سوف يختفي حتماً “ضباب الاتهامات” التي استمرت زُهاء 40 عاماً؛ لأنها كانت -بكل أمانة ودقة- “كلام فارغ” يهدف إلى تأليب الرعاع ضد أشخاص كانت ولا تزال لهم خدمتهم وعرقهم وتعبهم في سبيل استرداد الوعي الأرثوذكسي بالتسليم الكنسي. هذا الرجاء ليس مجرد “سراب”، بل حقيقة تلوح، ليس في الأفق البعيد، بل هي أقرب إلينا مما كنت أظن أنه عمل مستحيل، فطوال 40 سنة يشن فيها الإعلام الكنسي حرباً تساهم فيها الفضائيات لترويج التعليم الشعبي الذي يفتقر إلى الأصالة والصدق، والذي تحول فيها إلى صرخات تجمع الرعاع للهجوم على أشخاص قدَّموا حياتهم كلها للبحث والترجمة والنشر لكي تعبر الثقافة والفكر ما ساد في السنوات 1940-1980 وبعدها إلى ما هو صحيح وحق في الأرثوذكسية.
الاختلاف حول ترجمة الآباء:
الاختلاف حول ترجمة الآباء ليس هرطقةً، بل هو نوعٌ من البحث. فكلُّ عاقلٍ حرٍّ لا بُد وأن يفهم أن الآباء كتبوا باليونانية واللاتينية والسريانية والقبطية، ولم تظهر كتابات عربية مسيحية إلَّا بعد انتشار الإسلام، ربما بعد القرن العاشر، وإن كانت لدينا ترجمة عربية للعهد الجديد نشرها المستشرق الدكتور H. Staal بإشراف د. عزيز سوريال عطية تعود إلى القرن الثامن. وانكب على دراستها مستشرق آخر هو الدكتور R. Bailey وساهم الأب سمير خليل اليسوعي بقسطٍ وافر في نشر الوثائق العربية مع تحقيق النصوص.
وإذا تجولنا في هذه الترجمات، لوجدنا أن كلمة “مخلص” قد تُرجِمَت في عربية القرن الثامن إلى “المحيي”، أي واهب الحياة، وهكذا انتقل معنى فعل “يخلص” إلى فعل “يحيي”، وتُرجمت كلمة “شك” إلى “قلبين”، أي الإنسان الذي له قلبين .. وما أكثر المفاجآت في الترجمة العربية.
أكتب هذه الكلمات ليس رداً على الأستاذ مجدي داود، وهو باحث ممتاز، نقل عن الترجمات الإنجليزية، ولديه إصرارٌ على استخدام مصطلح “الاحتواء”، رغم أن الفعل “يحتوي” له دلالات أخرى في العربية، ولا يصلح أولاً لشرح تجسد الرب، ولا يجوز استخدامه في التعبير عن هبات تجسد وصلب وقيامة الرب الفاعلة، والواهبة لشخص أو أقنوم الكلمة نفسه في السرائر؛ لأن اللاهوت لم يحتو الناسوت، ولا الناسوت احتوى اللاهوت.
هذا، ورغم براءة الفعل، إلَّا أنه يقود إلى عودة الأوطاخية؛ لأنه إذا جاز لنا أن نتكلم عن احتواء اللاهوت للناسوت، لا يجوز أن نتكلم عن احتواء الناسوت للاهوت. وقد سبق ونشرنا دراسةً عن تألُّه ناسوت الرب يسوع، وبقاء هذا الناسوت طبيعة مخلوقة؛ لأن الخلاص لا يُبيد ولا يُدمِّر ما خُلق، بل يعطي له الحياة. ولذلك لا يصلح استخدام هذا الفعل لما له من تشابك مع دلالات الأفعال العربية مثل الاحتواء والسيطرة والغلبة.
الجهد الأول:
ما ينبغي علينا عمله، ليس التمسك بما ورد لا في العربية ولا في الإنجليزية، بل ولا حتى في اليونانية نفسها. وأرجو من القارئ العزيز ألَّا ينزعج؛ لأن مشكلة كل الهرطقات هي الألفاظ، وحروف الجر، والاستخدام اللغوي لتدمير الإيمان. ولكي لا نسقط في حفرة الهراطقة، علينا أن نسأل: هل لدينا عدة ألفاظ أو عدة مصطلحات تعبِّر عن حقيقةٍ ما؟ يبدو مأساة الهراطقة في المصطلح الواحد الذي يشمل كل شيء. وهذا هو مدخل الباطل، وطريق إنكار الايمان. واذا أخذنا اتحاد اللاهوت بالناسوت مثالاً، لوجدنا أن لدينا عدة مصطلحات:
أولاً: لدينا تعبير “الاتحاد الأقنومي” السائد في القرن الخامس.
ثانياً: لدينا تعبير آخر هو “تبادل الصفات”، أو Communicatio Idiomatum
ثالثاً: إخلاء الذات (فيلبي 2: 6 – 8).
رابعاً: تحول الخبز والخمر.
الاتحاد الأقنومي
من التعبير الأول نعرف أن الابن عندما تجسَّد هو واحدٌ معنا في الجوهر حسب الناسوت، وواحدٌ في الجوهر حسب اللاهوت، وهو ما نرتله في التسبحة السنوية، أو بالأحرى اليومية، وشرحه القديس كيرلس بوفرة في المقالات الخمس ضد نسطور، وفي “شرح تجسد الابن الوحيد”، وغيرها.
تبادُل الصفات
وتعبير “تبادل الصفات” لا يسمح بالاحتواء، بل يقبل الحلول والاتحاد؛ لأن صفة من صفات الناسوت مثل الموت، التي أخذها الرب وبها أباد الموت، لا يحتويها اللاهوت، بل تُباد، وتظل في الاتحاد حسب التدبير إلى أن يحين استعلان الخلاص. ويقبل الرب الموت الذي يأتيه لا من الداخل مثلنا، بل من الخارج([1]) لأنه ليس مثل الخطاة الذين تدمِّر الخطيةُ الحياةَ فيهم؛ لأن الطبيعة القابلة للموت وغير الخالدة، رغم اتحاها باللاهوت ماتت فعلاً وحقاً، وبموتها مات الموت، أو حسب تعبير العظيم أثناسيوس: “مات الموت” (تجسد الكلمة 30: 1)؛ لأن ذبح المسيح قد أمات الموت.
إخلاء الذات
وطبعاً، إذا كان الابن مخلصنا قد أخلى ذاته، وقَبِلَ الضعف والموت صلباً، فإن تعبير الحلول والاتحاد هو أقرب إلى فهم سر المسيح من استخدام تعبير الاحتواء، مهما كان القصد؛ لأن صورة العبد التي صُلب بها الرب نالت المجد الذي كان مخفياً حسب التدبير واستُعلِن في التجلي على الجبل، وظهر بكماله بعد القيامة، فلم تحتوي صورة العبد مجد الابن لأنه أخلى ذاته.
تحول الخبز والخمر
نشرنا من قبل دراستين عن تأله ناسوت الرب رداً على تُرَّهات بعض الأكليروس، وعن تحول الخبز والخمر، وهو ذات الفعل الذي استُخدم له تعبير Meta-Stoicheisis وتُرجمت إلى Transelementing والمحتوى وليس اللفظ وحده هو تحول الخبز والخمر بتجلي الحياة، ولذلك يجانب الأنبا بيشوي الصواب عندما يقول: “نقيم تذكار آلام الرب وموته وقيامته”، فهذا ليس ذكرى فقط، بل هو شركة في الصلب والقيامة ونوال الحياة الأبدية وغفران الخطايا وميراث الملكوت.
ونحن لا نحتوي المسيح، كما أن المسيح لا يحتوينا؛ لأننا جسده أي الكنيسة، وكل عضو له الخصوصية والتمايز، هو لا يُحتوى ولا يحتوي، بل يتَّحد.
الجهد الثاني:
ما ينبغي علينا عمله ثانياً، هو ألَّا نقف عند تعبير واحد، بل كما سُلِّمَ إلينا، علينا أن نتبع “مجال الأسفار” (القديس أثناسيوس في الرد على الأريوسيين 3: 28، 29، 32). والمقصود بـ “مجال الأسفار” المعنى الكامل الذي لا يُدرك من عبارات ولا مصطلحات، بل:
أولاً: غاية التدبير، وهي نوال الحياة الجديدة وميراث الملكوت … إلخ
ثانياً: إن ما استُعلِن في تجسد الرب وموته وقيامته وصعوده وانسكاب الروح القدس، يجب أن يقودنا إلى فهمٍ صحيحٍ للإيمان بعمل الثالوث الواحد. ولذلك كل من يقول بأن الابن له المجد دَفَعَ فديةً لله الآب، هو مُجدِّفٌ -عن جهل- على وحدانية حياة وجوهر الثالوث. وكل مَن يقول إن الطاقة أو القوة هي غير الأقنوم، ينكر التجسد؛ لأن الذي تجسد ومات وقام وصعد حياً لم يكن طاقةً ولا قوةً، بل هو أقنوم الله الكلمة المتجسد، وما يمنحه الابن له المجد، إنما هو يمنحه من كيانه: “أنا هو القيامة والحياة”. وعطية الروح المعزِّي الذي من عند الآب ينبثق ليس طاقةً، بل هو الأقنوم (يو 15: 26)؛ لذلك، ليست الألفاظ، بل الهدف هو المطلوب إيضاحه؛ لأن استعلان الابن والثالوث هو استعلانٌ يهدف إلى خلاص الإنسان، ونقله إلى حياةٍ إلهيةٍ، أي الحياة الأبدية.
ولاحظ -عزيزي القارئ- أنه عندما يميِّز أحد مدعيّ المعرفة بين تعبير “حياة إلهية” و”حياة أبدية”، فهو حسب اللغة، هو على صواب، أما حسب الإيمان، فهو هرطوقي؛ لأن ما هو أبدي هو إلهي، فليس أبدياً إلَّا ما كان إلهيٌّ.
إذن، الاحتكام إلى الألفاظ فقط، هو سبب ذلك الضباب الذي ينقشع إذا توفرت لدينا نيةٌ صادقةٌ للبحث عن الهدف.
التحليل اللغوي لا يحدد الإيمان:
ليس لدينا سياسة اتهام أحد بالبدعة إذا أخطأ في التعبير أو استخدام لفظاً قد يطوح بالحقيقة في مجال آخر، بل نحن نرد -حتى على مَن يحطم الثوابت ويهاجم التسليم الكنسي- بالحق والشهادة، داعين إلى الحوار لا إلى العقوبة أو الحرمان.
ولعل أهم ما يجب أن نحرص عليه هو العودة دائماً إلى ذات الأفعال والأسماء التي وردت في الأسفار المقدسة، وإلى المناسبات التي استخدم فيها الآباءُ لفظاً معيناً وتحديد معاني استخدامه من خلال المحتوى، لا بمرجعية التحليل اللغوي وحده، بل بالرجوع أيضاً إلى مجال الأسفار، وهو ما أشرنا إليه تواً. ولعل أفضل مثال على ذلك هو فعل “يحل” وفعل “يسكن”، فكلاهما له هدفٌ واحد، أن يحل ملء اللاهوت في الابن (كولوسي 2: 9)، ويسكن فينا الآب والابن (يوحنا 14: 23). طبعاً -لغوياً- نحن إزاء فعلين مختلفين، ولكن في تدبير الخلاص لا يحدده الفرق اللفظي بين “يحل و”يسكن”؛ لأنه في النهاية، أي الغاية هو أن نصبح نحن أعضاء جسد المسيح الكنيسة (1كو 12: 11 – 12)، وحتماً لا يجمع المسيح أعضاء جسده بوسائط بيولوجية، بل بالاتحاد الأقنومي، وأيضاً بإخلاء الذات الذي يجعل الابن يسكن فينا، ونحن فيه الأعضاء التي تنمو في النعمة والمعرفة، والتي ليس لها ما يؤهِّلها لأن تنال عضوية في جسد الرب.
في النهاية
هل سيأتي زمان الحوار الصادق والأمين، أم سيظل الدفاع عن أخطاء الجيل الذي نعاصره هو المحرِّك والملهِم لكل ما نكتب؟ هذا سؤال يقع في إطار مسئولية هذا الجيل الذي ترك أدبيات الأربعينات، والذي أطلق عليه باحث قبطي معاصر اسم “الأربعينيين”، ثم تراه بعد ذلك جيل “السبعينيين”، ثم جيل “الكرازيين”، أي الذين تربوا على مقالات مجلة الكرازة التي كانت لها بداية حسنة في نشر أبحاثٍ، ولكنها تحولت إلى صحافة إعلام وأخبار وثقافة شعبية.
([1]) من الخارج، راجع العظيم اثناسيوس: تجسد الكلمة 22: 3، 24: 1.
3 تعليقات
أستاذي الفاضل الكبير ، دكتور جورج حبيب
لك الحق في كل ما تكتبه ، وأما فكرك اللاهوتي ، وتعليمك ، فهو أنقي وأرقي فكر لاهوتي ، وذلك لأنه امتداد لفكر الآباء الأولين ، الذين أناروا عيون وقلوب المؤمنين علي مر العصور . ولقد تمتعت ومازلت أتمتع بهذا التعليم الراقي ، وذلك منذ أن تتلمذت علي يديك في سبعينات القرن الماضي . ولقد تألمت وما زلت أتألم علي ما كل ما أصاب محبتكم طوال هذه السنوات الماضية ، نتيجة محاولاتكم الأمينة والمخلصة لإعادة التعليم في الكنيسة الي الينابيع الأولي ، وإنني أؤمن كما ذكر سيادتكم ، أنه نعم، سيصير فكر الآباء ، فكر الينابيع الأولي ، هو فكر الكنيسة في هذا الجيل والأجيال القادمة ، وذلك لأن تعبكم ليس باطلا أبدا في الرب .
الشيئ الوحيد الذي أود أن أناقشه مع حضرتك يا دكتور جورج ، فما لفم ، هو أن قادة هذا الجيل وخاصة سيدنا البابا القديس البابا شنوده ، فرضت عليهم تحديات زمانهم ، أن يكون لهم فكرهم اللاهوتي الخاص ، لمواجهة الفكر الإرهابي التكفيري ، الذي عانت وعاني منه الكنيسة والمؤمنين .
وأنا لن أكون غريب أبدا عليك يا دكتور جورج ، للحضرتين في قلبي محبة كبيرة ، وأيضا في قلب محبتكم محبة كبيرة لضعفي ، حتي وان كانت قد مرت سنوات كثيرة لم نتقابل ، ولكني أتقابل كل يوم مع تعليمكم الرائع والذي تغتذي به دائما ، فليحفظ المسيح حياتك الغالية ، يا أستاذنا الجليل .
تلميذك ، المخلص والمحب لك
الأخ الحبيب salib
دعني أختلف معك في أن الإرهاب لا يواجه بالإرهاب ، إن الشعار الذي أطلقته القيادة الكنسية في العهد السابق و المتخذ من الدسقًولية ، ألا و هو محو الذنب بالتعليم ، و الذي بكل أسف لم نجد منه سوي اختلاق الذنب من خلال منبر التعليم، و ما أكثر ضحايا هذا المنبر ، الاسقف الجليل الانبا غريغوريوس و العظيم الاب متي المسكين و القس صموئيل وهبة و العالم الدكتور جورج بباوي و الدكتورة إيريس حبيب و غيرهم ممن مزقتهم سياط الحرمان و التشهير.لنا رجاء في مسيحنا القدوس أن يطلع من سماه علي كرمته المشتهاة ، و يرسل روحه القدوس يعلم أبنائها الحق و كل الحق، و يزيل منها كل تعليم ليس من الله ويحرق أشواك الشيطان، لتنمو حبة الخردل و تصير شجرة عظيمة نجد فيها المأرب و الأمان في زمن قل فيه الأمان.
الاحتواء مفهوم ثالوثي قح ، ولا علاقة له بالخريستولوجي أو بالنعمة
أتفق تماما معكم في كل كلمة وكل حرف ، ولكي نتخلص من سوء التفاهم الواضح أقول بأنه في كل ماقد كتبته بخصوص هذا الموضوع قد ميزت بين نوعين من العلاقة : الاحتواء ، والتواجد ( الحلول ) وقد أكدت مرارا أن مايناسب الثالوث – فقط – هو الاحتواء المتبادل ( trinitarian perichoresis ) حيث العلاقة الذاتية بين من لهم ذات الجوهر والطبيعة الواحدة ، والاحتواء بهذا المفهوم أمر من المستحيل أن ينطبق على الخريستولوجيا أي علاقة الاتحاد الأقنومي بين الله والإنسان في شخص الرب يسوع المسيح . العلاقة الأخيرة هي علاقة الحلول ( التواجد ) المتبادل بين العنصرين المختلفين في شخص الرب يسوع المسيح ( Christological co-inherence ) .
أيضا لدينا حالة ثالثة تمثل ذات العلاقة الثانية ، وهي حالة النعمة التي تخص وجود الكنيسة ، في شخص المسيح وهي علاقة التواجد المتبادل بين المؤمنين والمسيح ( deification co –inherence ) .
إذن ، الاحتواء المتبادل أمر يخص الثالوث فقط ولا علاقة له بالخليقة أو بالنعمة أو بشخص المسيح أو بأي أمر آخر .
الاحتواء علاقة وجودية يختص بها الوجود الإلهي وحده ، أما التواجد المتبادل فهو شأن الطبائع والصفات المختلفة كما في الخريستولوجي وكما في حالة النعمة .