لم يستقر احترام ووجود الأيقونات في الكنائس إلا بعد صراعٍ طويل دام ما يقرب من 600 سنة مرَّت فيها الكنائس بمحنة محاربة الأيقونات وحرقها بأمر من الإمبراطور لاون الأيسوري (726 – 730)، حتى عُقِدَ مجمع نيقية الثاني، وأيَّد وجود الأيقونات في الكنائس. وكان الأباطرة يرسلون أيقونات لأهم عواصم الإمبراطورية، وكان تكريم هذه الأيقونات بمثابة تأكيد على الولاء للحاكم الروماني. وكان المجمع الذي حضره 350 أسقفًا (إما في عام 783، أو في عام 788)، قد أكَّد التمييز بين الاحترام والعبادة (الأصح الخدمة حسب الأصل اليوناني λατρεια).
بالطبع كانت الوصية الأولى والثانية حاسمتين، ومنع التماثيل أنتج صراعًا في العهد القديم، ربما بدأ بعبادة العجل الذهبي بعد خروج بني إسرائيل من أرض مصر، ويمكننا أن نجد ملامح هذا الصراع ظاهرة في محاولة وجود الآلهة التي أشار إليها الشهيد الأول اسطفانوس في خطابه المشهور في سفر أعمال الرسل 6 – 8.
بالنسبة لنا في مصر، كان الأب دي بورجيه المسئول عن قسم المصريات في متحف اللوفر بباريس، وغيره يعتقدون أن المصريين كانوا يرسمون على جدران الكنائس على النحو الذي شاع في العصر الفرعوني. وهكذا لا يمكن الجزم بوجود أيقونات في الكنائس المصرية، ولعل أقدم أيقونة عاشت هي التي وصلتنا من دير باويط بصعيد مصر والتي يظهر فيها الرب يسوع محيطًا بمار مينا الأسقف، وهي ربما من آثار القرن السادس أو ما قبل ذلك. ولا تزال كنيسة القديس سرجيوس (أبو سرجة) في مصر القديمة تحفظ ما تبقى من رسومات على الأعمدة التي ترفع سقف الكنيسة.
ولعل اختفاء الأيقونات التي رُسِمَت على الخشب يعود إلى ما ذكره كتاب عمل الميرون من أن الأيقونات القديمة كانت تُستخدم كوقود لإنضاج زيت الميرون عند طبخه.
ما هو الفرق بين الأيقونة والتمثال؟
لا يمكن مقارنة فرع من الفنون بآخر. النحت وعمل التماثيل هو فنٌ رفيع لازال بعض ما تبقى من تماثيل الفراعنة يشهد بذلك. لكن الفرق اللاهوتي بين الأيقونة والتمثال واضح من تطور الخدمة الليتورجية المسيحية، فهذه الخدمة هي المائدة الملوكية، التي يجلس فيها الرب يسوع على رأس المائدة، وعن يمين الرب الملكة القديسة العذراء مريم، ثم أكبر الضيوف وهم يوحنا المعمدان والقديسين. هؤلاء هم أعضاءٌ حيَّةٌ في الكنيسة الواحدة التي لم يقسِّمُها الموت ولا الزمان إلى كنيستين، بل هي جسد المسيح الواحد والحي، وهؤلاء الذين رحلوا إلى الحياة “في كورة الأحياء إلى الأبد في أورشليم السمائية”، هم معنا في خدمة القداس الإلهي، وأيقوناتهم تحمل لنا هذه الرسالة، إذ يُقدَّم لهم البخور لأن البخور هو عطر الحياة، ولأن اسم الرب هو “طيبٌ مسكوب” (نش 1: 3)، وهو ما تؤكده الصلاة في أوشية البخور: “أيها المسيح إلهنا العظيم … طيبٌ مسكوبٌ هو اسمك القدوس”، والطيب هو أحد أسماء مسحة الميرون حسب النص القبطي (رسالة الرسل، من مؤلفات القرن الثاني أو الثالث)، ولذلك يُقدَّم بخورٌ أو الطيب المسكوب للرب لاجتماع الكنيسة في كل زمان ومكان. كذلك يُقدَّم البخور للشعب أيضًا؛ لأن الكل حاضر في الوليمة الملوكية.
الأيقونات هي رسمُ وجه Prosopon الشخص أو الأقنوم. وعندما أخذت الكنيسة بفصل الهيكل عن باقي المبنى، دخل حامل الأيقونات بعد انتشار مؤلفات الأريوباغي، صار حضور الأحياء إلى الأبد في أورشليم السمائية أثناء الخدمة الإلهية (القداس) مؤكِّدًا على وحدة السماء والأرض، ووحدة جسد المسيح في السماء وعلى الأرض. هؤلاء حاضرون بالوجه، وهي شركة غير حسيِّة مادية، تعبِّر عن وجودها الأيقونات، لكي يرتفع الإدراك إلى ما هو سمائي بالوعي بحضور الرب يسوع وأمه والقديسين والملائكة.
أما التمثال، فهو تجسيدٌ منظور حسِّي يملأ الوعي بما هو ملموس ومنظور، لاسيما إذا كانت التماثيل بالحجم الطبيعي، أو تفوق الحجم الطبيعي، ولذلك لا مجال للمقارنة بين الأيقونة والتمثال في خصوص شركتنا في الخدمة الليتورجية، الأحياء والمنتقلين.
إضافةً إلى كل ما تقدم، يجب مراعاة المناخ السياسي والديني والاجتماعي السائد في مصر، وأن إقامة تمثال لكل من رحل في ساحة الكنائس، وأن يُقدَّم له البخور، أمرٌ لا يتلائم مع هذا المناخ السائد، ولا الذوق العام، خصوصًا وأن عيونًا أخرى ترى في هذا عودة إلى الوثنية.
إن الالتزام بقرار المجمع المقدس هو التزامٌ مسيحي بالشركة، والخروج على قرار المجمع هو خروجٌ على السلوك المسيحي، يهدم أهم أركان الحياة الأرثوذكسية التي توحِّدنا بالذبيحة الواحدة والرأس الواحد ربنا يسوع المسيح، والجماعة الواحدة الكنيسة الواحدة الوحيدة المقدسة الجامعة الرسولية. لذلك فإن أي قرار منفرد هو بمثابة تعدِّي واضح على مقتضيات هذا السلوك، وهو أمرٌ لا يجب على الشعب أن يشجعه، بل أن يمنعه.
دكتور
جورج حبيب بباوي