الاحتماء بالماضي دون دراسة التاريخ
أملٌ يتحرك في داخلنا، يسير مع الأحداث ومشاهد العنف الدموي الذي نراه تقريباً كل يوم، والأمل في انحساره بفضل شجاعة القوات المسلحة والشرطة، ويقظة الشعب المصري الذي لم يكن للإيمان دورٌ ثانويٌّ في تاريخه الطويل. فهو يؤمن ويمارس ما يؤمن به. فظاهرة الإيمان ليست غريبةً على مصر، بل هي أحد ثوابت الحياة المصرية.
على أن استغلال الإيمان والخطاب الديني عبر تاريخ مصر، ليس جديداً، ولا هو ابتداع الحركات الإسلامية، بل هو سابقٌ على ما يسمى بالإسلام السياسي في زماننا.
ولو بحثنا عن مقاومة النهضة الفكرية في عالمنا الناطق باللغة العربية، فإن الباحث سوف يلاحظ أن العودة إلى التراث القديم كانت أحد نقاط الوثوب على السلطة وقهر الحياة. لأن التراث يقدَّم حسب اختيار مَن يقدمه، وحسب اختيار مَن يستغله، بل وحسب الهدف السياسي أو الاجتماعي.
ليست هذه ظاهرة مصرية فقط، بل هي ظاهرة عامة في دول العالم الثالث. أتحدث عن ظاهرة استبعاد التاريخ إن كان عن جهل أو عدم قصد. لكن غياب التاريخ هو بالضرورة أساس كل تطرف يرى أن الحق المطلق هو عند هذا أو ذاك من البشر.
ومع غياب التاريخ تنمو الفتاوى والاجتهادات الآنية التي تخدم حقبة زمنية معينة، تُفصَل عن السياق التاريخي، ولا تضع في الاعتبار “المستقبل”، ذلك البُعد الغائب.
إذن، سيبقى الخطاب الديني كما هو حتى تنمو دراسات التاريخ، أي تاريخ الأفكار والمعتقدات – تاريخ الممارسات – تاريخ تطور القيم الاجتماعية – تاريخ المدارس الفكرية، ميلادها وموتها – تاريخ حركات العودة إلى الأصولية – تاريخ الانتصارات والهزائم الثقافية قبل العسكرية.
فإذا ما نظرنا إلى الحراك الفكري السائد في داخل الكنيسة القبطية، فإننا نجد ما أكثر الذين ارتدُّوا عن الواقع الكنسي إلى مغارات الفتاوى وكهوف الخطاب الديني الذي يجهل تراث الاسكندرية المسيحي والإنساني والكوني معاً. هؤلاء يريدون العودة إلى أوهام الماضي لا إلى نتاج العصر الحديث، ولا حتى إلى الواقع، يبغون سحق الرأي المعارِض وخلق أكبر قدر ممكن من الأكاذيب حول دعاة التجديد.
مؤلفات الأب متى المسكين
بكل تأكيد، تُعدُّ هذه المؤلفات طليعة النهضة المعاصرة، ليس فقط بسبب التنوع وكثافة ما نُشِر، بل لأن الآب متى دخل إلى عرين الفكر المسيحي العالمي المعاصر وعاد منه إلى تراث المسيحية القديم، مبتعداً عن رد فعل العصر الوسيط الذي ولد حركة الإصلاح. مبتعداً أيضاً عن رد فعل حركة الإصلاح على حركة التنوير وتحديث النظام اللاهوتي الذي ولد في أحضان التراث الغربي الذي تجاهل التراث الشرقي كله. تلك قضيةٌ لا يعرفها إلا من درس تاريخ العقيدة المسيحية في جامعة أوربية حديثة تهتم بالدراسات التاريخية.
من هنا يبدأ الحديث الحقيقي عن تحديث وتجديد الخطاب الديني المسيحي؛ لأن كل من يصرخ مطالباً بمراجعة كتب الأب متى المسكين دون أن يكون قد حصل على دراسة جامعية في معهد لاهوتي أوربي، هو أشبه بمن يرى في الذهب رصاصاً في حين أنه لا يعرف الفرق بين الاثنين.
أكتب هذا مشفقاً على كل من يقول إن كتب الآب متى المسكين تحتوي على تعاليم غير أرثوذكسية. بل هي أرثوذكسية بكل حق عند من درس التاريخ، وغادر مستنقع العصر الوسيط.
العوائق الحقيقية للتحديث
لعل أول هذه العوائق، ذلك الجيل الذي لم يدرس الكتاب المقدس، ولا اللاهوت، ولا اللغات القديمة، ولا التاريخ الكنسي. هؤلاء إن اكتفوا بخدمة الكنيسة، فإن ضررهم يكون أقل بكثير ممن يدعي العلم وهو دركات الجهل يرسف.
إن من يريد أن يحاكم فكراً لا يعرف عنه إلا ما كتب الحاقدون، هو بالضرورة أيضاً لا يقل عنهم حقداً ولا جهلاً. وإذا جلس هؤلاء على منصة التعليم، ظهرت فضائحهم، وإذا عجزت الصحافة القبطية عن التعليق عليها، فإني أقول لهم إن الإعلام الكنسي العالمي يعرف كل دقائق الفكر المصري كله وليس المسيحي فقط.
لقد نمت المؤسسات التعليمية في الغرب بواسطة الأساتذة، والكتب الدراسية، والمناهج التي لا تنزيل فيها، بل هي نتاج محاولات البحث والاكتشاف الدائم، حتى أن القواميس لم تقف عند طبعة واحدة، يُعاد طباعتها، بل دائما ما يعاد النظر فيها مع مراجعة الأبحاث التي كثيراً ما تؤكد خطأ الباحث، والتي تفرد لها الدوريات المجال للمراجعة.
كان ولا زال الحوار الأكاديمي هو قاعدة التقدم الذي يحترم الرأي، ولا يهدد. بل لقد سمعنا منذ أكثر من 1400 سنة “بالتي هي أحسن”، إلَّا أن طوفان المشاعر وحملات الكراهية قد أضاعت ذلك النداء الذي كان يمكن أن يكون الماء الذي يطفئ لهيب الأحقاد.
دكتور
جورج حبيب بباوي