كلمة لابد منها:
منذ أن كتب القديس ايريناوس كتابه المشهور “ضد الهرطقات”، وهو خاصٌّ بتعاليم الغنوصيين، وصراع الكنيسة الجامعة مع الغنوصية لم يتوقف عبر عصور تاريخ الكنيسة. فقد أفرزت مدارس الغنوصية الأريوسية، ثم الأبولينارية، وبعدها النسطورية. ويمثِّل أوطاخي فرعاً غنوصياً لخصَّ كراهية الجسد بإنكار إنسانية ربنا يسوع له المجد. لكن عندما انعدمت دراسة التاريخ الكنسي، وتوقَّفت عند سرد قصص البطولات، وانعدم الإفراز أو التمييز، كدنا ننسى التعليم المسيحي الأصيل الخاص بالخلق من العدم.
لم يصدر بعد في مصر دراسة كاملة عن الإنسان صورة الله ومثاله (تكوين 1: 27). مَن يدرس كتاب تجسد الكلمة للقديس أثناسيوس الرسولي، يجد في بداية الكتاب أن أساس فداء الإنسان قائمٌ على حقيقة محبة الله وصلاحه؛ لأنه خلق الإنسان بنعمةٍ خاصةٍ، وهي شركة الإنسان في اللوغوس الله الكلمة. ولم ننشر بعد، دراسة عن أصول وعمل هذه الشركة التي جعلت من تجسد الكلمة، الدواء الوحيد لإنقاذ الصورة الإلهية التي تلطَّخت، وذلك بحضور الكلمة نفسه؛ لكي ينقل من ملامحه ما يجدِّد الصورة التي لُطِّخت، وهو واحد من أعظم الأمثلة أو التشبيهات التي قدَّمها القديس أثناسيوس في تجسد الكلمة (الفصل 14).
محور الصراع ضد كل مدارس الغنوصية:
أولاً: الخلق من العدم هو تعليم المسيحية الأرثوذكسية؛ لأن الإنسان وهو كائن الله المفضَّل وصاحب الحظوة لدى الله، جاء من لا شيء. يؤكد ذلك قُداسنا الغريغوري: “مما لم يكن”، لكن ذلك الكيان له تصميم أو صورة في تدبير الله سابقة على خلق الإنسان، وهي كما يقول الرب نفسه لأرميا النبي: “كانت كلمة الرب إليَّ قائلاً “قبلما صورتك في البطن عرفتك” (1: 4).
لم يكن أرميا معروفاً كفكرة، بل حسب صورة يقول عنها المزمور: “نسجتني في بطن أمي” (139: 13)، ويضيف “رأت عيناك أعضائي، وفي سِفرك كلها كُتبت يوم تصوَّرت، إذ لم يكن واحد منها” (139: 16). وهكذا تمت الرؤيا بمجيء الكلمة نفسه متجسداً؛ لأن الله كشف لنا أننا خُلقنا لنكون “مشابهين صورة ابنه ليكون هو بكراً بين إخوة كثيرين” (رو 8: 29)، ولأننا خُلقنا حسب صورة الكلمة نفسه، جاء الكلمة وتجسَّد لكي يعلن لنا أن هذه الصورة هي صورته هو في استعلانها الأخير عندما يتجسَّد. ولذلك، سبق رسول المسيح بولس كل ما يقال عن خلق الإنسان، فهتف بالشكر مؤكِّداً أن الله الآب اختارنا في المسيح قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم ..” (أفسس 1: 4)، بل يؤكِّد أن هذا الاختيار الذي تم في الابن قبل خلقنا، أي قبل ظهورنا على الأرض “سبق فعيننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة ارادته” (أفسس 1: 5).
وعندما نعود إلى اختيار الله لنا، وإلى تلك الصورة السابقة على الزمان، على خلق العالم، ندرك أننا يجب أن نكون أحراراً من أركان العالم” (كولوسي 2: 20)، وهو لا يقصد بها النظم والنظريات، بل الأصل البيولوجي الترابي للإنسان.
وقبل خلق الكون وكل ما فيه، الكون الذي خلقه اللوغوس، وهو صورة الله الأزلية، والذي به، والأهم له قد خُلقت الخليقة (كولوسي 1: 16)، ندرك أننا لسنا إزاء مشروع وُلِدَ في زماننا المخلوق مع الأيام الستة الأولى، بل هو مشروع له الجذور والأصول الأبدية.
لم تحرِّك أحداثُ التاريخ الإرادة الإلهية؛ لكي يأتي عمل الله كرد فعل على سقوط الإنسان، أو استمرار الإنسان في الشر. الله دائماً هو محرِّك التاريخ … “السماء والأرض منذ القديم قائمة بكلمة الله” (2بط 3: 6) لأن القدرة الخالقة التي يعبِّر عنها الكتاب المقدس بكلمة الله، لم تكن هي الكلمة وحدها، بل نسمة فم الرب، أي الروح القدس (مزمور 33: 6).
لكن وجودنا في تدبير الله السابق على خلق العالم هو امتيازٌ خاصٌّ بالإنسان؛ لأنه هو الذي خَلقَ الله له الأرض، حسبما نسبح ونشكر في القداس الغريغوري، ولأنه مَنَحَ الإنسان صورته. لكن هناك فرقٌ كبير بين مشروع في مسرة الله وفي إرادته، وما يظهر بعد ذلك في الزمان. ويعبِّر الرسول بولس عن هذه الحقيقة تقريباً بنفس كلمات أرميا: “لما سُرَّ الله الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته أن يعلن ابنه فيَّ لأبشر به بين الأمم” (غلا 1: 15). طبعاً، بين اختيار الله، واكتشاف شاول الذي هو بولس لدعوته، اضطهد كنيسة الله بإفراط “من أجل تدمير الانجيل (غلا 1: 13)، وهو ما لا يدخل في مشروع الله، بل هو تصرُّف عبد الشريعة الذي عرف الكراهية. الخطية لم تكن في تدبير الله؛ لأن الله لا يشاء الشر، بل لا يفرح بموت الشرير (حزقيال 18: 32).
هل لنا وجود في الله سابقٌ على خلقنا؟
حسب ما تذكره الأسفار، نعم. ولكن، ذلك الوجود هو مثل صورة في قلب وعقل فنان تحوَّلت في الزمان إلى ألوان وشكل ورسوم، أي صارت لحماً ودماً.
الأريوسية والفادي المخلوق:
لا يوجد لدينا دراسة موسَّعة للمقالات الأربع ضد الأريوسيين للقديس أثناسيوس. ولكن ما جاء في التدبير من تجديد ورد الصورة الإلهية للإنسان هو عمل الفادي والمخلص الله الكلمة. أُلوهية المخلِّص مستَعلَنةٌ في ناسوته، وتدبير الخلاص سابق على خلق العالم. هذه نقطة فاصلة بين الأرثوذكسية والأريوسية. لم تتغير إرادة الخالق بسبب سقوط آدم؛ لأن هذا يتضمن شبه قناعة بأن الله كان لا يعرف مصير الإنسان. وهذا جهلٌ لا يجب أن يُنسَب إلى الخالق. الإرادة الأبدية هي تلك الإرادة التي خَلَقَت لتفتدي، وفي العبرانية “الخالق” هو “البارئ”، أي المخلِّص أيضاً؛ لأن الفعل “خَلَقَ أو ب ر أ” دخل العهد الجديد باسم آخر هو “الخلقة الجديدة”، وهو الوعد الإلهي النبوي في (أشعياء 65: 17) والذي أكَّده سفر الرؤيا (21: 1) خلقٌ جديد لفداء القديم.
ما استُعلِن في حياة الرب المتجسِّد هو في عبارة المخلص عن تجديد وفداء الكون والانسان: “الآن (في تلك الحقبة من التدبير وهو على الأرض) مجِّدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل خلق أو كون العالم” (يوحنا 17: 15). ولذلك، يتابع الرب قوله: “وأنا قد أعطيتهم الذي أعطيتني ليكونوا واحداً هم أيضاً واحداً فينا” (17: 21).
الحياة الأبدية هي ذلك المجد: “الحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا” (1يوحنا 1: 2)، وقد أُظهرت لكي يكون لنا “شركة مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح” (1يوحنا 1: 3). الحياة الأبدية هي حياة الابن؛ لأنه “كما أن الآب له حياة في ذاته كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته” (يوحنا 5: 26). وعندما يقول الرب إنه هو “القيامة والحياة” (يوحنا 11: 15)، فهو يؤكد لنا أن هذه هي الحياة الغالبة الموت.
عندما حاصرت الأريوسية أعمال الرب الخلاصية في الزمان، جعلت من المخلص مخلوقاً، له فقط، كرامة واسم الرب بلا أُلوهة حقيقية، ولذلك كان رد المجمع المسكوني الأول 325 “إلهٌ حق من إلهٍ حق”، ولذلك، أبدية الإرادة وأبدية الحياة المستعلَنة في الزمان، لا تجعل الزمان هو سبب استعلانها، والمؤسِّس لها.
نحن في المسيح قبل الزمان، ويلتقي الوعي الزماني للإنسان بالإرادة الأبدية، تلك هي رؤية الراهب المقاري.
والحرمان من المسيح هو جهنم، وهو ما ينكره الراهب.
والتناول قبل خلق العالم له معنى واحد فقط، وهو اتحاد الإرادة الإنسانية بالتدبير الأبدي. وهو عودة الأنا والوعي، لا إلى زمان أو مكان، بل إلى الحياة الأبدية التي وَعَدَ الربُّ بها كل مَن يتناول جسده ودمه؛ لأن التناول هو استعلان هذه الحياة الأبدية السابقة على خلق العالم، بل وعلى القداسات كلها.
وحصار التناول في الزمان والمكان وحده، هو الوعي الإنساني البيولوجي الضيِّق الذي لم ينل الاستنارة من الروح القدس. لم يكن لأيٍّ منا -سوى الرسل الأطهار- وجودٌ في العلية يوم خميس الإفخارستيا، ولكن كان هناك الذي جاء لكي نعرف سر إرادة الآب التي قصدها “لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شيء في المسيح ما في السموات وما على الأرض في ذاك -يسوع المسيح ربنا- الذي فيه نلنا نصيباً -في تدبير الله- معينين سابقاً -قبل خلق الكون- حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي إرادته لنكون لمدح مجده …” (أفسس 1: 9-10).
طبعاً غفران الخطايا والتجديد -حسب غنى نعمة الله- هو عمل أبدي في الزمان، ولكن ذلك كان هو السر الخفي المستعلن.
عندما نقف عند مذبح رب القوات ونسمع خادم السر يصلي “المجمع”، ثم ترتيل الشماس ومرد الشعب: “بركتهم المقدسة ..”، ما هو الترتيب اللاهوتي وراء هذه الممارسة؟ هو وحدة جسد الرب الكنيسة. هو تناولنا ذات السر وذات الطعام الإلهي الذي أخذوه. والذين لم يكونوا في علية خميس العهد من قديسي العهد القديم، مثل ذاك الذي ذاق الإفخارستيا بشكل نبوي حقيقي: “أخذ جمرة بملقط”؛ لأن خدمة السيرافيم ليست للإفخارستيا، فهي خدمة رئيس الكهنة يسوع: “ومسَّ بها فم النبي وقال “إن هذه قد مست شفتيك –لاحظ- فانتُزِعَ إثمك وكُفِّرَ عن خطيتك” (اش 6: 6-7).
إن ما يحدث في القلب من وعي ليس خيالاً، بل هو عودة إلى العطية الأبدية التي حُفِظَت لنا في يسوع المسيح، كائنة منذ الأبد ومستعلَنة في الدهور.
يقول الرب “إن مَن نظر إلى امرأةٍ، فقد زنى بها في قلبه”، وهو حكمٌ بالزنى على كل رجل مهما كان، فهل خطية القلب هي خيالٌ فقط، أم أنها طلب الشر؟ ويسكن الشر في القلب لكي يخرج من القلب، ويتنجس الإنسان، حسب قول الرب يسوع في (مرقس 7: 22)، فاذا كان الشر قادراً على أن ينجِّس الإنسان، فماذا يفعل الخير؟ يقول الرب: “الإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يُخرج الصلاح” (لوقا 6: 45)، فهل إن اشتهى الإنسانُ شيئاً صالحاً، لا يؤهَّل القلب إلى نواله؟
إن الذين تحرروا من سيطرة الشريعة ويعيشون حسب الروح المعزي روح الحق، يعرفون أن ذلك حق.
أبدية عطاء الإفخارستيا:
حسب تدبير الله الآب، لم يكن للذبائح الدموية قدرة على أن تحرر الإنسان من الموت، ولكن كان الروح الأزلي الذي به قدَّم يسوع دمه حسب (عب 8: 14)، هو الذي في تدبير الله، دمُ المسيح المعروف قبل تأسيس العالم (2بط 1: 19-20)، وهو قبل خلق الزمان، كشف أبدية التدبير بانه عند تجسده أو عند “دخوله إلى العالم يقول -للآب عن ذبائح الشريعة- إن الآب لم يُسر بها، ثم يقول الابن: مكتوب عني لأفعل مشيئتك يا الله” (عب 10: 5-7)، ولذلك، سبق العطاءُ العليةَ والجلجثةَ؛ لأن الابن “فيه الحياة”، وهذه الحياة هي نور البشر (يوحنا 1: 4)، ويكشف لنا الرب عن ذلك بقوله: “أنا هو نور العالم ..”، والذي يتبع الرب “يكون له نور الحياة” (يوحنا 8: 12)، ومن آمن بي ولو مات فسيحيا، بل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد (يوحنا 11: 25-26). ولذلك، ما هو فوق الزمان، هو طلب تلك الجمرة في صلاة القسمة لقداس مارمرقس: “اعطنا هذه الجمرة الحقيقية المعطية الحياة للنفس والجسد والروح”.
استعلان الثالوث يبدأ: “مجداً وإكراماً للثالوث القدوس”، وهو استعلانُ الابن الذي “يُظهِر وجهه على الخبز والخمر”، يُستعلَن لنا، بل في تأكيدٍ على أبدية التدبير: “ووضع لنا هذا السر العظيم الذي للتقوى”، وهي عبارة الرسول في (1تيمو 3: 16) عن سر التقوى الله الذي ظهر في الجسد.
نعود إلى القداس الإلهي بالوعي المستنير بنور التدبير الإلهي؛ لكي نصبح أرادةً واحدةً مع الرب الواهب لنا الحياة الأبدية، وهي هبة تستَعلَن ولا تتكرر، فلا يوجد تكرار لأي عطية، ومن يشرب من الماء، إنما يشرب عندما يعطش، وفعل الشرب متكرر، ولكن الماء هو ذاته الماء.
“الله العظيم الأبدي” في صلاة الصلح، هي وغيرها من العبارات القاطعة بعمل الله الذي نحن فيه قبل أن نتعرف عليه، وعندما نتعرف على أبدية الدعوة، وأبدية العطية، يصبح إيماننا أكثر صلابةً لأننا لسنا بالإيمان نحوِّل إرادة الله لمصلحتنا، بل هي حسب كلمات رسول المسيح للمختارين بمقتضى علم الله السابق في تقديس الروح للطاعة ورشم دم المسيح … “لأننا ولدنا من جديد لميراث محفوظ في السموات (1بط 2-5). والميراث المحفوظ لنا نطلبه حسب استعلان النعمة، حسب كلمات الرب نفسه: “تعالوا إليَّ يا مباركي إبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم” (متى 25: 34).
(يتبع)
د. جورج حبيب بباوي
تعليق واحد
Dear Dr George
Can you please write an essay about the image and the likeness and if it is not suitable for you now ,what do you recommend to read in english
Thank you
Wafik