المعرفةُ أنواعٌ، ولكن الذي يهمُني هنا هو المعرفة العارية عن المحبة .. لأنها في حقيقة الأمر فضول العقل الذي يريد أنْ يدخل إلى أعماق الأشياء، ويتعامل معها بلا حذرٍ. يقول عنها الرسول؛ إنها “تنفخ” (1كو 8: 1)، لأنها معرفةٌ للسيطرة، ومعرفةٌ للسيادة على ما نعرف، وهي تشقُ وتؤسِّس طريق العظمة الباطلة، هي أشبهُ بمعرفة اللص الذي يُريد أنْ يعرف لكي يسرق، ويُريد أنْ يتعلم لكي يُتقِن هذه الرذيلة، وكل ما يعرفه يُسهم في نمو هذا الشَّر في قلبه.
الثالوث فرح الخليقة الجديدة
التعليقات
مواضيع ذات صلة
Related Posts
- الخليقة الجديدة في المسيح يسوع
أتشرف بأن أقدم لك أيها القارئ العزيز الجزء الأول من رسالة الدكتوراه كما قُدِّمَت إلى…
- القيامة والترتيب السماوي للحياة الجديدة
من المفردات اليونانية - القبطية الهامة كلمة akolouqia وهي تعني ترتيب، أو تتابع، وتسمى خدمة…
- حوار عن الثالوث مع دراسة لعقيدة الثالوث في الكتاب المقدس والآباء
قال لي صديق إن المسيحية هي ديانة مليئة بالمتناقضات، وعندما طلبت منه أن يعطي لي…
تعليق واحد
الثالوث جوهر كل القيم
الثالوث القدوس علاقة شركة ديناميكية بين شخوص ينتمون إلى ذات الجوهر الواحد . وفي إطار النعمة – في المسيح – صار للإنسان ولوج إلى داخل هذه الشركة ، إلى داخل هذه العلاقة . فانطبعت صورة العلاقة الثالوثية على العلاقات الجديدة المكرسة لوجوده الجديد وصار الوجود الإنساني الجديد ، في المسيح ، صورة للثالوث القدوس.
وفي هذا المقال نحاول أن نرصد صورة العلاقة الثالوثية المرسومة في علاقات الإنسان الجديدة : علاقته بالله ، في قيمة ” الإيمان ” ، وعلاقته بالآخر في قيم مثل : ” المعرفة ” و” المحبة ” و” السلام ” ، وعلاقته بنفسه ، في قيمة ” الحرية ” .
1- الثالوث هو حقيقة وجود الإيمان ( Pistis ).
. إننى أعتقد بأن الإيمان ، بوجود الله قد مر – في تاريخ الإنسان – بثلاث مراحل متدرجة ، صعودا ، نحو مفهوم أكثر نضجا :
1- المرحلة الأولى هي إيمان الصورة الحسية القائمة على النزوع الفطري ( الطبيعي ) ، فالإنسان بطبيعته – كمخلوق على صورة الله ومثاله – يميل باستمرار إلى الإيمان بشيء أعظم منه ، شيء ميتافيزيقي ، يدعمه ويردعه في ذات الوقت ، وهكذا قد صنع الإنسان – في مرحلة ما قبل الأنبياء – الإله ، وعبده وبخر له وأحاطه بالأساطير العجيبة ، وسواء كان هذا الإله منحوتة أو حيوانا أو جرما سماويا فقد كان الإيمان بالله في هذه المرحلة هو إيمان الصورة المادية – الحسية ، الفجة – للإله .
2- المرحلة الثانية هي إيمان الصورة الذهنية القائمة على مفهوم الناموس . وهي مرحلة الأنبياء و الشريعة ، والعهد بين الانسان والإله الواحد ، القدير ، المخوف . وكانت صيغة ” افعل ولا تفعل ” ، هي الصيغة المعتمدة للعلاقة ، وكان ثواب الطاعة هو البركة وعقاب العصيان هو الهلاك .
3- المرحلة الثالثة هي إيمان الصورة الذهنية القائمة على مفهوم النعمة . وهي مرحلة النضج والتجلي الأعظم لصورة الإيمان ، فقد صار الله ذاته صورة ، إذ قد تجسد في صورة إنسان لكي مايهب الإنسان مجد الشركة غير المنظورة في مجد الألوهة ، بالنعمة ، أي يهبه الشركة في حياته الأبدية . أصبح الكلمة المتجسد مسكنا لأهل بيت الله . بل تبلغ الصورة ذروة تجليها حينما ندرك أن العلاقة بين شعب الله أصبحت علاقة عضوية داخل جسد واحد هو شخص المسيح ، الكلمة المتجسد في البشر . هذه هي صورة الكنيسة ، هذه هي قمة النضج لصورة المجتمع الإيماني ، الذي يجمع البشر بالإله الواحد .
. المشترك الواحد الذي يجمع المراحل الثلاثة للإيمان هو أن الإنسان ، فيما يؤمن بالله – في هذا العالم – فهو لابد من أن يتعاطى مع صورة معينة . قد تتباين هذه الصورة وتتدرج ، نضجا ، بدءا من الصورة الوثنية الفجة للإيمان ، انتهاءا بصورة الإيمان المثالية ، الصحيحة التي تقدمها المسيحية . ولكن – حتى في المسيحية – كيف نفهم الأبدية ؟ كيف نفهم العلاقة العضوية بين البشر في جسد المسيح ؟ كيف نفهم الشركة في الطبيعة الإلهية ؟ كيف نفهم حقيقة الحياة – إلى الإبد – في مظلة الثالوث القدوس ؟.
لابد أننا – من أجل الإجابة – قد قمنا – كل بحسب قامته الروحية – بتكوين صور ذهنية عن القضية ، ولكن ما هي الحقيقة ؟ الحقيقة هي” ما لم تره عين ” ، أي ما هو ليس صورة – اطلاقا . والواقع أنه ، مادمنا في الجسد فلابد أن يفرض علينا هذا الجسد صورة للحقيقة . الحقيقة الصادمة جدا ، هي أننا طالما مازلنا لابسين هذا العتيق ، فجميعنا “وثنيون ، بقدر ما ! “، ولكن في المسيح ، فقط ، وحينما يصلب العتيق معه ، وحينما نتخلص منه ، بانتقالنا من هذا العالم ، فإن صورتنا العتيقة تتبدد ويتبدد معها الحجاب الذي كان يفرض علينا ” تشييئا “( Objectification ) للحقيقة ، وحينئذ ، وفي المسيح نتعاطى مع الحقيقة وجها لوجه .
. الصورة ، بطبيعتها هي استاتيكية ، جامدة . وهنا يبرز الكشف الفائق للعقل الذي يحققه الثالوث – بخصوص طبيعة الإيمان بالله – فالله المثلث الأقانيم ليس كيانا استاتيكيا ، ليس صورة ولكنه كيان ديناميكى يحقق وجوده في حركة مطلقة ، من المستحيل لنا أن نرصدها : حركة العطاء المطلق للذات ، حركة القبول المطلق للذات ، حركة الفيض من الذات إلى الذات . انه أمر من المستحيل تصويره أو تخيله . ولكن في المسيح ، وبتمام النعمة ، يتأسس للإنسان وجود ينسجم مع هذه الطبيعة الفائقة ، التي لله ، فيصبح الإنسان – في المسيح – كيانا أبديا قائما بقبوله الحر لوجوده من الآب بالابن في الروح القدس . هكذا يصبح الإنسان – بالنعمة – شريكا في حركة المحبة الحادثة بين شخوص الثالوث ، وبينما يعطي الآب كل ملئه للابن ، فإنه بالنعمة يعطي الذين صاروا متحدين بالابن ، كل ما يملأهم ، جاعلا منهم أبناءا ، بالتبني .
. الإيمان بالله ، الذي يكشفه الثالوث ، ليس صورة معينة عن الإله ولكنه شركة في حياة الإله . وحينما يتخلص الإنسان – في المسيح – من كل تصورعن الله ، ليصبح كيانا حرا ، شخصا ديناميكيا ، حينئذ فقط يستعلن كمال الإيمان بالله .
. رحلة الإيمان المسيحي هي رحلة التحلل من الصورة الساكنة الميتة وتجاوزها نحو الانتماء إلى الحركة التي في الثالوث القدوس .السكون هو الموت والحركة هي الوجود .
. رحلة الإيمان المسيحي هي رحلة التحلل من ” الوثنية الطبيعية ” ( إن جاز التعبير ) – الكائنة في وجودنا العتيق – وتجاوزها نحو الإيمان الحقيقي بالإله الواحد المثلث الأقانيم ، بالانتماء إلى حركة المحبة الكائنة فيه . ما يتم تجاوزه في رحلة الإيمان المسيحي هو الكيان العتيق الذي يفرض علينا “تشييء الإيمان ” .
. هذا هو مفهوم الإيمان ، كما يكشفه الثالوث القدوس . الإيمان القائم على الرجاء غير المنظور ، الرجاء الذي ليس مجرد صورة ، وليس مجرد إعادة انتاج لصورة موتنا .
. الإيمان المسيحي ، بالإله الواحد ليس قبولا لصورة معينة عن الله ، لكنه قبول متجدد – إلى الأبد – للشركة ، في ذاك الذي به نحيا ونتحرك ونوجد .
. الإيمان المسيحي هو القبول – بالنعمة – للشركة في الحركة التي “من الآب ” . هو القبول – بالنعمة – للشركة في الحركة التي ” بالابن ” . هو القبول – بالنعمة – للشركة في الحركة التي ” في الروح القدس “. هذا هو ما يكشفه الثالوث القدوس، عن ما ينبغي أن يكون عليه ، مفهوم ” الإيمان بالله “.
2 – الثالوث هو حقيقة وجود المعرفة (Gnosis ).
. جوهرالمعرفة هو التواصل مع الآخر . ومنذ ظهور الإنسان على الأرض ، وهو في حالة سعي معرفي لاكتشاف البيئة المحيطة به ، ويتطور العلم في حركة هائلة متسارعة لاكتشاف الكون ، من أجل استيعابه ، معرفيا ، بدافع تحقيق أقصى قدر من التكيف للوجود الإنسانى ، في هذا الكون . بالمعرفة يسعى الإنسان لأن يحقق أفضل صورة لوجوده في الكون . هذا عن المفهوم البسيط للمعرفة ، الذي ، للأسف ، هو مجرد اختزال للمعرفة في قضية ” المعلوماتية “، أي اجتلاب الآخر (الموضوع ) إلى الذات . ولكن هناك مضمونا للمعرفة أعمق بكثير من هذا المفهوم ، فالمعرفة تتجذر في الطبيعة البشرية تجذر الغريزة ، ففي اليونانية الهلينية ، يأتي معنى للمعرفة ، في إقامة العلاقة الحميمة بين الر جل والمرأة ، عمق الجنس هو السعي المعرفي ، بتجاوز الذات لاكتشاف الآخر ، والاتحاد به ، وما لحظة الشبق إلا تعبير عن نشوة تحقق الوجود . هذا هو الحلم المنقوش في أعماق وجودنا . والكتاب المقدس قد استخدم هذا المفهوم المعرفي في التعبير عن الزيجة ، فكثيرا ما نقرأ : ” وعرف فلان امرأته فولدت فلانا ” . اذن ، الاحتياج المعرفي هو احتياج وجودي ، سواء على مستوى الفرد الإنسانى ، في تحقيق وجوده السوي الصحيح أو على مستوى الجنس البشري ،عامة ، والذي لولا وجود هذا السعي المعرفي ، الغريزي ، القهري ، لتلاشى الجنس البشرى بتوقفه عن التناسل .
ولكن سواء كانت المعرفة اجتلابا للآخر( المعلوماتية ) إلى الذات أو كانت تجاوزا للذات نحو الآخر ، كما في علاقة الحب الزيجى ، فيبقى أن مضمون المعرفة هو الاتحاد بالآخر بدافع تحقيق الوجود . ولكن مأساة الوجود الانساني ، العتيق هي تلك الثنائية – المرتبطة برباط هش – بين الذات والموضوع (الآخر) ، فعلى مستوى المعرفة المعلوماتية ، سيفنى النوع الانسانى قبل أن يكون قد حقق حلمه بالمعرفة الكاملة ، فمن المستحيل أن يصل الإنسان يوما إلى سقف المعرفة الخاصة بذاته ، ناهيك عن معرفته بالكون . وعلى مستوى المعرفة التي يتجاوز فيها الإنسان ذاته إلى الآخر، لكي ما يتحد به ، يظل الفرد – الغارق في غريزته – يسعى أبدا ، ليجد نفسه في النهاية ، في عزلته ، فقد باءت محاولاته المستميتة – للاتحاد بالآخر – بالفشل ، وأما على مستوى الجنس البشرى فلم ينجح سعيه المعرفي الغريزي ، المصحوب بالتناسل ، في إبقائه حيا إلى الأبد . في النهاية تنفض ثنائية المعرفة ، العتيقة ، وينفصل الإنسان عن موضوع وجوده .
. ما يكشفه لنا الثالوث القدوس ، هو أن المعرفة هي العلاقة بين شخوص الثالوث . وهنا فقط قد بلغ مفهوم المعرفة أقصى تجل له وذلك من خلال تحقق الخصيصتين الرئيستين ، للمعرفة :- أولا : فلأن المعرفة هي العلاقة الأقنومية ، فقد أصبحنا ندرك أن قضية المعرفة هي قضية الوجود . هي قضية وجود الله . – ثانيا : ولأن شخوص الثالوث ، إنما ينتمي جميعهم إلى ذات الجوهر الواحد ، فقد أصبحنا ندرك أننا بصدد المعرفة التي فيها الوحدة المطلقة مع الآخر ، فالثالوث القدوس يكشف لنا مفهوما عجيبا للآخر . نحن أمام ما يمكن أن يطلق عليه ” الآخرية الذاتية ” . الآخر ( موضوع المعرفة ) هو كائن في اتحاد سرمدي غير قابل للانحلال ، مع الذات ( العارفة ) . هكذا ومن خلال ما يكشفه الثالوث يتجلى المفهوم الكامل للمعرفة كاتحاد مع الآخر ، بواسطته يتحقق الوجود .
. أما على مستوى النعمة ، ففي المسيح يدخل البشر إلى علاقة المعرفة الثالوثية . هذه هي علاقة المعرفة التي تجمع المسيح (العريس ) بعروسه (الكنيسة ). هذا هو سر المسيح ، سر الزيجة ، سر المعرفة ، المستقاة ، بالنعمة ، من الشركة في المعرفة الثالوثية .” هذه هي الحياة الأبدية : أن يعرفوك أنت الإله الحقيقى وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته .”( يو 17 : 3 ).هذا هو ما كشفه الرب لتلاميذه قائلا :” كل شيء قد دفع إلي من أبي . وليس أحد يعرف من هو الابن إلا الآب ، ولا من هو الآب إلا الابن ، ومن أراد الابن أن يعلن له .” ( لو 10: 22 ).
3 – الثالوث هو حقيقة وجود المحبة (Agape)
. إذا كانت المعرفة هي الاتحاد بالآخر لاجتلاب الوجود منه ، فالمحبة تستعلن الحدث من الاتجاه المعاكس ، إذ أن المحبة هي عطاء الذات للآخر لتحقيق وجود ذلك الآخر . ولكن على مستوى طبيعتنا العتيقة فإنه من المستحيل أن تتحقق المحبة الحقيقية ، بمعزل عن النعمة ، وذلك لأنه فيما يتم عطاء الذات للآخر ، بغرض تحقيق وجوده ، فإن وجود الذات – بطبيعة الحال – يتعرض للضياع والفقد .
. أما ما يكشفه الثالوث القدوس فهو أن المحبة هي العلاقة الثالوثية ، التي بها تقوم الذات الإلهية الواحدة . ولأن الثالوث يكشف لنا ” الآخرية الذاتية ” القائمة في الله الواحد ، فإن المحبة – كما يكشفها الثالوث – هي المحبة المطلقة ، فالآب يعطى كل ملئه (ذاته ) للابن ، دون أن يفقد شيئا . كل شخص من شخوص الثالوث إنما هو كائن في علاقة محبة مع الشخصين الآخرين ، المتضمنين فيه . ومعنى أن كل شخص له ذات الجوهر- الذي لكل من الشخصين الآخرين – هو أن كل شخص إنما هو كائن في حالة عطاء ذاتي للآخر دون أن يفقد وجوده الشخصي .
. وإذا كانت المحبة هي عطاء الذات الذي يحقق وجود الآخر ، فإن الإنسان الطبيعي عاجز تماما عن أن يحب محبة حقيقية ، إذ أن الإنسان ، بطبيعته يحتاج إلى آخر لكي ما يعطيه ذاته ، فيحقق له وجوده .
. في المسيح قد أعطى الله ابنه الوحيد إلى البشر فحقق وجودهم إلى الأبد ، هكذا وبهذا التدبير العجيب ، قد أظهر الله محبته للإنسان . هكذا قد أحب الله العالم . في المسيح ، يدخل البشر إلى شركة علاقة المحبة ، الثالوثية ، وفيما يتقبل الابن عطية المحبة من الآب ، فإن الذين صاروا متحدين به ، يتقبلون ، بالنعمة ، ما يملأ كيانهم من عطاء محبة الآب بشركة الابن في الروح القدس . هذا ما يكشفه الثالوث عن مفهوم المحبة ، وهذا أيضا ما شهد به يوحنا المعمدان قائلا: ” لأنه ليس بكيل يعطي الله الروح . الآب يحب الابن وقد دفع كل شيء في يده . الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية ، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله .”( يو 3 : 34- 36) .
4 – الثالوث هو حقيقة وجود السلام (Eirene)
. وحتى المضمون السلبي لكلمة السلام – أي عدم الصراع وعدم الحرب – هو حلم بعيد المنال بالنسبة للبشر في هذا العالم ، الذي قد وضع في الشرير . الدافع الطبيعي ، الكائن في أعماق الإنسان ، والذي يؤدي الى ديمومة الإنسان في حالة من الصراع ، هو رؤية الإنسان للآخر كمنافس وجودي ، إما أن أوجد أنا أو توجد أنت . الآخر هو المهدد لوجود الذات ، وأوضح مثال لهذا الواقع المأساوي هو عبارة ” سارتر” ، الشهيرة : ” الآخر هو الجحيم ” .
. الآخرية الذاتية ، التي هي طبيعة الثالوث تكشف لنا أن الآخر هو الآخر الذاتي الذي هو قائم في شركة تحقيق وجود الذات . إذن الآخر ليس مهددا للوجود ، بل إن الواقع هو عكس ذلك ، تماما . ما يكشفه الثالوث هو أن السلام ، الذي يفوق كل عقل ، هو العلاقة الثالوثية .هو العلاقة مع الآخر التي يتحقق فيها الوجود .
. على مستوى النعمة ، يتقبل الإنسان وجوده الجديد من الآخر ، أي من الآب . بواسطة الآخر ، أي بالابن . في الآخر ، أي في الروح القدس .
وحتى العلاقة مع الآخر ، الإنسان ، تتخذ وضعها الحقيقي – بالنعمة – في المسيح ، فيصبح الآخر ، ليس ذلك المنافس الوجودي ، بل يصبح عضوا به يتكمل الجسد الذي ينتمي إليه الجميع ، هكذا أصبح الآخر – في المسيح – هو المكمل لوجود الذات. هذا هو مفهوم السلام ، الإيجابى – المرادف للحياة والوجود – كما يكشفه الثالوث وكما هو مستعلن في النعمة .
. فى المسيح ، يتحقق المفهوم العميق للسلام ، فيشترك البشر في حياة الكلمة ، هذا هو مفهوم المصالحة ، كما يقدمه بولس الرسول بقوله : ” لأنه فيه سر أن يحل كل الملء ، وأن يصالح به الكل لنفسه ، عاملا الصلح ( eirenopoieo = محققا السلام ) بدم صليبه ، بواسطته ، سواء كان : ما على الأرض ، أم ما فى السماوات .” ( كو 1 : 19 و20 ).
. السلام هو ظل مجد الثالوث ، على الأرض ، في الذين صاروا شركاء في الكلمة المتجسد ، هذا هو ما هتفت به الملائكة لحظة ولادة يسوع ، مسبحة قائلة : ” المجد لله في الأعالي ، وعلى الأرض السلام ، في أناس مسرته ( الترجمة الأكثر دقة )( لو 2 : 14 ).
5- الثالوث هو حقيقة وجود الحرية ( Eleutheria ).
يبدو الحديث عن الحرية ، الحقيقية – في ما يخص طبيعتنا العتيقة – حديثا ساخرا ، فأي معنى للحرية بخصوص من قهر على وجوده ؟ !.
. ما يكشفه الثالوث هو أن الحرية هي إرادة اختيار الوجود ، إرادة اختيار الذات ؛ فالثالوث يكشف الوجود الشخصي لله ، الذى به يحقق وجوده الذاتي . الشخص هو الكيان الحر المتضمن للشخصين الآخرين ، والذي بواسطة إرادته يختار وجود ذاته .
. فى المسيح يصير الإنسان حرا لأنه يصير شخصا متمايزا وليس مجرد طبيعة بشرية ، وهذا هو معنى أن الإنسان يصير عضوا في جسد المسيح .
. الله هو شخص الابن الذاتي . وفيما يقبل الابن الذاتي وجوده ، بحريته وإرادته ، كشخص – بقبول كل ملء أبيه – فإن كل الذين قد صاروا متحدين به – في المسيح – إنما يقبلون بحريتهم وجودهم الجديد من الآب الذي صار أبا لهم ، متبنيا إياهم . هكذا يصيرون – بفضل اشتراكهم في الابن الذاتي – أشخاصا حقيقيين . هكذا يصيرون أحرارا . هذه هي حرية مجد أولاد الله ( رو8 :21 ).
. أن تكون شخصا يعني أن تكون حرا . هذا هو ما قاله الرب لليهود الذين آمنوا به : ” إنكم إن ثبتم في كلمتي ( اللوغوس = صيغة المفرد ، حسب الأصل اليوناني ) فبالحقيقة تكونون تلاميذي ، وتعرفون الحق ، والحق يحرركم “… فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارا .” ( يو 8 : 31و32 و36 ).