سوف نرى عبر الصفحات التالية أن التعليم الرسولي يؤكد إن صلتنا بالرب يسوع ليست صلة فكرة وعاطفية وروحية فقط، بل هي صلة بجسده ودمه ولاهوته، وإن ما حدث في بيت لحم والأردن والعلية والجلجثة والقبر هو أساسات الخلاص التي أسسها الرب نفسه، وهي الأساسات التي جعلها الرب ينابيع خلاص. فمن ميلاده من العذراء أخذنا ميلادنا وأصلنا الجديد، ومن معموديته أخذنا مسحة الروح القدس، ومن العلية أخذنا هبة سر الإفخارستيا، ومن الجلجثة أخذنا الغفران وإبادة الموت، ومن القبر أخذنا الحياة الأبدية والقيامة وعدم الفساد، ومن الصعود أخذنا ميراث الملكوت ودخول الموضع الذي لم يدخل إليه أي إنسان من قبل، حسب كلمات قسمة سبت الفرح.
المسيح والمسيحي وشركة الجسد الواحد
التعليقات
مواضيع ذات صلة
Related Posts
- عن التجسد
التجسُّد يمثل قلب وجوهر الديانة المسيحية. ولأن الله قد أعلن عن نفسه في الطبيعة الإنسانية،…
- حوار عن التجسد
صديقي إبراهيم من الذين يحبون البحث والدراسة والتعمق في فهم العقيدة المسيحية. وقد دار بيننا…
- الكنيسة جسد المسيح، المسيح والمسيحي وشركة الجسد الواحد
سوف نرى عبر الصفحات التالية أن التعليم الرسولي يؤكد أن صلتنا بالرب يسوع ليست صلة…
تعليق واحد
شخص المسيح ، المتفرد
يمكننا أن نرصد تفرد شخص المسيح من جهة هويته كشخص يثمره الاتحاد الأقنومي بين عنصرين : الله والإنسان . وأيضا نستطيع أن نرصد تفرد كل عنصر من العنصرين ، على حدة ، كالآتي :
1- تفرده ، كشخص الكلمة المتجسد
كلمة ” شخص ” – بالرغم من بساطتها الظاهرة – هي كلمة عميقة جدا ، ويكاد يكون عدم سبر أغوارها هو الباعث الأساسي لجميع الهرطقات التي شكلت تحديا للفكر الخريستولوجي على مر العصور . وليس أدل على ذلك من هرطقة نسطور ، التي كانت تعني بكل بساطة أن الرب يسوع المسيح ليس ” شخصا ” ؛ فما يعنيه أن للرب طبيعتين – حسب زعمه – هو أننا بصدد ” مسيحين ” لا مسيح واحد : مسيح اللاهوت ، ومسيح الناسوت ( طبيعة اللحم والدم ) !
ولكي ندرك عمق مفهوم ” الشخص ” وضلوعه في وجودنا أكثر مما نتخيل أو نتصور، نعود بالقضية إلى أصولها فنناقش بعض الأمثلة :
. هوية المادة – كمادة ، كما نختبرها في هذا العالم وكما كشفها العلماء – هي ثمرة تواجد متبادل ( أو احتواء متبادل أو ضمنية متبادلة ) بين ظاهر المادة الذي نختبره وندركه بحواسنا وبين باطنها الذي هو منظومة معقدة من القوانين الطبيعية المفعلة بصور مختلفة من الطاقة . المادة والطاقة صورتان ووجهان لعملة واحدة ، وإمكانية تحول صورة إلى أخرى تبقى من أعظم الحقائق التي كشفها العلم ، بفضل عبقرية أينشتين ومعادلته الشهيرة .
خلاصة القول هي أن هوية ” المادة ” – كمادة – هي في “الضمنية المتبادلة ” بين ظاهر المادة المحسوس وباطنها الخفي ، وأما فض تلك العلاقة ، فض تلك الهوية ، فهو انهيارالمادة وفناؤها .
. أيضا هوية الوجود البيولوجي ( الحيواني ) هي ثمرة ” ضمنية متبادلة ” بين ظاهرمحسوس هو ” اللحم والدم ” وباطن خفي هو ” الفسيولوجي ” الذي يستعلن كل مظاهر الحياة البيولوجية ، في منظومة أكثر تعقيدا للقوانين الطبيعية مما هو كائن في المادة غير الحية . وأما فض تلك العلاقة فمعناه الموت البيولوجي .
. وأيضا هوية الوجود البشري هي ثمرة ” ضمنية متبادلة ” بين الجسد البشري الظاهر والنفس البشرية العاقلة ، التي تمثل قمة هرم الوعي الكوني ( كبنية معقدة من القوانين الطبيعية ) .
الإنسان هو النفس البشرية المستعلنة جسدا بشريا . والإنسان ، أيضا ، هو الجسد البشري المستعلن نفسا بشرية . وأما فض تلك العلاقة من الإحتواء المتبادل بين النفس والجسد هو ” الموت ” للنفس وللجسد في ذات الوقت .
إذن ، الهوية الشخصية هي سر وجود كل ما هو موجود . فالوجود هوية شخصية ، والعدم هواللاهوية واللاشخصية .
وأما هوية ” شخص المسيح “، الكلمة المتجسد فهي قائمة ومحققة كثمرة للاتحاد الأقنومي ( الشخصي ) ( Hypostatic Union) بين لاهوت الكلمة المتجسد وناسوت الكلمة المتجسد . وأما قبل – أو بعد – الاتحاد (بالتجسد ) فلا وجود منعزل أو مستقل أو منقصل لأي عنصر من عنصري الاتحاد ، ويظل التعبير الوحيد الصحيح عن الاتحاد الأقنومي هو في قدرتنا أن نقول- فقط – أن الرب يسوع هو الله الكلمة ، وهو قدرتنا أن نقول أيضا – فقط – أن الرب يسوع هو الإنسان الكامل ؛ فكلا العبارتين صحيحتان لأن إنسانية الكلمة المتجسد تستوعب لاهوت الكلمة المتجسد – بنفس القدر – في تلازم وتزامن لاستيعاب لاهوت الكلمة المتجسد لإنسانية الكلمة المتجسد .وفقط في هذه الضمنية المتبادلة بين العنصرين يتجلى عمق الاتحاد الأقنومي المحقق لشخص المسيح .
والأمر بخصوص ” شخص ” المسيح ليس انقطاعيا – كما يبدو في ظاهره – بالنسبة للمفهوم العام الذي رصدناه للشخص بخصوص الوجود الطبيعي في كل الخليقة ، فحقيقة الأمر هي أن شخص المسيح يمثل قمة تجلي مفهوم هوية الشخصية الكونية . فالقضية تبدو مفهوما متصلا ( continuum ) يمكن رصده ؛ فما قصدناه بتعبير ” الوعي ” الكائن في أعماق المادة ، والمتمثل في منظومة القوانين الطبيعية – والذي يتطور ويتعقد ليبدو وعيا حيا ( في الوجود البيولوجي ) ، ويبلغ ذروة تطوره وتعقيده بظهور الوعي البشري ( النفس البشرية ) – هو هذا الطيف من الاحتمالات المتصاعدة ، تعقيدا ، لمفهوم الهوية ( الشخص ) . ذلك الطيف الذي يستعلن مستويات متصاعدة من كثافة حضور الكلمة في الخليقة ؛” فكل شيء به كان” وهو حاضر ، وحضوره مستعلن في كل موجود . ومن هنا نستطيع أن نقول بأن ظهور” شخص ” الكلمة المتجسد في الكون ليس حدثا تعسفيا بل أن ذاك الذي هو حاضر في كل ما يمكن أن نرصده من ” شخوص وهويات ” ، هو ذاته قد ظهر بكل ملء لاهوته في إنسان ينتمي إلى الخليقة .
وهنا نستطيع أن نرصد فرقا نوعيا هائلا في مفهوم حضورشخص المسيح، فلم يعد شخص الكلمة حاضرا بصفة مؤقتة في الكون – تدوم باستمرار الكون ، وفقا لاستمرارية حضوره فيه – بل أصبح حاضرا إلى الأبد في اتحاد شخصي لا ينحل لأن الجسد الذي أخذه بتجسده قد أصبح جسده الخاص الذي يتضمن ويستوعب ملء لاهوته .
وهنا نستطيع أن نقول بأن شخص المسيح ، الكلمة المتجسد هو ” شخص الشخوص ” ( إن جاز التعبير ) ، وهو مآل كل الشخزص والهويات . هو ملء السر الكوني ،الذي كانت كل الشخوص والهويات – التي نستطيع أن نرصدها والتي لا نستطيع – رمزا له .
2- تفرده ، كشخص الابن الذاتي
هنا يحملنا حديث التفرد إلى الثالوث القدوس لنرصد مفهوما آخرا للشخص . فشركة الثالوث القدوس هي شركة ديناميكة يتضمن كل شخص ، فيها كل من الشخصين الآخرين . كل شخص بالنسبة لأي من الشخصين الآخرين هو ” هوموأوسيوس ” ، أي له ذات الجوهرالذي يستعلنه كل شخص من الشخصين الآخرين .
إذن ، تفرد شخص المسيح من منظور شركته في الثالوث ، كشخص الابن ، هو في كونه الابن الوحيد ( الفريد = monogenis ) ، هو الشخص الذي يقوم وجوده من خلال ضمنية متبادلة مع كل شخص من الشخصين الآخرين ، مع الوضع في الاعتبار أن كل شخص من هذين الشخصين له ذات الجوهر الذي للابن . بمعنى أن الوحدة المقيمة للشخص ليست وحدة بين عناصر متمايزة ، أو مختلفة في طبيعتها وجوهرها – كما في الوجود الطبيعي ، وكما في شخص الرب يسوع ، ذاته – بل هي وحدة وشركة بين من هم لهم ذات الجوهر الواحد .
المسيح ، كشخص الابن ، هو الابن الذاتي ، لأنه وحده ، دونا عن غيره – من ضمن من قيل لهم أنهم أبناء – الذي يستقبل وجوده من أبيه بينما هو له ذات الجوهر الذي لأبيه ، أي : ” هوموأوسيوس” بالنسبة لأبيه ( Homoousios tou Patri ) .
3- تفرده ، كشخص الإنسان الكامل
هوية شخص المسيح كإنسان كامل قد طالها الكثير من عدم الوضوح ، بل عدم الفهم ؛ فالشائع هو أن إنسانية الرب الكاملة لا تعني أكثر من أن الكلمة بتجسده قد صار ” فردا ” إنسانيا ، كأي إنسان آخر . وأما واقع الحق الإنجيلي فهو أن إنسانيته الكاملة لاتعني أنه فرد إنساني ، بل تعني شخصا فريدا لامثيل له ، تعني شخصا ” جماعيا ” يستوعب شعبا في جسده ، ليس على سبيل مجازي أو بلاغي بل على سبيل ” عضوي ” ، تعني شخص المسيح الممتلئ والمتحقق بوجود جميع أفراد الكنيسة ( جميع أفراد الخليقة الإنسانية الجديدة ) في علاقة عضوية كيانية جسدية ، معه ، وفيه . فالرسول بولس يقرر ذلك في وضوح شديد ، إذ يقول : ” وهو أعطى البعض أن يكونوا رسلا ، والبعض أنبياء ، والبعض مبشرين ، والبعض رعاة ومعلمين ، لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة ، لبنيان جسد المسيح ، إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله . إلى ” إنسان كامل ” ( andra teleion ) . إلى قياس قامة ” ملء المسيح ” … بل صادقين في المحبة ، ننمو في كل شيء إلى ذاك الذي هو الرأس : المسيح ، الذي منه كل الجسد مركبا معا ، ومقترنا بمؤازرة كل مفصل ، حسب عمل ، على قياس كل جزء ، يحصل نمو الجسد لبنيانه في المحبة ” . ( أفس 4 : 11 – 16 ) .
الملحوظة الهامة – هنا – هي ما يأخذنا إليه النص اليوناني لهذا الاقتباس من عمق كاشف لحقيقة هوية المسيح كإنسان كامل ، فلم ترد كلمة ” إنسان = anthropos ” بل وردت كلمة ” رجل = andra “، وهذا يعود بنا إلى أصل الأشياء ، فالله خلق الإنسان – من البدء – رجلا وامرأة ، بمعنى أن كلمات الرسول تكشف أن حقيقة شخص المسيح كإنسان كامل هي في كونه رجل واحد يحتوي امرأته ( الكنيسة ) داخل كيانه ؛ فهي قد صارت لحمه وعظامه ومفاصله وأعضاءه . وقد أشار الرسول إلى هذا المعنى في موضع آخر إذ قال : ” خطبتكم لرجل واحد ، لأقدم عذراء عفيفة للمسيح ” ( 2كو 11 : 2 ) . هذا هو ” السر العظيم ” ( أفس 5 : 32 ) ، سر شخص المسيح الإنسان المستوعب لكنيسته في داخله .
. والمسيح ، كشخص الإنسان الكامل ، يعبر عنه إنجيليا بلقب آخر – قد طاله ماطال ” الإنسان الكامل ” من عدم الفهم العميق – هو ” ابن الإنسان ” . وهو أيضا لا يعني أن الرب قد دعي – بتجسده – إبنا للإنسان لأنه صار فردا إنسانيا ، بل يعني أن شخص المسيح الممتلئ بكنيسته هو الوجود الحقيقي ، الجديد ، ” للجنس البشري ” . هو آدم الأخير ، هو موطن وجود كل البشر المعينين للخليقة الجديدة ، فيه .
ولقب ” ابن الإنسان ” يمتد بجذوره في عمق الكتاب ، فهذه هي شهادة دانيال في رؤياه ( دا : 13-19 ) ، إذ رأى “ابن الإنسان ” كمعادل وكمكافئ ” لقديسي العلي ” ، بمعنى أنه كيان جماعي يضم جميع القديسين الذين هم – جميعا ، معا – الإنسانية الجديدة .
ومن هذا المنظور نستطيع أن نفهم فحوى ذلك المشهد الإنجيلي ” الكلاسيكي ” لمجيء ” ابن الإنسان “، ، إذ يأتي على سحاب السماء بقوة ومجد كثير ويرسل ملائكته فيجمعون المختارين من الأربع الرياح . إذن ، مجيء ابن الإنسان هو مناسبة وحدث تجميع المختارين في كيان عضوي واحد ، الحدث الذي يتحقق الآن في الكنيسة إلى أن يمتلئ ابن الإنسان بالمختارين ويتحقق وجوده وحضوره ( parousia ) الكامل ،أي يتحقق الإنسان الكامل .
. تفرد شخص المسيح كإنسان كامل هو في جماعيته ( كاثوليكيته ) ، فهو ليس ربا يعبده البشر، من الخارج ، بل هو رب جامع لشعبه في شخصه ، في جسده ، في ذاته ، حتى أن كماله كشخص إنساني لا يتحقق إلا بوجود الجميع فيه ، كملء له ، وإلا فالفرض المستحيل هو أن يبقى البشر خارج كيانه فيبقى هو رأسا بلا أعضاء ، وتبقى الكنيسة جسدا مقطوع الرأس !
. كلمة أخيرة
ليس لدينا عبارة ، من الممكن أن تكثف هذه الرؤية البانورامية ” الثالوثية ” – كما رصدناها – لشخص المسيح المدهش ، أعظم مما قد جاء على لسان الرب ذاته ، مخاطبا الآب : ” وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ، ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد . أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد ، وليعلم العالم أنك أرسلتني ، وأحببتهم كم أحببتني ” .( يو17 : 22 و 23 ) .