كثيرًا ما تتعرض الكنيسة لأفكار وروح دنيوي غريبين عنها، ومن هذه الأفكار والروح الدنيوي القول أنه لا يوجد صوم قبل التناول؛ لأن في يوم الخميس العظيم بعد أن أكل التلاميذ العشاء الفصحي اليهودي تناولوا من يسوع المسيح جسده ودمه الإلهيَّين، “فِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ، أَخَذَ يَسُوعُ خُبْزًا وَبَارَكَ وَكَسَّرَ، وَأَعْطَاهُمْ وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا، هذَا هُوَ جَسَدِي». ثُمَّ أَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ، فَشَرِبُوا مِنْهَا كُلُّهُمْ. وَقَالَ لَهُمْ: «هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ، الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ»” (مر 22:14-24). على مَن يقول هذا القول تشبُهًا بما فعله تلاميذ يسوع المسيح يوم الخميس العظيم، عليه أن يرفض أن يكون ترتيب خدمة القداس الإلهي يوم الأحد، الذي هو أول الأسبوع، ويتمسك بأن يكون القداس الإلهي يوم الخميس. وأن ينكر على تلاميذ يسوع اجتماعهم يوم الأحد لكسر الخبز، كما يُذكر في سفر أعمال الرسل: “وَفِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ إِذْ كَانَ التَّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِيَكْسِرُوا خُبْزًا” (أع 7:20).
وأيضًا إن قيل أنه لا يوجد صوم قبل التناول؛ لأن عشاء المحبة ارتبط بسر الشكر، فكان المؤمنون يعملون عشاء المحبة ثم يقومون بعد ذلك بالالتفاف حول مائدة الافخارستيا (سر الشكر الإلهي) كما التلاميذ الذين “كَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ، وَالشَّرِكَةِ، وَكَسْرِ الْخُبْزِ، وَالصَّلَوَاتِ” (مر 43:2). لا يدرك أن ارتباط عشاء المحبة بسر الشكر هو حقيقة لعيش المؤمنين سر الشكر كمائدة محبة، كما كان العشاء السري عشاء محبة المسيح اللامتناهية نحو تلاميذه. غير أنه بسبب سلوكيات لا تليق بمائدة المحبة، كأجواء السَمَر والاجتماعيات والخلافات والشِلَلِيَّة والتَحَزُّب، التي أدت إلى الخلط بين موائدة المحبة ومائدة الرب (سر الشكر)، تم فصل سر الشكر عن مائدة المحبة بسبب الروح الدنيوي الغريب عن روح المسيح. تلك السلوكيات التي أشار إليها بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس بقوله: “وَلكِنَّنِي إِذْ أُوصِي بِهذَا، لَسْتُ أَمْدَحُ كَوْنَكُمْ تَجْتَمِعُونَ لَيْسَ لِلأَفْضَلِ، بَلْ لِلأَرْدَإِ. لأَنِّي أَوَّلاً حِينَ تَجْتَمِعُونَ فِي الْكَنِيسَةِ، أَسْمَعُ أَنَّ بَيْنَكُمُ انْشِقَاقَاتٍ، وَأُصَدِّقُ بَعْضَ التَّصْدِيقِ. لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَكُمْ بِدَعٌ أَيْضًا، لِيَكُونَ الْمُزَكَّوْنَ ظَاهِرِينَ بَيْنَكُمْ. فَحِينَ تَجْتَمِعُونَ مَعًا لَيْسَ هُوَ لأَكْلِ عَشَاءِ الرَّبِّ. لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَسْبِقُ فَيَأْخُذُ عَشَاءَ نَفْسِهِ فِي الأَكْلِ، فَالْوَاحِدُ يَجُوعُ وَالآخَرُ يَسْكَرُ. أَفَلَيْسَ لَكُمْ بُيُوتٌ لِتَأْكُلُوا فِيهَا وَتَشْرَبُوا؟ أَمْ تَسْتَهِينُونَ بِكَنِيسَةِ اللهِ وَتُخْجِلُونَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ؟ مَاذَا أَقُولُ لَكُمْ؟ أَأَمْدَحُكُمْ عَلَى هذَا؟ لَسْتُ أَمْدَحُكُمْ” (1كو 18:11-22).
بهذا الفصل لسر الشكر عن مائدة المحبة، نُقلت مائدة المحبة لما بعد سر الشكر، بذلك مُنع الأكل قبل سر الشكر. وقد فعلت الكنيسة هذا اقتداء بما فعله بولس الرسول الذي في مساء (غروب) يوم الأحد (الغروب بحسب التقويم العبري هو بداية اليوم الجديد، ويُحدد على أساس الشمس، أي ما بين الساعة الثانية والساعة الخامسة من بعد الظهر) اجتمع مع التلاميذ وأطال الكلام إلى منتصف الليل، وبعد منتصف الليل كسر الخبز وأكل وتكلم حتى الفجر، “فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ إِذْ كَانَ التَّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِيَكْسِرُوا خُبْزًا، خَاطَبَهُمْ بُولُسُ وَهُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمْضِيَ فِي الْغَدِ، وَأَطَالَ الْكَلاَمَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ. وَكَانَتْ مَصَابِيحُ كَثِيرَةٌ فِي الْعِلِّيَّةِ الَّتِي كَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِيهَا. وَكَانَ شَابٌّ اسْمُهُ أَفْتِيخُوسُ جَالِسًا فِي الطَّاقَةِ مُتَثَقِّلاً بِنَوْمٍ عَمِيق. وَإِذْ كَانَ بُولُسُ يُخَاطِبُ خِطَابًا طَوِيلاً، غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ فَسَقَطَ مِنَ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ إِلَى أَسْفَلُ، وَحُمِلَ مَيِّتًا. فَنَزَلَ بُولُسُ وَوَقَعَ عَلَيْهِ وَاعْتَنَقَهُ قَائِلاً: «لاَ تَضْطَرِبُوا! لأَنَّ نَفْسَهُ فِيهِ». ثُمَّ صَعِدَ وَكَسَّرَ خُبْزًا وَأَكَلَ وَتَكَلَّمَ كَثِيرًا إِلَى الْفَجْرِ. وَهكَذَا خَرَجَ. وَأَتَوْا بِالْفَتَى حَيًّا، وَتَعَزَّوْا تَعْزِيَةً لَيْسَتْ بِقَلِيلَةٍ” (أع 7:20-12).
وهكذا كان الاجتماع الليتورجي في العصر الرسولي يُقام في أول الأسبوع، أي غروب يوم الأحد. وحين قارب القرن الأول على نهايته كانت الافخارستيا تُقام بمعزل عن مائدة المحبة. فكان المؤمنون ينقطعون عن تناول الطعام مساء (غروب) الأحد إلى وقت الاجتماع الافخاريستي، أي سر الشكر، والذي كان يستمر حتى منتصف الليل ثم تتم المناولة من القرابين الإلهية، ثم تقام مائدة المحبة. هكذا ارتبطت خدمة القداس الإلهي بالصوم الإفخاريستي، لما له معانٍ لاهوتية في علاقته مع القداس الإلهي. كما ارتبطت خدمة القداس الإلهي في العصور القديمة، وخاصة في الأعياد السيدية الكبيرة، بصلاة المساء المعروفة بصلاة الغروب، ذلك كما اليوم في خدمة قداس باسيليوس الكبير المتصل بصلاة المساء (الغروب) التي تقام يوم الخميس العظيم ويوم السبت العظيم. مَن يريد اليوم أن يخدم القداس الإلهي في المساء عليه أن يقيم خدمة قداس باسيليوس الكبير المتصل بصلاة المساء، على أن يبدء الصوم من غروب اليوم الذي يقام فيه، أي الساعة الرابعة مساء، ويكون التناول بعد منتصف الليل.
وكان أول ظهور لبداية الليتورجيات (القداس الإلهي) في القرن الثاني، وصارت الافخارستيا تقام في الصباح بدلًا من المساء. ثم ما بين القرنين الثاني والثالث تشكلت صلاة السَحَر وأخذت خدمة القداس الإلهي ترتبط بخدمة هذه الصلاة. وتم نقل خدمة القداس الإلهي من المساء إلى الصباح عند شروق الشمس، لما له أيضًا (شروق الشمس) معانٍ لاهوتية في علاقته مع القداس الإلهي. كما أنه وبسبب ارتباط التناول من الجسد والدم الإلهيين بالصوم الإفخاريستي، الذي كان يبدأ من غروب اليوم الذي يُقام فيه القداس الإلهي، أخذت الكنيسة في عمق ضميرها الكنسي بأن القداس الإلهي ينبغي أن يُقام دومًا في الصباح، وأن تكون فترة الامتناع الكامل عن الأكل من منتصف يوم الليلة التي يُقام فيه القداس الإلهي تلطيفًا منها للمتقدمين للتناول بسبب ضعف الجسد.
كما إن مَن يرفض الصوم قبل التناول؛ لأن التلاميذ يوم الخميس العظيم لم يصوموا بل تعشوا ثم مباشرة أعطاهم يسوع المسيح الجسد والدم الإلهيين، بالإضافة إلى إنه عليه أن رفض أن يقام القداس الإلهي يوم الأحد، فإنه عليه أيضًا أن يرفض أن يقام سر الشكر وبالتالى سائر الصلوات في أماكن صلاة خاصة، أي في الكنيسة، بل أن يُقاموا في المنازل؛ لأن يسوع المسيح يوم الخميس العظيم اجتمع هو وتلاميذه في منزل،”فِي الْيَوْمِ الأَوَّلِ مِنَ الْفَطِيرِ. حِينَ كَانُوا يَذْبَحُونَ الْفِصْحَ، قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: «أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نَمْضِيَ وَنُعِدَّ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ؟». فَأَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمَا: «اذْهَبَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَيُلاَقِيَكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اِتْبَعَاهُ. وَحَيْثُمَا يَدْخُلْ فَقُولاَ لِرَبِّ الْبَيْتِ: إِنَّ الْمُعَلِّمَ يَقُولُ: أَيْنَ الْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟ فَهُوَ يُرِيكُمَا عِلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً مُعَدَّةً. هُنَاكَ أَعِدَّا لَنَا». فَخَرَجَ تِلْمِيذَاهُ وَأَتَيَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا. فَأَعَدَّا الْفِصْحَ” (مر 12:14-16).
إن مثل هذه الأقوال بالتمسك بالحرف تجعل الكنيسة خالية من الحياة، وإنكار متعمَّد لعمل الروح القدس العامل في الكنيسة وفي مؤمنيها وقديسيها المتوشحين بالله الذين رتبوا الخدمات الكنسية، بما يتوافق مع تعليم يسوع المسيح، لتَرفع مؤمني الكنيسة عن الارتباطات الجسدية ليحيوا حياة روحية، كما يقول بولس الرسول في رسالته الثانية لأهل كورنثوس: “لأَنَّ الْحَرْفَ يَقْتُلُ وَلكِنَّ الرُّوحَ يُحْيِي” (2كو 6:3). كما تقود الكنيسة إلى الجمود وتجعلها ماض فقط وليس حاضر ومستقبل، وتفصلها عن ربها ومؤسسها ومُوْجِدها، وتجعلها تاريخًا وذِكرَى. كما أن أصحاب هذه الأقوال بأن ما لم يأتي في الإنجيل هو مرفوض، عليهم أن يرفضوا قرارات المجامع المسكونية السبع التي أوضحت أسس الإيمان المسيحي مهما كانت رتبتهم الكنسية أو تعاليمهم اللاهوتية. فأكبر الهراطقة في الكنيسة الذين أدانتهم المجامع المسكونية المقدسة كانوا من كبار رجالها، أمثال أريوس الكاهن الإسكندري ونسطوريوس بطريرك القسطنطينية وأوطيخة رئيس دير في القسطنطينية. كما أن أصحاب هذه الأقوال هم مُتأثرون بالمحيط الديني غير المسيحي الذي حولهم، القائل: “إن كل شيء مكتوب في الكتاب، وما ما لم يأتي به الكتاب هو مرفوض”. وهم بهذا يرفضون عمل الروح القدس في الكنيسة الذي يُحيِّها وحيا فيها. ذلك كما تأثر الإمبراطور لاون الثالث (ليون الثالث)، المُلقب بـ”لاون الزبلي”، بالمحيط الديني غير المسيحي الرافض لتشخيص ورسم يسوع المسيح والأنبياء والقديسين، فشن حربًا ضد الأيقونات. وانتهت هذه الحرب بعقد المجمع المسكوني السابع عام 787م في نيقية الذي أقر بتكريم الأيقونات لارتباطها بسر التجسد. وقد رتبت كنيستنا الأرثوذكسية أن يكون أول أحد من الصوم الفصحي، أو الصوم الكبير، عيدًا لتكريم الأيقونات، وقد تأسس هذا العيد عام 842م بعد هزيمة مُحاربي الأيقونات.
المطران / نقولا أنطونيو
مطران طنطا وتوابعها
للروم الأرثوذكس