لم أندهش على الإطلاق لصدور قرار مجمع الكنيسة القبطية في جلسة الخميس الموافق 28/5/2015 بمنع كتابين، ففي زمن المهاترات اللفظية لا مكان للحوار اللاهوتي، سوى في الإعلام. وهذا ليس جديداً، فمنذ أكثر من أربعين عاماً، درجت القيادات الكنسية على معالجة كل القضايا الخاصة بالحياة الكنسية، إعلامياً، وبقرارٍ عام يخلو من التمييز، ومن صوت التسليم الكنسي.
هكذا عادت الأريوسية الجديدة لتمس رجاءَ رجلٍ تجرَّد من كل شيء، حتى من تاريخ حياته وميلاده وشبابه، وعاش للمسيح. وكان كل ذنب هذا الرجل أنه رأى البُعد الأبدي في اختيارنا السابق على وجودنا، وكيف أن له وجودٌ في إرادة الخالق، وفي إرادة تدبير الخلاص؛ لأن المخلص رب المجد هو الإله الأزلي، الأبدي.
عندما يقول الرسول بولس تلميذ يسوع الأبدي عن المؤمنين، وليس عن فليمون المقاري وحده: “الذين سبق فعرفهم، سبق فعيَّنهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه ليكون هو بكراً بين أخوةٍ كثيرين. والذين سبق فعرفهم، هؤلاء دعاهم، والذين دعاهم فهؤلاء بررهم أيضاً، والذين بررهم فهؤلاء مجَّدهم أيضاً” (رو 8: 29 – 30). أقول عندما يقول الرسول بولس هذا، فإن عدة أسئلةٍ تبدأ تطرح نفسها: ألم يعرفنا الله حقاً قبل أن يخلقنا، أم أنها كانت معرفة خيالية؟
لقد خُلِقَ الكل بواسطة ابنه الكلمة الخالق، وبالتالي كان لنا وجودٌ في إرادة الله، هو وجودٌ حسب معرفة الله، هذا الوجود استُعلِن في الزمان.
ولكن الأريوسية الجديدة تحكم بالزمان على ما هو أبدي، وهو منهجٌ تأصَّل، حتى في الفكر الغربي اللاهوتي، ولكنه لم يدخل التسليم الكنسي بالمرة، بل ظلَّ بعيداً عن الفكر الكاثوليكي، بينما دخل إلى حركة الإصلاح.
هل كانت مشابهة صورة الابن أمراً طارئاً خُلِقَ في الزمان، أم أنه التدبير السابق على الزمان؟ وهل كان الوضوح ينقص إجابة رسول الرب، عندما يقول: “اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين …” (أف 1: 4)؟
هل كان الله يختار أفكاراً، أم أنه كان يختار بشراً؟
ثم ماذا عن “عيَّننا للتبني بيسوع المسيح حسب مسرة إرادته لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب”، أليس هذا هو استعلان الأبدي في الزمان؟
التناول من جسد الرب ودمه -زمانياً- هو استعلان الأبدي في كل قداس. وإذا كانت الأريوسية الجديدة ترى في عشاء الرب حدثاً تاريخياً، فإن القُدَّاسات تقول لها: “فيما هو راسمٌ أن يسلم نفسه عن حياة العالم”، ورسمُ الربِّ هذا لم يكن رسماً حسبَ زمانٍ أو دهرٍ، بل حسب الإرادة الإلهية التي لا يحكمها الزمان المخلوق.
الأريوسية الجديدة لا تفهم أن ما يحدث في التاريخ هو تعبيرٌ عن الإرادة الأبدية؛ لأن أحداث التاريخ لا تنشئُ قراراً إرادياً في الله، بل -حسب الأرثوذكسية- العكس هو الصحيح.
لم يقل فليمون المقاري إنه كان موجوداً بالجسد قبل خلق العالم، بل إنه كان معروفاً عند الله، كان ضمن مشروع الإرادة الإلهية التي ترى كل واحد منا قبل خلقه.
كلٌّ منا، مثل فليمون، وكلٌّ منا يأخذ مكانه في تاريخ جسد الرب، ذلك التدبير الأبدي الذي استُعلِن في الزمان جسداً ودماً وبشراً. وقبل هذا الإعلان كان معروفاً لدى الواهب والعاطي بكل تفاصيل وتركيب وصورة هذا الجسد، وذلك حسب قول المزمور: “لأنك أنت اقتنيتُ كُليتيَّ. نسجتني في بطن أمي” (مز 149: 13). ألم يقل لأرميا: “قبلما صوَّرتُكَ في البطن، عرفتُكَ ..” (أر 1: 4)؟
تُرى، هل وقع مجمع الكنيسة القبطية في الأريوسية؟ أرجو أن تكون الإجابة بالنفي.
ولماذا لم يتعرض المجمع للكتب غير الأرثوذكسية لمطران دمياط، مثل كتاب عقيدة الكفارة، والبحث المقدم منه إلى اللجنة الدولية الأرثوذكسية الشرقية – الأنجليكانية في اكتوبر 2013، والذي ينكر فيه أُلوهية الروح القدس؟
ألا يرى المجمع أن هذه الكتب لا علاقة لها بالعقيدة الأرثوذكسية، أم أنه لا يتعرض إلا للكتب التي يكتب عنها الأنبا بيشوي تقاريره؟ وبما أن الأنبا بيشوي لم يكتب تقريراً ضد هذه الكتب، فهي الحق الصريح، وبالتالي لا يتعرض لها مجمع الكنيسة. طبعاً لن يكتب الأنبا بيشوي تقريراً ضد نفسه، وإنما هي السخرية المرة من الآليات التي يتخذها المجمع لإصدار قراراته المتعلقة بالأمور العقيدية.
لم يقل فليمون المقاري إنه موجودٌ قبل خلق العالم، بل ردَّ على تهديدٍ بأنه حُرِمَ من المسيح. وهذا قاطع في دلالته على أنهم لا يعرفون كيف يقرأون، فيكتفون بما يخطفونه ويبنون عليه قرارات هي بمثابة إدانةٍ لهم، لا عنوان على الحقيقة.
العبارة التي خطفوها: “أنا تناولت قبل خلق العالم”. وعلى ص 7 سألته: كيف تناولت قبل خلق العالم، وأنت لم يكن لك وجودٌ بالمرة؟ وكان رده من أفسس 1: 4. وقال: لم يكن لنا وجودٌ، ولكن كنا مباركين فيه، بل “سبق فعيننا للتبني”. وقال: الوعي ليس أساس العلاقة مع الله، بل المسيح هو الأساس، وهو صخر كل الدهور. أنا وأنت مثل الجنين في بطن الأزل، أي الله نفسه مع ابنه الوحيد، ولكن يبدأ الوعي بالولادة في الزمان.
هل هذا هو ما اعتبره المجمع مخالفة تستدعي القرار الذي اتخذوه؟!!!
إن ما يحدث في الزمان أساسه الأبد. إرادة الابن الوحيد أن يعطي جسده ودمه، سابقة على خميس العهد، حيث يقول رسول الرب: “بهذه الإرادة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع مرة واحدة” (عب 10: 10).
إن ما استُعلِن في العلية وعلى الجلجثة هو ما رُسِمَ أبدياً.
أليس هذا هو ذات التعليم الرسولي بأننا لم نُفتدى بفضةٍ أو ذهب، بل “بدمٍ كريمٍ كما من حملٍ بلا عيبٍ ولا دنسٍ، دمُ المسيحِ معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم، ولكن قد أُظهِرَ في الأزمنة الأخيرة من أجلكم” (1 بط 1: 18 – 19)؟
لماذا تُزوَّر النصوص؟ الجواب: إنما لخدمة الشيطان.
أمَّا المصيبة الأكبر، فهي إن صلواتنا تقول: “بأعمالي ليس لي خلاص” (القطعة الثالثة من صلاة نصف الليل). ومرد الشعب في القداس عن يوم الدينونة: “كرحمتك يا رب وليس كخطايانا”.
فإذا كان ميراث الملكوت يؤخذ بالتوبة، والأعمال الصالحة، فقد أنكر هؤلاء في سخونة حمَّى حشد الاتهامات، عمل نعمة الله. صحيح أن حفظ الوصايا هو تعليم شائع في كل ديانات العالم، لكن الإيمان بالمسيح يسبق حفظ الوصايا. وليس لدينا ميزان أوزوريس، حيث يوزن القلب وينال مَن له أعمال صالحة مكافأةً أكبر؛ لأن قول الرب ثابتٌ: لا تخف أيها القطيع الصغير لأن أباكم قد سُرَّ أن يعطيكم الملكوت”. ولم يكن نداء الرب يسوع بالتوبة في افتتاحية إنجيل مرقس إلَّا وقد أُسس على “آمِنوا بالإنجيل”، أي الخبر السار، عطية الملكوت التي تعطى بلا مقابل.
وغنيٌّ عن البيان، أن الإفراط في طلب معونة أم النور هو انحرافٌ عن مصدر القوة والنعمة الحقيقية، المسيح المخلص؛ لأن العذراء القديسة ليست هي الفادي ولا هي المخلص، وما تحذير الذين يفرطون في ذلك، تاركين الرب والمخلص واسمه القدوس الذي له إبصاليات سبعة، إنما هو تحذيرٌ من راعٍ يعلَمُ مكامنَ الضعفِ، والنظر إليه بأكثر من ذلك لا يعبِّر إلَّا عن سوء طويةٍ لا علاقة له بالتعليم الصحيح.
والسؤال الذي لا بُد منه: هل قام المجمع باتخاذ قراراته هذه بناءً على وثائق، أم اكتفى بالسماع؟ تُرى هل قرأ نيافة الأنبا روفائيل سكرتير المجمع ما ورد في ص 58 من كتاب رسائل أبونا فليمون؟ العبارة التي قُعطت من سياق الخطاب رقم 18 المنشور على ص 58 – 59 لا تنكر شفاعة القديسة مريم بالمرة، بل تقول العكس، فهو يقول أولاً: إن شفاعة القديسين قد أخذت مكان شفاعة المسيح، وهذا خطأ جسيم … الرب هو رأس الجسد … نحن لا ننال الحياة الأبدية من القديسين، وكثيراً ما أقول لزوار الدير قولوا يا رب يسوع وبلاش يا ست يا عدرا.
وبقية العبارة يا صاحب النيافة، هي: “لأن شفاعة القديسين مستمدة من شفاعة الرب يسوع؛ لأنهم معه يطلبون لنا الخلاص الأبدي من الضيقات”.
هل سأل أحد من الـ 115 أسقف الذين حضروا الاجتماع عن النص، أم اكتفوا بأن يعبِّر عنهم صوت مطران دمياط، وارتضوا أن يحل صوته محل أصواتهم؟
كان على أعضاء المجمع الذين يعرفون أن الأنبا بيشوي صاحب باع طويل في تزوير النصوص، وتاريخ ممتد في العبث بالعقيدة، كان عليهم أن يطلبوا الوثائق، لا أن يسلموا بما يمليه عليهم مطران دمياط، فيكتبون بأيديهم إدانتهم.
وثمة مسألةٍ كان على المجمع أن يوليها اهتمامه، أين المجمع من مسألة تهجير الأقباط، والجلسات العرفية التي تعقد ويباع فيها أبناء الكنيسة. أين المجمع من بناء كنيسة بلا صلبان رضوخاً للأهواء؟ لماذا لم يصدر من المجمع حتى مجرد بيان شجب، ولا حتى رسالة مساندة لأقباط سمالوط، يشعرون معها أنهم لا يقفون وحدهم. طبعاً سوف يحل صمت مطبق، وكأن شيئاً لم يحدث، ولكني ها أنا أحذركم من زلزال آت يزحزح سلطانكم الغاشم، الذي لا يؤمن بالخدمة، ولا يعرف البذل، ولا يبحث عن الحق، وإن بحث فإنه يبحث عنه خارج المسيح الذي قال عن نفسه: “أنا الحق”.
يهمنا أن نؤكد على أن أي قرار سلبي لا يحتوي على شرح عقيدي -من التسليم الكنسي- يبرره، إنما هو تحريم ينتمي إلى عمل جماعات الإرهاب، لا إلى مجمع كنسي. وكان الأجدر بمن كتب البند الخامس من قرارات مجمع الكنيسة القبطية أن يوثِّق من التسليم الكنسي، ما يدعيه من مخالفة.
وفي النهاية أقول، إن نشر مقال على شبكة الإنترنت لأحد (حماة الإيمان) عن ذات الموضوعات التي وردت في البند الخامس، المشار إليه، قبل اجتماع المجمع بأسبوع واحد، لهو رسالةٌ تكشف عن أن النية كانت مبيتة لاتخاذ هكذا قرارات، كما تكشف أيضاً بأجلى بيان عن تلك الشبكة التي تحيك المؤامرات، وتنسج تلك الترتيبات لاستغلال المجمع في تصفية حسابات، وتوريطه في اتخاذ قرارات تفتقر إلى الحد الأدني من الدراسة والتمحيص، بينما يخرج المتآمرون من الموضوع كما تخرج الشعرة من العجين، كما نقول في المثل الشعبي.
ألم يحن الوقت لنتعلم؟ ألم يحن الوقت لكي ندرك خطورة ما يحاك لأُم الشهداء في جُنحِ الظلام؟ أليس هناك من عاقلٍ يقرأ خريطة الوقائع، فيكفُّ أخوته عن التمادي في الاستهانة؟
ولنا عودة
دكتور
جورج حبيب بباوي