الثالوث القدوس – ممارسة أبدية – 6
توقفنا عند البنوة للآب، وقد بدت كفكرة لدى الأخ سامي، وكنتُ مصِرَّاً -حسب بشارة الإنجيل- على أنها تحوُّل كياني وليس مجرد تغيير الفكر ..
سامي محاور ممتاز، قضى سنوات طويلة في صحبة والانتماء لشهود يهوه. دَرَسَ أسفار الكتاب المقدس، وأخضَعَ العهد الجديد برمته للعهد القديم. كل شرح للعهد الجديد لديه، يصطدم بخلفية من العهد القديم. ومع أن هذا يبدو موضوعاً جانبياً، إلَّا أنه ليس كذلك، فهو موضوعٌ في قلب الحوار. والسبب في أن توحيد العهد القديم رغم ما فيه من زخمٍ روحي، لم يقدم حياة الله نفسه للشعب القديم، ولذلك، يظل التعليم بالشركة في حياة الثالوث غريب، بل ويبدو التعليم بالولادة من الآب في الابن، كما لو كانت حديثاً عن كوكب المريخ. ولكن سامي كانت لديه أشواق للمعرفة، وليس مجرد الفضول.
بعد الغذاء، واسترخاء العقل والجسد، قال سامي إنه يرغب في متابعة الحوار، ولكنه غاب أكثر من ساعة عن العمل، وهذا غير ملاءم له، ولا للأخوة الذين يعملون معه. ولكن اتفقنا على لقاءٍ في مساء نفس اليوم في مقهى قريب.
سامي: انشغلت بموضوع البنوة؛ لأنه في الحقيقة يقدَّم لنا كفكرة، والفكر يغير حياة الانسان. أليس كذلك؟
جورج: نعم أفكارنا تغيِّر حياتنا، ولكن فكرة من عقولنا تعيد كياننا إلينا، يعني أننا نحن الذين نغيِّر أنفسنا بأنفسِنا، وهذا مطلوبٌ في العمل، وفي العلاقات الاجتماعية، ولكن بالنسبة لعلاقتنا مع الله، الأمر مختلف؛ لأن علاقتنا مع الله هي علاقة أبدية، وإذا بدأت بنا فقط وانتهت إلينا بدون الله، فهي ليست أبدية، بينما البنوة عطية أبدية.
سامي: أريد شرحاً أكثر.
جورج: بكلِّ سرورٍ. العلاقة الشخصية تبدأ بالإيمان بأن لنا مصدر حياة هو الآب، وأنه لا توجد لنا حياة في ذواتنا في كياننا سوى الحياة التي نرى فيها الكبرياء والتشامخ والرغبات في الاستعلاء، والدفاع عن النفس، ولو أدَّى الأمر إلى قتل الآخر – الاعتداد بالرأي – تفضيل الذات على الآخرين واعتبار أننا أعظم وأفضل. هذه هي الحياة القديمة في شكلها الساقط الآدمي الأول. هنا يبدأ التحول الذي يعطيه الرب يسوع بأن الحياة الجديدة هي هبة، وهي ليست نابعة من الفكر، وإنما من شركتنا في حياته، ومن الشركة، يدركها ويسعى وراءها الفكر أو الإدراك أو الوعي. نريد أن نكون مثل المسيح، ولكن بالمسيح، وعندما يصبح التشبُّه بالمسيح هدفاً، أي التشبه به في القول والفعل، تتحول حياتنا بالشركة. نحن لا ندخل هذه العلاقة بالإرادة وحدها.
سامي: حسناً إذن، ما هو دور الآب وما هو دور الابن؟
جورج: الآب في الابن كما أن الابن في الآب. هكذا علَّمنا الربُّ نفسه في إنجيل يوحنا. ولذلك، كل شركة في الرب يسوع هي شركة في الآب أيضاً؛ لأن الابن ليس كائناً منفصلاً عن الآب. نحن في المسيح يعني أننا في الآب. هي شركة المحبة التي سبق وأشرت إليها من قبل، ربما الأُسبوع الماضي. هذه الشركة تجعل كل ما يقدِّمه المسيح لنا، فهو يقدم ذاته لنا، وهو يقدم ذاته كذبيحة محبة مستعلنة في تجسده وموته لأجلنا وقيامته المجيدة. هذه أفعال وليست كلمات فقط.
سامي: جيد. كيف أدخل أنا سامي إلى هذه العلاقة أو الشركة؟
جورج: أولاً: بجحد الذات. كما قال الرب نفسه، وحمل الصليب. وثانياً: بالحياة التي تخضع لما تأتي به هذه الشركة.
سامي: على سبيل المثال لا الحصر. ماذا تأتي به الشركة؟
جورج: تأتي الشركة برفض كل أنواع وأشكال البُغضة، واعتبار المحبة هي أساس كل شيء؛ لأن حياة المسيح وقوته وعمله مستعلَنة بالمحبة التي أحبنا بها.
سامي: أنا معجب باهتمامك بالمحبة. في عبارة واحدة، ما هو سر اهتمامك بالمحبة؟
جورج: لا يوجد سِر. الرسول يقول: “الله محبة ومن لا يحب لا يعرف الله”. نحن لا ندرك أن المحبة هي التي تحدد مسار الحياة الإنسانية كلها، ونستخف بها بسبب ضعف الأغاني العاطفية عندنا.
يعني محبة الثالوث ليست مثل أغاني أم كلثوم. لعل أقرب مثال لفاعلية المحبة هو شهداء الواجب من القوات المسلحة والشرطة. هؤلاء لديهم تدريب واحد، وهو تخصيص الحياة للدفاع عن الوطن. لذلك، إنكار أو جحد الذات هو تخصيص الحياة للمسيح من أجل الاتحاد به، ونمو هذا الاتحاد هو نمو محبة الرب في قلوبنا.
كان الوقت قد مضى بسرعة وانصرفنا على أمل اللقاء.