الكلمة صار جسداً. حقيقةٌ، ليست عبارةً أو سطراً. الجسدُ حقيقةٌ تنطق الكلمات، ولا يتحول إلى كلمات. محبةٌ لا تعرف الحدود. لم يتكلم، ولكن تجسد لكي يتكلم، تطابَقَ الخطاب مع حياته، ومع موته. ولمَّا مات على الصليب حُراً، أباد الموت، وقام لكي يحيا من جديد في جسدنا.
وحَّد حياته بحياتنا، من كل كلمة وعبارة، نرى عيونك وهي تشاهد الفلاح يزرع والمرأة تعجن، والصبي العنيد المتمرد، والجبان والمتردد، وحولك المحب والخائن، وجامع الضرائب، والزناة، وفي موتك المحيي مات معك لصٌ سارقٌ، وربما قاتلٌ. هذا دستور تجسدك لأنك لا تزال تطلب أكثر من سامرية في كنائسنا، ومئات مثل المجدلية، وأسقف لا يختلف عن يهوذا إلَّا في الاسم واللقب، وشياطين في أجسام بشر تنطق بالجحود وتحاول تزييف المحبة، وتلبس رداء السلطة، وتغطي السلطة بالصليب الذي لم يكن أبداً سلطةً، بل ذبحاً لكل سلطة.
أخذتَ صورة العبد (فيلبي 2: 6)، فصار العبدُ فيك ممجَّداً، فقد عَبَرَ فيك حواجز الانفصال، والموت، وخلع شوكة الدينونة، وأبطل حكم الفساد الذي طلبه آدم لنفسه ولنا.
وقمت -دون ان يفسد جسدك- لأن عدم الفساد هو ختم قربانك، تختم به من يأكله لكي يجلس معك على عرشك الإلهي حيَّاً مثلك إلى الأبد، ولكن بك (رؤ 3: 21).
عندما خلقنا الله على صورته، ردَّ الإنسانُ المعروفَ الإلهي، فخلق لنفسه آلهةً. وعندما تفشل الأصنام المنظورة، يعود فيخلق لنفسه الأصنام غير المنظورة، تلك التي تُسمَّى الآن “عقدٌ نفسيةٌ”. عندما يجتمع عابدو الأصنام يختارون صنماً يسجدون له ويجدِّفون عليه في قلوبهم. فالعبيد يأكلون الخوف، ويشربون العبودية، ومن قدَّم لهم كأس الحرية شتموه وقتلوه. أمَّا أنت يا سيد الأحرار لا ترضى أن تكون سيداً على عبيد، بل سيداً مع سادة. فالعبد لن يعرف المحبة، وصوتها غريب على آذانه. أنت أخليت ذاتك وصرت عبداً لكي تحرر العبيد، ولم تبقَ في العبودية، بل كنت العبدَ الحرَّ؛ لأنك ربُّ المحبةِ، والمحبة لا تعرف العبودية، ولا تتعامل معها. المحبة تسير بقدمي الحرية.
عندما تجسدتَ أظهرت في صورة العبد، أي الإنسان الحياةَ الحقة، فلم تكن عبداً لغيرك ولا سجدت إلَّا للآب. جئتَ لكي تحيا معنا، ولم يكن هذا كافياً، بل أردتَ أن تكون في كياننا، ولم يكن هذا هو آخر العطاء، بل جعلتَ مصيرك هو مصيرنا. مصيرٌ واحدٌ؛ لأن الحياة التي تسكبها فينا هي حياتك التي لا تنفذ لأنها غلبت الموت.
الإنسان هو عيدُكَ الأبدي؛ لأنك أخذته جنيناً، ووُلدتَ بشراً وعشتَ بشراً ومُتَّ كما يموت كل ذي جسدٍ، ولكن عشقَكَ للإنسان جعلك تقوم من الموت وتحيا إنساناً جديداً غير مائتٍ؛ لأن المحبةَ لا تموت. هذا هو عيدك الأبدي.
ترى كل إنسان في يديك وفي قدميك وكل كيانك، ترى رباط المحبة، ترانا جميعاً بذات العينين اللتين قبلتا نورَ شمسِ مولدكَ، ورأت أثقال البشر المنكسرين.
لم تتردد في أن تعطي جسدك حتى ليهوذا الخائن؛ لأنك لا تحاسب الخطاة حسب خطاياهم، بل حسب محبتك، ولا يوجد فرقٌ حقيقيٌّ بين بطرس ويهوذا سوى يأسُ الخائنِ الذي دفعه إلى الانتحار. فالخطية عندك ليست درجات ومقاسات، هي واحدة، هي عدم المحبة الحقيقية.
أنت في كيانك المتجسد هو عيد الله نفسه، فالله يعيِّدُ معنا وبنا انتصار المحبة في اتحاد الطبيعتين، وفي ردِّ المجد الإلهي لصورته، وبعطية حياة أبدية، هي حياته الإلهية.
الإنسانُ هو ليتورجيتُكَ أيها المتأنِّسُ لأجلنا، وعندما تحب ناسوتكَ، فأنت بذات المحبة التي لا تدخلها الكبرياء، ولا تعرف خوف الأنانية، تحبُ كل إنسانٍ؛ لأنك صرت إنساناً من أجل كل إنسان.
هذا هو قُدَّاسُكَ الأبديُّ يأتي إلينا في تقدمةٍ أنت واهبُها، وأعطيت لنا حرية التقديم لكي نأتي إليك بحرية.
تُعَيْدنا عندما تغسلنا، فهذا عيدُك الحقيقي. وعندما تهب الحياة لنا، تحتفل بانتصارك على القبر.
وعندما تؤلِّهُنا بالخلود، تنطق السمواتُ بجودكَ؛ لأنك لم تحفظ الخلود لذاتك وحدها، بل شاركت الكل فيه لأن الخلودَ صار مثل خميرةٍ “تخمِّرُ العجين”.
التجسدُ أظهر العظمة الحقيقية في تواضعٍ جعل القوةَ تخدم دون أن تقف عند حَدٍّ؛ لأنك في كل يوم لا تزال تغسل كل الخطاة([1]). وفي كل يوم تفتشُ عن قطعانٍ ضالةٍ، فلم يعد لديك خروفٌ واحدٌ ضالٌّ، بل كثرةٌ؛ لكي تقودَ الكلَّ إلى ينابيع الحياة.
يا إله المحبة هل حوَّلت تجسدك إلى كلمات؟
ذلك خوفٌ يدبُ في قلبي وأنا أكتب، ولكن عذري المقبول عندك هو أن تجسدك جعل إفرام يُنشدُ، والنزينزي مثل أسدٍ يزأرُ، وجمهوراً من شهداءٍ ونساكٍ عرفوكَ متجسداً، فنطقوا بتجسدك، ولم يتحول تجسدك إلى نطقٍ، بل جَسَّدَ النطقُ حقيقةَ محبتك.
اليومَ ستدُقُ أجراسَ كنائسٍ لم تحترق. وكنائسُ أخرى صارت رماداً سوف يحلُّ بها صمتُ الشهادةٍ. ومع دقات أجراس الكنائس، وصمت جدران وبقايا أخرى وعظام وأجساد ودماء، سوف نرى حقيقة تجسدك؛ لأننا عندما نحب الآخر نحب الوطن؛ لأن الآخر هو من نراه كإنسانٍ مقهورٍ خائفٍ يفتش عن الحرية، وقبل ذلك عن رغيف عيشٍ، وشارعٍ آمنٍ، ووطنٍ لا عبيد فيه.
لم تذهب إلى أي بلدٍ آخر سوى مصر. زرعتَ فيها عشاقاً كثيرين. خطٌّ امتد من مار مرقس إلى أنطونيوس، وأثناسيوس الكبير، وكيرلس خاتم الآباء ومارينا وتاليدا وتاوضرورة، وجيشٍ من الشهداء. وها أنت عُدتَ تسير في شوارع الإسكندرية تفتش عن الذين يرغبون في إكليل الشهادة. ذهبت إلى ملوي والمنيا ودلجا والكشح وشوارع القاهرة، وارتفع صوتُكَ عالياً في ميدان التحرير، وصُلبتَ في سيناء لكي نسير في آمانٍ. تلك هي ملحمةُ تجسدكَ الجديدةُ في كل جيل. وكلامنا عنها مهما كان، هو قليلٌ؛ لأن تجسدك ليس كلاماً، بل حياةٌ تجودُ.
لحنُ تسجدِكَ أيها الملك وإله المحبة، هو نشيدُ كل قلبٍ يتوق إلى الحرية، ويجد في اسمك الاستعلان الحق لكل ما يمكن أن يكونَ حقاً؛ لأنكَ “مملوءٌ نعمةً” وأنت الحق الذي يكشف زِيفَ حياتنا التي لو اتحدت بكَ؛ لصارت حقاً متجسداً.
يا مَن تحيا كل يوم وإلى الأبد في جسدنا وحياتنا الإنسانية، ونقلت جنسنا إلى الحياة الإلهية لأنك اتحدت به، وجعلت النعمة شركة، والشركة حياة والحياة حياةً أبدية، كنيسة مصر وديعة غالية عندك، لك فيها مذابح حية، ورُكب لم تسجد إلَّا لك، احفظها دائماً كما حفظتها من عواصف الموت؛ لأنها مثل جسدك، عديمة الفساد، فقد سرت فيها قوة قيامتك، وباركتها باتحادك بها رأساً واحداً لجسدٍ واحدٍ.
لك المجد الدائم مع أبيك الصالح وروحك القدوس.
كل عام وأنتم جميعاً بخير … أعاد الله عيد تجسد الابن الوحيد علينا، ونحن في ملء النعمة، وسلامٌ لمصر الأرض والشعب والجيش والشرطة.
دكتور
جورج حبيب بباوي
يناير 2014
([1]) قال القمص مينا المتوحد إن سبب وضع مزمور 50 في كل صلاة من صلوات السواعي هو استعلان رحمة الله ومحبته التي تجعله يغسل أحقر خطاة الأرض.