الحلول المتبادل لأقانيم الثالوث – 1
Perichoresis
Περιχώρησις
الحلول المتبادَل هو أقرب ترجمة عربية لهذه الكلمة اليونانية التي أنارت فكر الكنيسة وحياتها حول علاقة أقانيم الثالوث، لا سيما ما ورد على فم الرب في إنجيل يوحنا ص 17 وفي مواضع كثيرة أخرى في العهد الجديد.
الآب يحل في الابن والابن في الآب. الروح يحل في الابن وفي الآب. هي حركة حياة الثالوث عندما تجسد ابن الآب الوحيد “الكائن في حضن الآب” (يوحنا 1: 18)، والذي أضافت صلاة قسمة عيد الميلاد: “الكائن في حضنه الأبوي كل حين، أتى وحَلَّ في الحشا البتولي”، فهو في حضن الآب، حتى وهو في أحشاء القديسة مريم، وهو على الصليب، وهو في القبر. طبعاً هذا هو الأقنوم الذي يحمل في ذاته الإلهية، الإنسانيةَ متحداً بها اتحاداً غير قابل للانفصال. يأخذ الابن إنسانيته من الروح القدس: “الروح القدس يحل عليكِ، أي على القديسة مريم”، وتدخل هذه الإنسانية في حياة وحركة الحلول المتبادَل.
في اقنوم الابن يتحرك الابن كما يتحرك فيه الآب والروح. وإنسانية يسوع ليست متفرجة، بل تقبل حياة الحلول المتبادَل، وتدخل في حضن الآب وتستقر فيه بسبب الاتحاد الأقنومي، وهناك تختبر وترى انبثاق الروح القدس من الآب (يوحنا 15: 26)، ولذلك يظهر لنا الابن المتجسد هذه الحقيقة التي تخفي على إدراك أي مخلوق، والتي يدركها الإنسان الآن من خلال استعلان يسوع المسيح لهذه الحقيقة الفائقة.
هذه حركة محبة يقول عنها الرب: “لهذا يحبني الآب لأنني أضع نفسي لآخذها أيضاً” (يوحنا 10: 17). حركة المحبة هذه تجعل الابن، حتى في إنسانيته، فوق قوة الموت. يموت أو يذوق الموت، ولكن “بذوقه الموت عنا” حسب تقوى كنيستنا، أعطى لنا “الغلبة”، أي ذات عدم الموت التي في الحلول المتبادَل. هذه الغلبة ليست فقط بسبب الاتحاد الأقنومي؛ لأن الاتحاد الأقنومي لم يعطِ لنا شيئاً لا وجود له في الثالوث، لكن قبل ذلك يأتي الروح من الآب لكي يمسح يسوع في الأردن ويعطي ليسوع مسحةً أبديةً تجعله “المسيح”، وعندما يمسح الروح القدس يسوع، يدخل يسوع ليس بالاتحاد الأقنومي وحده، بل بالمسحة في الحلول المتبادَل لأن هذا هو ميراث الإنسانية الجديدة في يسوع.
وعندما يُستعلَن الابن بواسطة الآب: “هذا هو ابني الوحيد الذي به سُررت”، فهذا عن الإله المتجسد، وليس عن أقنوم الابن فقط، بل الأقنوم المتجسد، ويجد الآب في حلول الابن المتجسد فيه مسرةً وفرحاً بالإنسانية التي دخلت هذه الحركة في يسوع المسيح.
عندما أسلم الربُّ روحه الإنسانية على الصليب، ومات موت البشر، ودفنه يوسف الرامي ونيقوديموس، كان الحلول المتبادَل بين الثالوث هو أساس القيامة والفداء الأبدي. ذُبِحَ الابنُ بالجسد، وبذبح الابن بالجسد لم يعد للطبيعة الإنسانية الجديدة أي إرادة لأنْ تحيا بدون بذل؛ لأن هذا الذبح هو الذي سوف يعطي الكنيسة ذلك السر الفائق، سر الذبيحة، سر المحبة الباذلة التي كانت طبيعة الثالوث التي كلها جود وصلاح ومحبة تتحرك ببذلٍ على مستوى إلهي في الحلول المتبادَل عندما يعطي الآب حياته للابن، والابن يعطي حياته للآب. ولكن على مستوى المخلوقات، هذا لا يمكن أن يصل، أي البذل الثالوثي. لأن الروح القدس الذي هو شريك الابن في تدبير الخلاص، كان يعطي كل شيء للابن: الناسوت، ويشترك معه في عمل المعجزات، بل وبه سلَّم الابن ذبيحةَ حياته على الصليب (عب 9: 14)، بذلك الروح الأزلي؛ لكي تنال الإنسانية تلك القوة الباذلة التي سوف “تذبح الموت” حسب تعبير قداسنا وصلواتنا.
وعندما مات الابن بالجسد، لم يفقد الناسوت عدم الفساد؛ لأن قبول الآب لذبح الابن هو المسرة التي جعلت الرب لم يعاني الفساد.
أمَّا عن القيامة، فإن الحلول المتبادَل أعطى للإنسانية التي ماتت، الحياة السماوية المجيدة (فيلبي 3: 21). إن مسرة الآب هي قيامة الابن المتجسد هادماً القبر، ومسرة الروح هي أن تصل المسحة إلى غايتها، وهي الإنسانية المؤهَّلة لميراث الملكوت.
كيف حدث ذلك السر الفائق؟ لدينا لمحات شحيحة في الأسفار. فقد قال الرسول بطرس إن أوجاع الموت كانت غير قادرة على أن تُخضع الابن (أع 2: 24). هذه الأوجاع هي فساد وانحلال الحياة الإنسانية. هي تعني أن الإنسان لم يعد إنساناً إذا هُدِمَ كيانه الإنساني وانفصلت نفسه عن جسده.
لقد أباد الآب أوجاع الموت؛ لأنه في محبته للابن يريد مجده، وكما يقول رسول المسيح: “لذلك رفَّعه الله وأعطاه اسماً فوق كل اسمٍ” (فيلبي 2: 6-8)، أي اسم الألوهة. مسرةً كاملةً جعلت كل شركاء يسوع في إنسانيته ينالون الشركة في الطبيعة الإلهية؛ لأن الاعتراف بيسوع رباً هو لمجد الله الآب (فيلبي 2: 8). وقبل ذلك يقول الرب: “أنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحداً فينا” (يوحنا 17: 22). هو مجدٌ نالته الإنسانية في يسوع؛ لأن مجد الثالوث واحد. ومجد الابن المتجسد في حركة الحلول المتبادَل بينه وبين الآب، هي التي تجعل المجد الذي للابن هو لنا: “لكي يكونوا هم أيضاً واحداً فينا” في وحدة الحياة المجيدة. هكذا نال الصلبُ قوةً؛ لأن ما كان يمنع الإنسان عن الشركة في حياة الآب، قد أُبيد بالموت، ورُفِعَت الدينونة، وأُعطيت نعمة الحياة الأبدية.
إن سرَّ الصلبِ عميقٌ؛ لأن الحلول المتبادَل جعل الابن يقول: “إلهي إلهي لماذا تركتني”، و”لماذا” هي “ل ي ما – ليما” الآرامية، وهي صرخة استعلان السبب؛ لأن الابن أُهين واتُّهِمَ بالتجديف في محاكمته، وصلب بين اثنين، لقد نُزِعَت عنه الكرامة، والذي فعل ذلك هو البشر، وليس الآب.
لقد صُلِبَ الممسوح بالروح القدس، أي “صُلِبَ بالروح القدس”، فنقل قوة الحياة التي للروح القدس بسبب الحلول المتبادَل إلى الناسوت أيضاً، فصار في هدوء القبر غالباً الفساد، ونزل “ببرق لاهوته إلى الجحيم” لكي يدمر الجحيم إلى الأبد.
يا أحبائي، إننا في خدمة الثالوث لنا في سر الإفخارستيا، ندخل الحلول المتبادَل؛ لأن رئيس الكهنة يسوع يقدِّمُنا للآب، وبه أيضاً يحل الروح القدس علينا وعلى القربان الموضوع على المذبح؛ لأنه سبق وحَلَّ على القربان، أي يسوع نفسه؛ لكي ينقل ذلك الحلول إلينا بتحولٍ سِريٍّ لا يُفهم إلَّا سرياً للخبز والخمر.
نحن ندخل الحلول المتبادَل في رئيس الكهنة، يحملنا فيه للروح، ويحملنا الروح للآب لكي ننال “خبز الله النازل من السماء من عند الآب الواهب الحياة للعالم” (يوحنا 6: 33). وعندما نتناول من الذبيحة بالروح القدس، من يد الآباء الذين أقامهم الروح القدس لخدمة هذه الذبيحة، فإننا ندخل ذات حركة الحلول المتبادَل التي دخلها يسوع وصار “سابقاً عنا”؛ لأنه “متقدمٌ علينا” في كل شيء.
هنا يقف القلم، ولا نجد كلمات تعبِّر عن هذه الحقيقة الفائقة.
نحن في الابن، وبالابن في الآب، وفي الآب بالروح القدس، جالسين معه على يمينه (كولوسي 3: 1-2).
إلى الذي حملنا فيه، يسوع المسيح، كل مجد وكرامة.
مع محبتي
د. جورج حبيب بباوي
7 تعليقات
دكتور جورج ، هذا أرقي وأروع تعليم كنسي ، ربنا يكافئك
Perichoresis
يتألف هذا المصطلح اليوناني من مقطعين ، الأول (prefix ) هو الحرف ( peri) ويعني ( حول = around ) ، والمقطع الثاني ( chorea) يشير إلى رقصة تقليدية في ثقافات الشعوب القديمة لاسيما في ثقافة اليونانيين القدماء . في هذه الرقصة تتشابك أيدي الخورس ( chorus) ليؤدوا رقصتهم في شكل دائري ( circular dance ) .
في أدبيات اليونانية يؤدي دخول المقدمة ( peri ) – على جذر ما – يفيد فعلا ما – يؤدي إلى إضفاء مايفيد حركة إضافية حول المعنى الأصلي لهذا الجذر ، فمثلا الجذر ( tom ) ، ( tomos ) يفيد معنى ” قطع الشيء ( ( cut ، وأما دخول ( peri ) على الجذر ( tom ) ينتج ” peritomy ” التي تعني ” الختان = circumcision” ، هكذا لم يعد الفعل يفيد مجرد معنى قطع الشيء بل يفيد قطعا محددا يتم في حركة دورانية دائرية .
والآن لنا أن نسأل ماذا أنتجت إضافة ” peri ” – التي تشير إلى حركة ” حولية ” ( إذا جاز التعبير ) – إلى ” chorea” التي بحد ذاتها تعني حركة دورانية راقصة ؟ وبالتأكيد ليس لدينا إجابة غير ذلك التعقيد المدهش لتلك الرقصة العجيبة ، فلم يعد الراقص يدور فقط حول تلك الدائرة التي يحيط بها أفراد الخورس ، بل وللعجب – وبفضل ” peri ” – أصبح يدور حول كل نظير له . لم يعد الراقص يحيط ويستوعب مساحة الدائرة المشتركة بين جميع أفراد الخورس فقط بل فيما يصنع هذا هو يحيط ويستوعب بحركته كل فرد من أقرانه .
هكذا ، وفي وضعية عجيبة ، يتطابق المدلول اللغوي للمصطلح مع مفهومه الاصطلاحي ليتم إضاءة عقيدة الثالوث القدوس أمام عيون أذهاننا .ففيما يعتلن الشخص – من شخوص الثالوث – الجوهر الإلهي الواحد مستوعبا ومحتويا ومشخصنا إياه فهو في ذات الحدث يحتوي ويستوعب كل شخص من الشخصين الآخرين ، وبناء على ذلك فإن أقرب ترجمة عربية للمصطلح هي علاقة ” الاحتواء المتبادل ” بين شخوص الثالوث .
الاحتواء يعني الفعل الإيجابي لإحداث تضمن الآخر، و”الضمنية المتبادلة “هي تعبير آخر عن مفهوم المصطلح. والضمنية تعني الستر والإخفاء فشخص الآب فيما يستعلن الجوهر الإلهي الواحد ، كمصدر وكينبوع فهو يتضمن ويستر ويحتوي شخص الابن الذي هو ” الملء” ،ويتضمن أيضا ويستر ويحتوي شخص الروح القدس الذي هو النهر الفائض من الينبوع (الآب ) ليصب في الملء (الابن )، إذ هو روح الآب وروح الابن بآن واحد . بمعنى أنه يكفي أن نقول أن “شخص الآب هو الله ” ولا نكون قد تجاهلنا الابن والروح ، لأنه إذا كان الآب هو النبع فلا آب بدون ابن ولا آب بدون الروح القدس ، لأنه لا نبع بدون ملء ولا نبع بدون فيض لكل هذا الملء من مصدره حتى مصبه .فالضمنية المتبادلة هي حركة المحبة التي يتخلى فيها شخصان من شخوص الثالوث عن ذكر هويتهما الشخصية في استعلان الجوهر الإلهي الواحد لحساب هوية الشخص الثالث ، فيكفي أن نقول أن الآب هو الله ليعني ذلك أن الابن الكائن في الآب هو الله ويعني أيضا أن الروح الكائن في الآب وفي الابن هو الله . هل هناك من مضمون للمحبة أرفع من التخلي عن إعلان الشخص عن ذاته كشخص لحساب الآخر وفي المقابل كفعل عكسي ( reciprocal ) لا يقوم الشخص الأول بالتهام ذلك الشخص المتضمن فيه بل يظهر هويته المستترة فيه كوجه آخر لهويته ؟
إذن هي رقصة المحبة السرمدية التي في حركة أزلية أبدية تثمر الوجود الإلهي .
الفرق بين ” perichoresis ” و ” co-inherence “
Deification co-inherence
كان القديس مكسيموس المعترف ( المتوفى عام 662 ) أول من ذكر مصطلح ” perichoresis ” بهذه الصيغة ،أي صيغة الاسم ( ( noun ، وكان قد سبقه القديس غريغوريوس النيزينزي ( المتوفى عام 389/ 90 ) إلى استخدام صيغة الفعل ” perichoreo ” في سياق شرحه للثالوث القدوس .
ومنذ أن انطلق المصطلح الآبائي انطلق مسار طويل من الجدل والمناقشة والتأصيل للمصطلح بين الآباء آنذاك وبين اللاهوتيين فيما بعد وقد أسفر هذا المسار عن محاولة من البعض – تم تفنيدها وتضعيفها من قبل البعض الآخر – لتطبيق مضمون المصطلح على العلاقة بين اللاهوت والإنسان في شخص الرب يسوع المسيح ، وأيضا ظهرت محاولة البعض لتطبيقه على علاقة المؤمنين بشخص المسيح ، هذا فضلا عن العلاقة الأصلية والأصيلة أي العلاقة بين شخوص الثالوث .
وهكذا توفر لدينا كحصيلة لهذا النقاش الطويل ثلاثة تطبيقات للمصطلح :
1 – trinitarian perichoresis : العلاقة بين شخوص الثالوث .
2 – christological perichoresis : العلاقة بين الكلمة والإنسان في شخص الرب يسوع المسيح .
3- deification perichoresis : ) التأله ) ، العلاقة بين المؤمنين والمسيح .
هذا ووفقا لمعظم الكتاب اللاهوتيين فإن النوع الأول يمثل علاقة كاملة متماثلة ، بينما اعتبر كل نوع من النوعين الآخرين علاقة غير كاملة وغير متماثلة .
قام الكاتب ( والروائي والشاعر واللاهوتي ) البريطاني ” charles williams ” ( المتوفى عام 1945 ) بنحت مصطلح فلسفي لاهوتي عبقري هو ” co-inherence ” الذي يعني علاقة التواجد ( الحضور ، السكنى ، الحلول ) المتبادل ، وقد اضطلع – هو وأتباعه – بتطبيق مفهوم هذه العلاقة في توسع يشمل – تقريبا – كل ماهو موجود ، بما في ذلك مكونات خريطة العقيدة المسيحية ، أي : الثالوث القدوس ، شخص المسيح ، العلاقة بين المؤمنين وشخص المسيح .
واقع الحال أن بعضا من أصحاب المصطلح الآبائي قد اتفق مع أصحاب المصطلح الحديث في التماهي بين المصطلحين من حيث المضمون، وإن كان ويليامز قد أقر التماهي صراحة فإن بعض الأولين قد قدم أكثر من صيغة للمصطلح الآبائي تحمل ذات المضمون الذي قدمه ويليامز في مصطلحه .
وأكاد أجزم بكل شدة باستحالة التماهي بين المصطلحين فمن غير الجائز أن يكون لدينا ” christological perichoresis ” ، ولا ” deification perichoresis ” ولكن الصيغة الوحيدة الصحيحة للمصطلح هي ” trinitarian perichoresis ” . وأيضا من الناحية الأخرى لا يجوز أن يكون لدينا ” trinitarian co-inhernce ” ، ولكن اللائق هو وجود كل من ” christological co-inherence ” و ” deification co-inherence ” .
هذا الجزم والحسم في التمييز بين استخدامين مختلفين للمصطلحين ينبع من إدراك الفرق الدقيق بين مضمونين مختلفين لهما ، فالمصطلح الآبائي يعني الضمنية المتبادلة أو الاحتواء المتبادل الذي يحمل المعنى الكامل للعلاقة المتماثلة “symmetrical ” ، أي نوع من العلاقة الذاتية الفريدة التي لا يمكن أن تتجلى إلا في ” trinitarian perichoresis ” ، إذ يحتوي كل شخص من شخوص الثالوث الشخص الآخر بينما يظل كل شخص منهم له ذات الجوهر الذي للآخر ( homoousios ) . لم يعد الأمر مجرد حضور متبادل بين طرفي العلاقة ، بل حضور متبادل بين طرفين لهما ذات الجوهر الواحد والطبيعة الواحدة . وهنا نستطيع أن ندرك الفرق بين المصطلح الآبائي وبين ” co-inherence ” ، فالأخير يعني الحضور المتبادل ( co-indwelling ) غير المشروط بالضمنية المتبادلة بين طرفين لعلاقة بين شخصين كل منهما هو هوموأوسيوس بالنسبة للآخر ، وبالتالي يستطيع أن يشرح العلاقة بين طبيعتين مختلفتين ، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يصون شرحا صحيحا للثالوث القدوس.
ونستطيع أن نقول بأن المصطلح الآبائي يكشف عن حالة خاصة جدا من المفهوم العام الذي يكشفه مصطلح ” co-inherence ” ، علاقة فريدة بين مختلفين لهم ذات الجوهر والطبيعة الواحدة بينما هوية كل منهم تتجلى كوجه آخر لكل هوية من الهويتين المستترتين فيه .
بالتأكيد إن للمصطلحين مضمونا انطولوجيا ( ontological ) ، فكل مصطلح على حدة يحققه ويكشفه وجود ينتجه فعل يتم في علاقة تبادلية ( reciprocal ) . ولكن الفرق الجوهري بين المصطلحين – في هذا السياق- هو أن المصطلح الآبائي يكشف عن وجود سرمدي ( أزلي أبدي ) ينبع ذاتيا ( من الآب ) ، أي أن تمايز أطراف العلاقة ( شخوص الثالوث ) لا يجعل العلاقة موضوعا لشركة طبائع مختلفة لأن كل شخص له ذات الجوهر الذي للآخر ، بينما يكشف المصطلح الآخر ( co-inherence ) عن وجود ينشأ في الزمن والتاريخ ليمتد إلى الأبد ، في علاقة وجود متبادل بين طرفين يمثلان طبيعتين مختلفتين وبمبادرة من أحد طرفي العلاقة .
فيما يتأله البشر بالعضوية في الجسد الخاص بالابن الوحيد ، وفيما تتكمل الكنيسة كجسد للمسيح ، فإن كيانا ضخما يمتلئ يوما فيوما إلى أن يتجلى – في نهاية الكون – شخصا هو ” ابن الإنسان “، شخص المسيح الكامل الممتلئ المستوعب لكنيسته في كيانه . حديثنا عن شخص هو ملك يبدو رأسا لمملكته التي هي جسده . إذن علاقة أعضاء الكنيسة بشخص المسيح نموذج لعلاقة الحضور ( الوجود ) المتبادل . ليس شخص المسيح هو فقط الرب يسوع التاريخي ، فالأخير هو مجرد الرأس ، واختزال الشخص المنشود في يسوع يجعل شخص المسيح مجرد رأس بلا جسد . وأما النظرة الصحيحة للشخص المكتمل تجعلنا ندرك أن شخص المسيح الرب ” محتاج ” لأن يتكمل ويمتلئ بكنيسته ، وهذا يذكرنا بالقول الإنجيلي الشعانيني المدهش ” الرب محتاج إليه “. احتياج الربوبية هذا ، هو سر الوجود المتبادل بين الكنيسة وشخص المسيح الممتلئ . المسيح شخص نحن نملأه كأعضاء ردا على امتداده فينا كرأس . ففيما يمتد المسيح إفخارستيا في كنيسته محققا وجود جميع أفرادها ، تقوم الكنيسة ، بدورها ، بإظهار وكشف وتحقيق هوية المسيح كشخص كاثوليكي ممتلئ .
مساحة التقاطع بين المصطلحين
يتقاطع مفهوم مصطلح ” christological co-inherence ” مع مفهوم مصطلح ” trinitarian perichoresis ” في مساحة ” الإنسان يسوع المسيح ” ذلك الكائن في علاقة وجود متبادل مع شخص الكلمة بفضل الاتحاد الأقنومي الكائن بينهما ، فلأنه جسد الكلمة الخاص فقد صار منذ لحظة الاتحاد جسدا خاصا بذاك الكائن في علاقة الضمنية المتبادلة مع أبيه الذاتي ومع الروح القدس ، وهكذا صار الإنسان يسوع المسيح شاهدا أبديا على حركة المحبة السرمدية الكائنة بين شخوص الثالوث ، وفيما يتقبل الابن الذاتي وجوده السرمدي كملء للآب فإن جسده الخاص يتقبل وجوده الأبدي من الآب كشريك في حياة الابن في الروح القدس . وقبوله لوجوده لايعني بأي حال من الأحوال كونه منتفعا بالنعمة ، بل على العكس ، ولأنه جسد الكلمة الخاص فقد صار بمجرد ظهوره مصدرا ورأسا وربا للنعمة ، تلك المزمع أن تفيض على المختارين ليصيروا متموقعين فيه كأعضاء .وهذا يقودنا إلى التقاطع الثاني ، أي الذي بين ” deification co-inherence ” و ” trinitarian perichoresis ” . ومساحة التقاطع هنا هي الكنيسة ، جسد المسيح ، أي جسد ذاك الذي هو قائم في اتحاد أقنومي بين طرفين أحدهما الكلمة الذاتي ، أي الكلمة الذي يتضمن الآب . وفيما يتأله جميع أعضاء الكنيسة فهم يحتفلون إلى الأبد بولوجهم النعموي في مظلة المحبة الثالوثية .
أرجو تصحيح الخطأ المطبعي ” co-inherence christological ” إلى ” christological co-inherence “
مفهوم مصطلح Perichoresis “ ” كعلاقة كاملة متماثلة
يشير المصطلح الآبائي إلى علاقة فريدة ( unique ) من نوعها ، وباستثناء الثالوث القدوس فلا مثيل لها في سائر الموجودات . وتفرد علاقة الاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث يكمن في كونها علاقة كاملة . ومن الناحية الرياضية الفلسفية تظل العلاقة الكاملة بين فئتين أو كيانين أفقا لا يمكن إدراكه ، ففي عالم الموجودات ، النسبي ، الذي ننتمي إليه ، من المستحيل قيام علاقة كاملة مع الاحتفاظ بوجود طرفي العلاقة دون ذوبانهما في كيان واحد ، فالعلاقة الكاملة هي العلاقة المطلقة التي لا وجود لها في عالمنا النسبي .
كيف يتضمن الآب ابنه الوحيد في ذات الحدث الأنطولوجي الذي فيه يتضمن الابن أباه الذاتي ؟ كيف يتضمن شخص شخصا آخرا بينما هو متضمن من قبله ؟ كيف يكون شخص كائنا في من هو كائن فيه ؟ ماذا يعني الابن المتجسد بقوله ” أنا في الآب والآب في ” ؟
ولم نزد الأمر تعقيدا فنسأل عن الروح القدس الكائن في الآب وفي الابن فيما يتضمن الاب الابن ، الذي يتضمنه ؟!
إنها إذن الدهشة من حركة الضمنية ( الاحتوائية ) المتبادلة بين الذين ” لكل منهم ” ذات الجوهر الواحد .
لذلك لم تكن العلاقة الكاملة ( المطلقة ) أمرا متاحا في عالمنا النسبي إذ هي بالتعريف ووفقا لمرجعية الثالوث القدوس هي علاقة ذاتية ، وإمكانية تخيل وجودها في عالمنا تتماهى مع إمكانية تخيل تلاشيها ، بتلاشي طرفيها وأيلولتهما إلى واحد .
علاقة الضمنية المتبادلة ، أو الاحتواء المتبادل ، ليست مجرد فكرة فلسفية لاهوتية بل هي حركة . هي حركة المحبة ، التي هي جوهر الأنطولوجيا الإلهية . والحركة هنا لا علاقة لها بما نختبر عن الحركة في عالمنا . ولأن عالمنا هو نسبي بجملته ، فالحركة فيه حركة نسبية ، أي حركة في الزمان والمكان ، حركة لا يمكن رصدها إلا من خارجها . أما الوجود الإلهي فلا يعرف الزمان والمكان ، لذلك فحركة المحبة الثالوثية هي الحركة المطلقة ( إذا جاز التعبير ) ، تلك الحركة التي لا يمكن رصدها إلا من داخلها . فالروح القدس فاحص كل شيئ ،هو أيضا الوحيد القادر أن يفحص أعماق الله ( راجع 1كو2: 10 ) .
وإذا كانت الحركة بين شخوص الثالوث نمطا من الحركة لا مثيل له في عالمنا ، فما عساه أن يكون ؟ والإجابة الوحيدة الممكنة هي أن الحركة الثالوثية هي سر الأنطولوجيا الإلهية ؛ فالشخص بطبيعته كيان ديناميكي ، وديناميكيته هي هويته ، بمعنى أن الهوية الشخصية هي فعل وحدث متجدد سرمديا ، والفعل الذي هو مضمون هوية أحد شخوص الثالوث لا غاية ولا مضمون له غير تحقق الوجود الإلهي من خلال الهوية الخاصة بهذا الشخص ، والذي بدوره يتضمن الشخصين الآخرين اللذين لهما هويتان متمايزتان ، ووفقا لكل منهما يتحقق ذات الوجود الإلهي الواحد ، في ذات الحدث السرمدي الواحد ؛ فالضمنية المتبادلة بين شخوص الثالوث تعني الضمنية المتبادلة بين ثلاثة أفعال شخصية متمايزة يضطلع كل منهم بإنتاج ذات الثمرة الأنطولوجية الواحدة . فهوية شخص الآب هي فعل إصدار الوجود. شخص الآب هو الينبوع الفياض للوجود الإلهي ، وفيما يفيض الآب فهو يتضمن الابن ، الذي هو ملء الآب ، ولأنه لا ينبوع بدون ملء فالآب بدون الابن هو ينبوع ناضب بدون ماء . ولأنه لا وجود لكل من الينبوع والملء بدون الفيض ، فلا وجود لكل من الآب والابن بدون الروح القدس . لأن الروح هو الفيض وهو الوسط ( meso ) بين الآب والابن لأنه روح الآب وروح الابن بآن واحد .
عبارة ” من الآب بالابن في الروح القدس “
عبارة القديس أثناسيوس الشهيرة تخص مفهوم النعمة ” الواحدة التي من الآب بالابن في الروح القدس ” . ولأن وجود وجوهر مفهوم النعمة – في كمالها – هو كونها صورة الوجود الإلهي ذاته – أو قل أنها استعلان حضور الثالوث القدوس في الخليقة ( الإنسان ) ، أو استحضار الإنسان وولوجه إلى مظلة الثالوث – فإننا نستطيع أن نعيد الصورة إلى أصلها فنكتب صياغة جديدة للعبارة – لم يكتبها أثناسيوس صراحة – فنقول : ” الوجود الإلهي واحد ، من الآب بالابن في الروح القدس ” .
هو واحد ، من ” الآب ” كمصدر ” ، كينبوع ، كأصل للوجود الإلهي ، وفي ملء الزمان صار ” مصدرا ” للنعمة الحادثة للبشر بالشركة في الابن المتجسد في الروح القدس .
هو واحد ، ب” الابن ” كملء ، كنطق ، ككلمة “ يخبر ” سرمديا عن الجوهر الإلهي ، وفي ملء الزمان أرسل الله ابنه إلى العالم متجسدا ليخبرنا ( الوحيد الذي في حضن الآب الذي خبر ) عن أبيه الذاتي وليرسل لنا الروح القدس المنبثق من الآب فيصور فينا صورة المسيح أي الكنيسة الكائنة في جسد الكلمة الخاص .
هو واحد ، في ” الروح القدس ” الفاحص والراصد ، والسابر الأوحد لأغوار أعماق الله ، فهو الوسط ” meso ” بين الآب والابن لأنه روح الآب وروح الابن ، وفي ملء الزمان يحل على البشر ويسكن فيهم فتتحقق عضويتهم في جسد الكلمة الخاص وهكذا يدخلهم الأعماق الإلهية في مظلة الثالوث .
الحروف ” من ، ب ، في ” تشير إلى العلاقة الذاتية ، الديناميكية ، الحاكمة لمفهوم الأنطولوجيا الإلهية ؛ فالوجود الإلهي ” ذاتي المصدر ، ذاتي المخبر ( بفتح الباء ) ، ذاتي المسبر ( والسبر هو الكشف والفحص، إذا جاز التعبير ) .
هذه هي العلاقة الكاملة التي يكشفها المصطلح الآبائي . علاقة حركة المحبة ، المطلقة ، بين شخوص الثالوث القدوس .
العلاقة المتماثلة
ولأن علاقة الضمنية المتبادلة التي يكشفها المصطلح الآبائي ” perichoresis ” هي العلاقة الكاملة ، فهي – بالتعريف – علاقة متماثلة ” symmetrical ” ، أي لا وجود فيها لأي نوع من القطبية ” polarity ” ، لا أفضلية ولا تمييز بين أي شخص وآخر . أما التمايز بين الشخوص هو في كونها ” شخوص ” ، والشخص بطبيعته له هويتة الخاصة التي يتمايز بها عن الشخصين الآخرين ، وفقدان التمايز يعني ضياع مفهوم الشخص ذاته .
أما ما يعتقده بعض اللاهوتيين – عن خطأ – بعدم اكتمال مفهوم التماثل ” symmetry ” – نظرا لتمتع شخص الآب بهوية ” المصدرية ” بالنسبة للابن والروح – فيعود إلى عدم إدراكهم لمفهوم العلاقة الكاملة القائمة في حركة مطلقة . هم يطبقون سمات الحركة النسبية ( الزمان والمكان ) التي في عالمهم على الحركة المطلقة ، فيتخيلون أن كون الآب هو علة وجود الابن – وأنه أيضا علة وجود الروح القدس – يكفي لإطفاء القطبية على الآب دونما الشخصين الآخرين ، بينما واقع الحال هو أن الثلاثة شخوص هم ثلاثة أقطاب متماثلة متكافئة ، ولكن متمايزة ، وفي حالة ضمنية متبادلة . والقطبية التي أقصدها هنا مرادفة للهوية الشخصية التي تشخصن الجوهر الإلهي وتستعلنه من منظور الشخص ، وهنا يكفينا -كتطبيق للفكرة – أن نقول بأن أي شخص من شخوص الثالوث هو الله . أما كون الابن مولودا من الآب فهذا مجرد تمايز في الهوية الشخصية لايترتب عليه أي تفضيل قيمي ، من منظور الضمنية المتبادلة المثمرة للوجود الإلهي الواحد . وإن كانت ” الأبوة ” في خبرتنا ” النسبية ” تجعل الابن أحدث من أبيه ، زمنيا ، فهذا يعود إلى سطوة مفهوم الزمن التي فصلت بين الشخص وبين استعلان وظيفة الأبوة فيه ، فصار وجود الشخص زمنيا يسبق ظهوره أبا . ولما كان الأمر ليس كذلك بالنسبة لشخوص الثالوث – فالشخص يعني الوظيفة ، والوظيفة تعني الشخص – لذلك فإن الأبوة الإلهية هوية سرمدية نشطة وفاعلة وتستر في داخلها هوية البنوة الإلهية السرمدية النشطة الفاعلة ، وكلا الهويتين في احتوائية متبادلة ، سرمديا . ونفس الأمر نستطيع ، بل يجب ، أن ندركه بخصوص علاقة أبوة الآب وانبثاق الروح .
الآب ليس أفضل من الابن ولا من الروح ، لأنه لا شرعية لاهوتية لوجود الآب بدون وجود الابن والروح ، فيه . ولا شرعية لاهوتية لوجود قطبية في العلاقة بين شخوص الثالوث ؛ فالعلاقة الكاملة المطلقة التي يكشفها المصطلح الإلهي العبقري ” perichoresis ” هي علاقة كاملة متماثلة .
مفهوم مصطلح Perichoresis “ “ كعلاقة ديناميكية
علاقة الاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث هي علاقة شركة ، والشركة هي شركة ” حركة ” ، والحركة هي الحركة المطلقة . ونصيب الشخص من الشركة هو ” كل قوام وجوهر الشركة ” ؛ فكل شخص يساهم “بالكل “، في ” الكل ” وفيما يصنع ذلك فهو لا يجور على نصيب أي شخص أخر من الشخصين الآخرين ، إذ أن كلا منهما كائن ضمن هذا الشخص ومستوعب به . قوام الشركة هو الجوهر الإلهي الواحد الذي هو جوهر كل شخص ؛ فالهوموأووسيوس مصطلح يضمن أن كل شخص له ذات الجوهر الذي لأي شخص .
إذن كل شخص من شخوص الثالوث يضطلع بتكريس ذات الأنطولوجيا الإلهية الواحدة . والهوية الشخصية لأي شخص تعني – بالتعريف – الحرية المطلقة للشخص . كل شخص حر مريد وفيما تتحقق هويته – في فعل أزلي أبدي – فهو يختار ذلك بحرية وإرادة . ومفهوم الشخص ” الحر ” المريد – بطبيعته وهويته – يقضي على شبهة القطبية ( التي أشرنا إليها سابقا ) ، فالإرادة والمبادرة والاختيار أمور ليست محتكرة من قبل الآب . وفي ذات الوقت ، ومن الناحية الأخرى ، فإن القهر والالتزام بمجرد رد الفعل أمران لا يمثلان واقعا بالنسبة للابن والروح . وكون الآب هو المصدر لا يجعل منه الشخص الوحيد ” الفاعل ” ، ولا يجعل الشخصين الآخرين “مفعولا ” بهما .
شخص الآب ، المتضمن الابن والروح ، فيه – بملء إرادته الحرة وبمبادرة شخصية منه – يصدر الوجود الإلهي .
شخص الابن، المتضمن الآب والروح ، فيه – بملء إرادته الحرة وبمبادرة شخصية منه – يقبل عطاء الآب صائرا كل ملئه .
شخص الروح القدس ، المتضمن الآب والابن ، فيه – وبملء إرادته الحرة وبمبادرة شخصية منه – يقبل أن يصير فيضا بين الآب والابن ، لأنه روح الآب والابن بآن .
كل شخص هو مبادر فاعل بطبيعته ووفقا لهويته ، فالمبادرة الفاعلة هي الشخص ، والشخص هو المبادرة الفاعلة .
وتتقاطع المبادرات الثلاث للثلاثة شخوص في منطقة اللازمن والتي تصب جميعا في منتوج أنطولوجي واحد ، بمعنى أن مفهوم المبادرة لا علاقة له بالتفوق والسبق الزمني ؛ فنحن بصدد العلاقة ” الكاملة ، المطلقة ، المتماثلة ” التي تجعل المبادرات الشخصية الفاعلة الثلاث قائمة في حالة الضمنية ( الاحتوائية ) المتبادلة ، وبينما يبادر الآب بإصدار الوجود الإلهي – في آنية متصلة أحد طرفيها هو الأزل ، والآخر هو الأبد – فإن الابن يبادر في ذات اللحظة السرمدية بقبول عطية الآب ، وعليه فمبادرة الابن هي التي جعلت الآب أبا بنفس القدر الذي به جعلت مبادرة الآب الابن ابنا . وقبول شخص الروح القدس أن يكون فيضا منبثقا من الآب ، وقبوله أن يكون وسطا بين الآب والابن – بمبادرة وإرادة حرة منه – هو الذي جعل الآب أبا بنفس القدر الذي به تسببت مصدرية الآب – كهوية شخصية مبادرة فاعلة – في وجود الروح القدس .
ويعلمنا الثالوث القدوس أن مفهوم الحرية ليس مجرد الاختيار من تعدد ، بل هو الاختيار الفاعل ، للحياة والوجود ؛ فكل شخص – وفيما يتضمن الشخصين الآخرين ، فهو – وفقا لهويته الشخصية – يحقق الوجود الإلهي الواحد في فعل آني متجدد يمتد منذ الأزل وإلى الأبد .
إنها إذن شركة المحبة الثالوثية ، التي في ضمنية متبادلة بين شخوص الشركة ، تحدث الاختراق المطلق للعدم .ففي البدء كان الكلمة ، الكائن في أبيه وفي الروح ، ولم يكن هناك أي مجال لنصرة العدم . شركة الثالوث تعلمنا أننا بصدد حدث يتجدد بصفة مطلقة في الزمن اللانهائي . ولو كف الآب – المتضمن للابن والروح – عن فعل الأبوة والمصدرية ، أو كف الابن المتضمن للآب والروح – عن فعل البنوة وقبول ملء الآب ، أو كف الروح القدس – المتضمن الآب والابن – عن فعل الفيض بين الآب والابن ، لو كف أحدهم عن فعل مايخص هويته الشخصية للحظة واحدة من لحظات الزمن السرمدي لتلاشى الوجود الإلهي .
” أبوة الآب وبنوة الابن وانبثاق الروح ” ليست تشير إلى مجرد أسماء ولكن إلى أفعال تجمعها علاقة الاحتوائية المتبادلة ، أفعال تحدث في الآن المطلق ( إذا جاز التعبير ) ، أي الحدث المتجدد سرمديا في سر لايمكننا إدراكه ، حدث إنتاج الوجود الإلهي .
النعمة كصورة لعلاقة ال ” perichoresis “
” النعمة واحدة ، من الآب بالابن في الروح القدس “، عبارة شهيرة للقديس أثناسيوس الرسولي تضيء مفهوما حاكما للرؤية الأرثوذكسية من نحو النعمة .وتشير العبارة إلى أن النعمة هي كل مايكشف حضورا للثالوث القدوس في الخليقة .المفهوم واسع جدا عند أثناسيوس ، وفي رائعته ” تجسد الكلمة ” ندرك وكأن أمر النعمة يبدو كهرم متدرج تصاعدا في مستوى النعمة – تلازما وتزامنا مع تصاعد كثافة حضور الكلمة – قاعدة الهرم هي ظهور الخليقة الطبيعية الجامدة ، ثم تتصاعد النعمة في مستوى جديد من الدرج هو ظهور الحياة الحيوانية ، ثم تتصاعد النعمة في نقلة نوعية ضخمة هي ظهور الإنسان متمتعا بنعمة مماثلة الصورة الإلهية وظهور العقل البشري الذي يعتبره أثناسيوس ” ظل الكلمة “، ثم نصل إلى قمة الهرم ألا وهي الإنسان يسوع المسيح ، وهنا تكشف النعمة عن حضور للكلمة غير مسبوق ولا يمكن مقارنته بأي مستوى لحضور الكلمة في الخليقة ؛ فالكلمة قد صار جسدا ، صار الكلمة ذاته في اتحاد أقنومي مع الإنسان في شخص الرب يسوع المسيح ، وقد صار كيانه مصدرا لنعمة الطبيعة الإنسانية الجديدة – عديمة الفساد وعديمة الموت – لكل العتيدين أن يجتمعوا فيه .
تشير عبارة أثناسيوس إلى أنه بالنعمة ترتسم العلاقة الثالوثية على الخليقة ، العلاقة المدهشة التي للضمنية المتبادلة بين شخوص الثالوث نراها ظلا تكشفه النعمة ، فكل ماهو من الآب هو بالابن وهو في الروح القدس .
وأما نعمة الطبيعة الإنسانية الجديدة في المسيح ، قمة تجليات النعمة ، فهي الدخول الأبدي للإنسان إلى مظلة شركة علاقة الاحتواء المتبادل (perichoresis ) ، فتتجلى هذه الطبيعة الجديدة كصورة للثالوث القدوس ”
1- الخلقة الإنسانية الجديدة ، في المسيح – باعتبارها النعمة الأبدية الواحدة التي ” من الآب ” – هي صورة الوجود الإلهي السرمدي الذي ” من الآب “، وفيما يتقبل الابن كل ملء الآب ، سرمديا ، محققا الألوهة الكاملة ، فإن كل الذين يمتلئون – فتتأله طبيعتهم بالشركة في حياة الابن المتجسد – يبدون أبناءا بالنسبة للآب ، أي التبني .
2- الخلقة الإنسانية الجديدة ، في المسيح – باعتبارها النعمة الأبدية الواحدة التي ” بالابن ” – هي صورة الوجود الإلهي السرمدي الذي ” بالابن ” ، وفيما ينطق الكلمة الذاتي الوجود الإلهي ويعتلنه ( يخبر به ) ،سرمديا ، محققا الاستعلان المطلق للوجود الإلهي ، فإن كل البشر المجتمعين ككنيسة في كيان الكلمة المتجسد يصبحون مجالآ للإخبار باسم الآب فيعكسون صورة مجده الذاتي ، فرأس كيانهم يشهد قائلا :” أخبر باسمك إخوتي، وفي وسط الكنيسة أسبحك “( عب2 : 12 ) .
3 – الخلقة الإنسانية الجديدة ، في المسيح – باعتبارها النعمة الأبدية الواحدة التي ” في الروح القدس” – هي صورة الوجود الإلهي السرمدي الذي ” في الروح القدس “، ففيما يقبل الروح أن يكون شركة بين الآب والابن – لأنه وسط بينهما ، فهو روح الآب وروح الابن بآن واحد ، فيتجلى فيضا سرمديا بين المصدرية التي للآب ، وملئه الذي هو الابن – محققا الوجود الإلهي ذا الطبيعة الروحية الفائقة الوصف والمستحيلة الفحص من قبل غيرها – فإن كل الذين في المسيح – وإذ قد صاروا ممسوحين بالروح القدس ، مسحة وسكنى أبدية – قد صاروا شركاء الطبيعة الإلهية .
خلاصة
” من الآب ” ( المتضمن الابن والروح ) و “بالابن ” ( المتضمن الآب والروح ) ، و ” في الروح القدس ” ( المتضمن الآب والابن ) ، عبارات ثلاث تتماهى معا في مضمون واحد هو تحقيق الوجود الإلهي ، وأما النعمة في تجليها الأقصى ، في المسيح ، فهي من الآب أي التبني ، وهي بالابن أي العضوية في جسد المسيح ، الكنيسة ، وهي في الروح القدس أي الشركة في الطبيعة الإلهية ، والعبارات الثلاث تتماهى معا في مضمون واحد هو تحقيق وجود الطبيعة الإنسانية الجديدة الخالدة في ظل شركة الثالوث القدوس .
( تمت التعليقات )