الموت، أي لكي يزيل الموت، فيحيا كل من يأكل هذا الخبز. وبكل يقين يقول الأقنوم: “أنا هو خبز الحياة” (يوحنا 6: 35)، ويشير إلى الآب كما في (يوحنا 10: 17-18)، فهو خبز الله النازل من السماء، من عند الآب الواهب حياةً سمائيةً للعالم، حياة لا تموت.
ولأن يسوع كان يعلِّم في المجمع بعد مناسبة إشباع الخمسة الآلاف (يوحنا 6: 10)، وقد تزامن ذلك مع عيد فصح اليهود، ومعلومٌ أن الاحتفال بنزول المَنْ، كان جانباً هاماً في العيد، لذلك يقول يسوع -لافتاً نظرهم- ولكن بشكل آخر أعظم: “أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء” (يوحنا 6: 32)، فهو “المَنُّ الحقيقي”.
يسوعُ هو الواهب، وهو العطية:
علينا أن نتحاشى السقوط في بئر العصر الوسيط، بئر الثنائيات الذي يفصل بين الواهب يسوع، وبين العطية، أي يسوع نفسه. لا يمكن لأحد أن يعطي يسوع إلَّا يسوع نفسه. هو وحده الذي له سلطانٌ أن يُسلِّم ذاته. وفي وحدانية المحبة والشركة مع الآب، يتم استعلان هذا السلطان في الزمان، ولذلك يعبر الأشخاص، لكن يبقى يسوع وحده، صاحب العطية والواهب.
وتمر الأيام والقرون، ولكن يظل يسوع هو “الخبز الحقيقي”؛ لأن الخبز الذي هو من ثمار الأرض يُشبع الجسد، ولكن “الخبز الحقيقي” السمائي يعطي الروح حياة، وهو لا ينفذ؛ لأن الروح حياةٌ معلَنةٌ بالكلمة: “الكلام الذي أتكلم به هو روح وحياة” (يوحنا 6: 13)، فالروح يُحيي (يوحنا 6: 63)، ولكن الاستعلان بالكلمة ليس بديلاً عن “الخبز الحقيقي”؛ لأن هذه هي ثنائية العصر الوسيط التي دخلت لاهوت عصر الإصلاح، ولا زالت ترتَّل في الاجتماعات.
يسوع، وكلام يسوع هو حياة؛ لأن “يسوع هو الحياة والقيامة”، فكلام يسوع ليس صوتاً مثل أصواتنا، بل هو كلام ابن الله النابع من الحياة، ومن سلطان الخالق. ومايأتي من سلطان الخالق، وحياة الخالق الكلمة ابن الله، يهب الحياة. قال أبونا فليمون المقاري في إحدى المرات: “قل لعازر هلم خارجاً”، وشوف كام واحد هيقوم من الموت ويطلع من القبر. ولكن يسوع لو قال هذا مرة واحدة، فالموت يهرب.
حقاً “الكلام الذي أُكلمكم به هو روح وحياة”؛ لأنه آتٍ من الروح، وهو يفوق كلام الروح الذي أعطاه الروح للأنبياء؛ لأنه كلام يعطي الحياة، وليس للنبوة. كلام يسوع يحمل قوة وحياة يسوع، أمَّا كلامنا نحن، فهو لا يحمل إلَّا ما يجود به الروح من استنارة.
يسوعُ في كل قداسٍ
كمالُ السرِّ هو ما يعلِنه الترتيب الكنسي، حتى عندما يحذف بعض عبارات من قانون الإيمان وصلاة الصلح -في قداس الخميس الكبير- مؤكِّداً في نفس الترتيب، أن هذا هو جسد ودم عمانوئيل إلهنا.
وحتى لا نفقد الوحدة السرية التي تجمع ترتيب الخلاص أو الايكونوميا؛ فإن الخميس الكبير وجمعة الصلبوت والسبت العظيم، أي سبت النور، وأحد القيامة، وإن بدت لنا أحداثٌ متعاقبة، إلَّا أن الشخصَ أو الأقنوم واحدٌ، وهو يسوع رب المجد والحياة. هذا الترتيب ضروري، ولكن الجسد والدم واحد؛ لأن يسوع لا يمكن أن ينقسم.
هو يأتي في كل قداس لكي يوزِّع حياته علينا. يُوزَّعُ حملُ الله ولا يُستهلَك. يؤكل ولا ينتهي. يُعطى لكي يبقى فينا. يُبذَل لكي يحرِّر. يقدَّم لكي تدوم المحبة.
يسوعُ يا حمل الله، يا مَن نقلتَ عنَّا الموتَ والدينونة، انقل فكرنا المقيَّد بالموت وبالزمان إلى ما هو فوق الموت، أي الحياة، وإلى ما هو فوق الزمان، أي تدبير محبتك الأزلية السابقة على خلق العالم (أفسس 1: 3). لك المجد الدائم إلى الأبد آمين.
د. جورج حبيب بباوي
10 إبريل 2014