حقوق الإنسان، ليست فقط حقوقاً مدنيةً، بل هي حقٌ إلهيٌ في الأساس
الحقوق التي تُعطى كمنحة من إنسانٍ لآخرين – مهما كانت مكانة المانح – هي في الحقيقة إنكارٌ تام للمساواة بين البشر، وحفرٌ لبئرٍ عميقة تسقط فيه أعظم هبات الله، وهي حرية الاختيار.
وقد رصد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أهم ما رآه هؤلاء الذين اجتمعوا تحت سقف الأمم المتحدة في 10 ديسمبر عام 1948 ضرورياً من حقوق. وقد حاول هؤلاء الإبتعاد عن إرهاصات الأديان بسبب تنوع لغات ومبادئ الأديان المختلفة، ولذلك أطلقوا عليها Human Rights ولكن فات على مَن يدافعون عن حقوق الإنسان، أو حتى عن الذين يحاربونها أن اليهودية والمسيحية يصفان الإنسان بأنه “صورة الله ومثاله”، وفي الإسلام يصف القرآن الإنسان بأنه “خليفة الله في الأرض”، وهو صدى قوي للمزمور الثامن.
الحق في المسكن – الحق في التعليم – حرية الاعتقاد .. الخ، كل هذه الحقوق جاءت لتقول إن حديث: “الناس كأسنان المُشط”، هو استعارة لتأكيد المساواة (مع ملاحظة أن كلمة مُشط هي كلمة هيروغليفية، قبطية بعد ذلك).
ولكن من الجدير بالملاحظة، أن دولةً إسلاميةً واحدةً لم تضع توقيعها على وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بدعوى أن الإنسان ليس له حقوق، وإنما عليه واجبات فقط.
وكان للأب متى المسكين عبارة تناقلها رهبان الدير، وسمعتها منه في حوار امتد ثلاث ساعات في عام 1988 في مقره في الكيلو 70 .. قال الأب متى المسكين إن العلاقة بين الحقوق والواجبات هي علاقة جدلية Dialectical ونطق الكلمة بالإنجليزية، ثم أردف ليقول: إن الحق هو مسئولية الجماعة، والواجب هو مسئولية الفرد. الجماعة يجب أن تحفظ حق كل إنسان، وفي حفظ كل حق تتأسَّس أرضية الواجبات. الحق مستمدٌ من حياة الجماعة ليصبح واجباً. هكذا استمر الحوار حول الحقوق الإلهية للإنسان في المسيح. وكان كتاب “الخليقة الجديدة” قد أثار زوبعةً، ولكن كان الأب متى المسكين – كعادته – مثل صخرةٍ صلبةٍ لا يمكن أن تتزحزح.
أين هو الحق الإلهي للإنسان المسيحي؟
أين هو الحق الإنساني في هذا المجتمع الذي تحيا فيه كنيسة مصر، والذي نتنفس هوائه، ونتفاعل فيه مع كل ما يحدث فيه من رِدةٍ وتقدم، من قهرٍ وحرية، من تعذيبٍ، وأحكام عادلة للقضاء المصري، من شدةٍ وهزيمة وانتصار؟
أليست هذه هي بعض ملامح حياتنا في مصر؟
أوَليس من هذه الملامح عبادة الزعيم؟ هل تذكرون ما حدث بعد خطاب تنحي الرئيس عبد الناصر في 67، وهل تذكرون ما حدث عند وفاة الرئيس في 1970؟ إن تلك الجموع التي خرجت عن ايمانٍ ووفاء، لا تختلف – على الإطلاق – عن الجموع التي شيَّعت الأنبا شنودة، والتي راح ضحية زحفها هذا – رسمياً – خمسةُ قتلى.
كيف يمكن للحرية الشخصية أن تولد في مجتمعٍ يتعلم فيه الإنسان كيف يتبع، لا كيف يفكر؟ أذكر أنني لخصت أحد الفروق بين دولة ديموقراطية، وأخرى من دول العالم الثالث لأحد القيادات السياسية، فقلت له:
- في الدول الديموقراطية، الجيش والشرطة يحميان الشعب.
- أمَّا في دول العالم الثالث التي تدَّعي الديموقراطية، الجيش والشرطة يحميان نظام الحكم من الشعب .. فنظر إليَّ الرجل في دهشةٍ، عندئذٍ قلت له يجب أن نبدأ بالتعليم في المدارس الإبتدائية والثانوية قبل التعليم الجامعي .. يجب أن نتعلم كيف يجب أن نفكر.
للذكرى، عندما حاولت اقناع إحدى دور النشر المصرية بنشر ترجمة عربية لكتاب الباحث الانجليزي David Brown بعنوان “آليات الإغراء وغسل المخ”، لم ينل الكتاب موافقة الرقابة، بل وتم مصادرة النسخة الانجليزية لكتاب وضعه المؤلف عن تجربة الحرب الثقافية والإعلامية التي شنَّها الحلفاء على النازية، وبعد وفاة المؤلف لم تصدر طبعات جديدة لكي يموت الكتاب ويمحوه النسيان.
كيف نعلِّم الإنسان أن يفكر، وأن يترك وسائل “تحنيط الفكر” من “حفظٍ، وتلقين”، وهذه هي عبارة البرتو مورافيا الكاتب الإيطالي عن الثورة الثقافية للصين تحت قيادة ماو تسي تونج، فقد حفظ الشباب عبارات لا تسمح لهم بالتفكير، مما أدَّى بهم إلى تحنيط الذاكرة، فلا تفتش عن المعاني.
ويمكن أن أسوق مثالاً على ذلك من حياتنا القبطية، فقد كنت في زيارة لأحد الأديرة، ودار حوار مع أحد الرهبان عن معنى عبارة نرددها في القداس الإلهي، وهي: “وصالح الشعب مع الشعوب والنفس مع الجسد”، فَرَدَّ عليَّ الراهب: “أنا استلمتها كده”. بينما مصالحة الشعب (اليهود) مع الشعوب (الأمم) سهلة يدركها كل من تعلم الليتورجية؛ وهي خلاصة الأسفار (لأنه هو المسيح سلامنا الذي جعل الاثنين واحداً ونقض حائط السياج المتوسط (الذي يمنع الأمم من دخول هيكل سليمان) أي العداوة … صانعاً سلاماً) (أفسس 2: 14 – 16).
أمَّا مصالحة النفس مع الجسد، فلها تاريخٌ سجَّلته أدبيات النسك القبطي بالذات؛ لأن هذه المصالحة هي غاية الحياة النسكية، أي حياة التمرين الرياضي الروحي، وهو الاسم القبطي اليوناني للبرية: “اسقيط” من الكلمة اليونانية άσκέω وتعني تعلُّم الرياضة لضبط النفس والجسد. وخلاصة القول هو أن الرب نزع شوكة الفناء التي كانت تهدد الإنسان، وأعطى الخلود للنفس والجسد معاً، فخلق في نفسه “الإنسان الجديد” (أفسس 2: 15)، وهو الإنسان الذي تحتوي فيه النفس كل أعضاء الجسد، فيصبح الجسد روحانياً([1]).
إعادة انتاج عصر الأنبا شنودة الثالث:
تلك هي رغبة الذين يتمسكون بكل حيلة عقلية ممكنة، وتحت أسماء مختلفة للدفاع عن لائحة 1957 وعدم تعديلها، في حين أن هذه اللائحة، هي أو غيرها لا تحتاج لأن تدخل إلى مجلس الشعب؛ لأنها ليست قانوناً، بل لائحةً يصدِّق عليها رئيس الجمهورية، وهذا هو الوضع الدستوري والقانوني الثابت، فلا حجة بالمرة لمن يتذرع بأن الوضع الحالي تحت قيادة الإخوان لبرلمان مصر لا يسمح بالمرة بعرض لائحة جديدة على مجلس الشعب. هذا القول يصدر إمَّا عن جهلٍ، يقال عن خوف كعادة القبطي الحذر المتوجس خيفةً من المستقبل (عقدة الحاكم بأمر الله الفاطمي)، أو عن معرفة بغرض الإبقاء على هذه اللائحة لكي يجيء من يجيء من زمرة أهل الثقة لإعادة انتاج عصر الأنبا شنودة الثالث، والذي يتمثل في: تعطيل لائحة المجمع المقدس – عدم تفعيل المجلس الملي العام – الإنفراد بالقيادة – الإمساك بالزعامة السياسية للأقباط، والتي بدأت ملامحها تظهر في تجديد عقوبة من يزور القدس.
وزيارة القدس لا علاقة لها بالإيمان، ولا بالسرائر الكنسية، فهي ليست هرطقة تمنع من التناول؛ لأن المنع من التناول – في مثل هذه الحالات – هو تطاولٌ على المسيح وعلى جسده ودمه، وهو استبدادٌ كهنوتي لا علاقة له بالكهنوت. فقط الهرطقة، والارتداد عن الإيمان وارتكاب جرائم علنية يعاقِب عليها القانون، هي التي تمنع من التناول حتى يرجع المهرطق عن غيه، أو يعود المرتد إلى رشده، أو يثوب المجرم إلى صوابه. أمَّا استغلال سر الشركة في موضوعٍ سياسيٍ بحت، فهو إشارة واضحة إلى أن النية ثابتةٌ لإعادة انتاج عصر الأنبا شنودة، تماماً كما يحاول السلفيون إعادة انتاج مجتمع الجزيرة العربية في القرنين السابع والثامن الميلادي (الأول والثاني الهجريان)، ويا قلبي لا تحزن؛ لأن الوباء الذي دخل حياة مصر والوطن، ليس قاصراً على بعض شركاء الوطن.
على القناة المصرية في تليفزيون مصر سمعنا الكثير الذي بعث فينا الرجاء في عبور الوطن إلى الحداثة، ولكن بقي أيضاً رجاؤنا في أن تعبر الكنيسة أيضاً إلى الحداثة، ونرى أن ذلك سهلٌ ميسور، إذا وضعنا أمامنا ما يأتي:
ضرورة وحتمية عودة الوحدة المفقودة بين الشعب والإكليروس، والدرس الكنسي يقدمه لنا القديس بولس من خلال رسائله التي يخاطب فيها الكنيسة كلها: “كنيسة الله التي في كورنثوس” (1 كور 1: 2 – 2كور 1: 1 – غلاطية 1: 2)، أو رسائله التي يوجهها إلى “جميع القديسين” كما في باقي الرسائل مثل أفسس 1:1، وفيلبي 1: 1.
“لا يطلب أحدٌ ما هو لنفسه، بل كل واحدٍ ما هو للآخر” (1 كور 10: 24)، هذا هو نداء الرسول الذي صَمَمنا آذاننا عنه؛ لأننا لا نريد أن نسمع باقي كلامه عن الكنيسة الجسد الواحد، أي جسد المسيح؛ إذ لا يوجد جسد يمكن أن يقال عنه إنه جسدٌ واحدٌ، إلاَّ جسد المسيح، وهو الكنيسة: “أما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفراداً” (1 كو 12: 27).
ماذا حدث لجسد المسيح في كنيسة خماروية عندما قطع أسقفٌ سبعةً من الخدام، خرج أحدهم يهاجم كل شيء في الكنيسة؛ لأننا جميعاً تركناه وحده. الأخطر من ذلك هو أن شعب الكنيسة لم يقف مع هؤلاء الأخوة، ولم يقل للأسقف إن هذا “الحرمان” يرتد على رأسه، ولم يُحاكَم الأسقف؛ لأنه من أهل الثقة، ولم يعتذر للأخوة الذين طردهم؛ لأن كهنوت هذا الأسقف ليس هو كهنوت المسيح؛ لأنه لم يذهب وراء هذا الذي جرحه مثل الراعي الصالح، بل تركه يموت روحياً، في الوقت الذي ظل فيه هذا الأسقف الجزار حراً يمارس عمله، وكأنه لم يرتكب جريمةً نكراء.
ماذا يقول الراعي الصالح بولس تلميذ الراعي الصالح يسوع المسيح: “بالأولى أعضاء الجسد التي تظهر أضعف هي ضرورية”، ولاحظ عزيزي القارئ: “وأعضاء الجسد التي تُحسَب أنها بلا كرامة، نعطيها كرامةً أفضل”. أليست هذه دينونة علينا؟ “والأعضاء القبيحة فينا لها جمالٌ أفضل” (1 كو 12: 22 – 23). ولكن هذا العصر هو عصر التشهير، وعصر محاكمات كنسية لا تمس الجزارين، بل تحز رقاب الخراف، فهل يمكن بعد ما عشناه ورأيناه أن نقول إننا نعيش خارج كابول أو قندهار؟ ألسنا نعيش ذات الظروف، وإنْ تحت سلطةٍ كهنوتيةٍ مزيفةٍ لا علاقة لها بكهنوت المسيح؟ ألم يزل هؤلاء القندهاريون والطالبانيون يتمسكون بما مضى، حفظاً لكرامةٍ زائفةٍ صنعها شعبٌ رضي بالخنوع والصمت على الذبح المعنوي بسلطانٍ لا علاقة له بالمسيح؛ لأن المسيح لم يكن جزاراً، بل كان “الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف” (يوحنا 10: 1 – 14)؟
شتَّان بين الأجير، الذي قال عنه ذهبي الفم: “ليس كل من يُسام للكهنوت قد نال الكهنوت من الله” (العظة 2 على الرسالة الثانية لتيموثاوس)، وبين الكاهن الحقيقي الراعي الصالح.
ومع أن رحمة الله تعمل في كل الذين دخلوا الكهنوت، ولكنها، أي رحمة الله ليست هي مصدر استبداد هؤلاء الجزارين.
الذين كتبوا إليَّ شخصياً، أو على موقع الدراسات القبطية، وقالوا لي: “مفيش فايدة”، أقول لهم: “نعم، قد لا توجد هناك فائدة، ولكن ادرسوا “حركة كفاية” وسائر الحركات الثورية في مصر ولاحظوا ماذا فعلت؟ صحيح أن انتكاسةً ظاهرةً بكل وضوح حدثت للثورة، ولكن شعب مصر هو ذات شعب مصر قبل وبعد 25 يناير، ولنتعلم من تجربة الوطن كيف يكون في داخل المؤسسة الكنسية تنظيماً مسيحياً بلا برنامج سياسي، تماماً كما حدث مع بداية مدارس الأحد في الخمسينيات التي حاربها الإكليروس، ولكنها لم تهزم .. ولنا عودة.
([1]) التمييز بين النفس والروح في صلواتنا ليس له علاقة بثلاثية الكيان عند فلاسفة اليونان، أي ثلاثية الجسد والنفس والروح، بل النفس هي النشاط العقلي الجسماني مثل نشاط المخيلة كما هو أيضاً الانفعالات والعواطف التي تعبر بسرعة بينما تبقى الروح الوجود الإنساني الذي لا يتأثر بالميول والعواطف والخيالات بل يملك حرية الإختيار لرفضها.