قال لي صديق إن المسيحية هي ديانة مليئة بالمتناقضات، وعندما طلبت منه أن يعطي لي مثلاً واحداً عن هذه المتناقضات، لم يجد صديقي سوى عقيدة الثالوث، وقال لي هل يوجد تناقض أكثر من هذا وهو أن الواحد = ثلاثة.ولمحت على الفور مشكلة صديقي وهي: –
أنه يأخذ مفردات اللغة بشكل حسي ومادي رغم أن مفردات اللغة ما هي إلا رموزٌ لحقائق، ولكن صديقي ظن أنني أحاول الابتعاد عن مناقشة عقيدة الثالوث، والدخول في مجال فلسفة اللغة، ولكنني حاولت جاهداً أن أوضح لصديقي عمق ودقة هذه العقيدة عن طريق الحوار …
2 تعليقان
الثالوث القدوس
( رؤية لاهوتية ، آبائية )
التعريف المسيحي بالوجود الإلهي
إن التوحيد حقيقة ، لا تقبل الجدل ، ولكن لكي تتجلى تلك الحقيقة في تعريف جامع مانع ، بهذا الإله الواحد ، لابد أن يتوفر فيه من المسلمات ما يحقق أمرين : الأمر الأول هو إظهار شرعية حقيقة الوجود الإلهي كفعل ديناميكي حي ، والأمر الثاني هو الحذف المطلق لأية شبهة اشتراك ، لآخر – مع هذا الإله الواحد – في هذه المسلمات ، وفي هذا التعريف .
ومسلماتنا ، المقصودة هي المسلمات الثلاثة التي يتبناها التعريف المسيحي ، للإله الواحد :
1- الإله الواحد ، لابد له أن يصدر ذاته ، في حدث ديناميكي سرمدي ، حتى يتم حذف احتمال وجود مصدر آخر .
2- الإله الواحد ، لابد له أن يتقبل وجود ذاته ، في حدث ديناميكي سرمدي ، حتى يتم حذف احتمال وجود مستقبل آخر .
3- الإله الواحد ، لابد له أن يكون في شركة بين عطائه لذاته وقبوله لذاته ، وإذا انفضت هذه الشركة ، لكان واردا أن تكون الذات المعطاة غير تلك التي قبلت العطاء.
هذه المسلمات ، متمايزة ، وغير وارد أن يحدث الاختزال في ما بينها ؛ فالشخص الذي يعطي ، ليس هو الشخص الذي يأخذ ، وأي من الشخصين – بمفرده – ليس هو شخص الشركة .
هذا هو التعريف المسيحي للتوحيد ، أي التوحيد الإيجابى . التثليث هو التوحيد الإيجابي . التثليث هو التوحيد الديناميكي الحي .
. التعريف المسيحي للإله الواحد القائم في الثالوث ، هو التعريف الجامع المانع ، الأمر الذي لا ينطبق ، مطلقا على التعريف الذي يكتفي بأنه لا يوجد إله غير الله .
. التعريف الذي يقدمه اللاهوت المسيحي ، للإله الواحد ، هو التعريف الذي يتبنى الشركة الديناميكية ، كعلاقة بين ثلاثة شخوص فاعلة ، مبادرة ، تؤقنم وتحقق الذات الإلهية الواحدة .
. التوحيد المغلق هو سؤال ، أكثر منه إجابة ، ولكن التثليث المسيحي هو الإجابة الصحيحة . فالله واحد حقا لأن له ما يليق بالإله الواحد . الشخص ( الأقنوم ) هو ، ما يليق بالله أن يكون إياه . وتعدد الشخوص ليس تعددا للألوهة ولكنه تعدد لما يليق بالله ، ككيان حر . إذ – بحريته المطلقة – يتخطى ويتجاوز وجود ذاته ، كوجود شخصي وليس كمجرد طبيعة إلهية . ولأن ما يليق بالله هو أن يكون مصدرا لذاته ، فهو شخص الآب . وما يليق بالله ، أيضا ، هو أن يكون مصبا ومستقرا لذاته ، فهو شخص الابن . وما يليق بالله ، أيضا ، هو أن يكون فيضا – ينبع من مصدره الذاتي ليصب في مصبه الذاتي – فهو شخص الروح القدس . ما يليق بالله هو أن يكون شخصا ضمن شركة الثالوث ، وفيما يستعلن أحد شخوص الثالوث – وفقا لخصوصيته – ما يليق بالله ، فهو يستر ويتضمن الشخصين الآخرين .
لكننا ينبغي لنا أن ندرك ، أن الحديث عن الثالوث القدوس هو حديث عن ” الحرية المطلقة ” ، فالله يحقق وجوده كعلاقة حرية – و مبادرة واختيار – بين الشخص والجوهر وكعلاقة محبة وعطاء حر ، كامل للذات بين شخوص الثالوث ، وهكذا فوجود الله المثلث الأقانيم هو وجود ، غير خاضع لأية حتمية . هو وجود شخصي حر وليس وجود واجب ، بحكم الضرورة . وإن كنا قد اضطررنا في الكلمات السابقة أن نستعمل مفردات ، كالمسلمات ، والحتميات الفكرية اللازمة للتعريف الصحيح ، فهذا المسلك الاضطراري إنما ينبع من الحتمية التي يخضع لها العقل البشري ، المتعاطي مع تلك القضية ، وليس من الحتمية التي يخضع لها الوجود الإلهي ، حاشا . الحتمية هي واقعنا الآني ، والذي لابد لنا أن نتحرر وننطلق منه ، بالنعمة ، وحينئذ ، وبالتدريج نستطيع أن نتجاوز هذه الحتمية لندخل إلى عمق التقوى الأرثوذكسية ، التي للآباء ، فنتعاطي مع الثالوث ، كما هو في ذاته ، أي كما هو معلن لنا ، في النعمة .
الحرية والثالوث ، صنوان لا يفترقان . الحرية هي مرادف للوجود الالهي ؛ فالله ، بحريته المطلقة وإرادته يحقق وجود ذاته ، بذاته ، في ذاته . هو يحقق وجود ذاته لأنه شخص الآب ووجوده محقق بواسطة ذاته لأنه شخص الابن ووجوده محقق في ذاته لأنه شخص الروح القدس .
ولكن كيف نفهم الحرية ، في ضوء الثالوث القدوس ؟. هل الحرية هي اختيار بين متعدد ؟
إن مفهوم الحرية كاختيار بين متعدد هو المفهوم الساذج ، بل الخاطئ ؛ فهو يفترض التساوي المطلق في فرصة وامكانية تحقق الخيارات المطروحة ، فماذا ، إذن ، لو كان الاختيار -المطروح – هو بين الوجود والعدم ؟ . إننا لو طبقنا هذا المفهوم ، هنا ، لوصلنا إلى نتيجة كارثية ، وهى أن الله غير حر ! فالله هو في حالة اختيار مطلق لوجوده الذاتي . ومن المستحيل إلا أن يكون الله موجودا . ومن المستحيل إلا أن يكون الله في حالة اختيار مطلق لوجوده .
وعليه ، فإن مسألة الحرية لا تجد حلا شافيا إلا في ما يكشفه الثالوث القدوس . فالشخص هو كيان حر وطبيعته هي الاختيار المطلق للوجود ، وليس هناك من يقهره من أجل أن يسلك هذا الاحتمال .
ديناميكية شركة الثالوث القدوس
ماذا تعني لنا كلمة ” الديناميكية ” ، عند الحديث عن سر الثالوث القدوس ؟
ماندركه عن مفهوم الحركة ، في كوننا الطبيعي هذا ، هو الحركة النسبية ؛ فنحن لانستطيع أن ندرك حركة شيء إلا إذا كنا مستقلين ومنفصلين عنه ، فالحركة لايمكن إدراكها إلا بواسطة ” راصد ” ساكن ، بالنسبة لها .
أما حركة المحبة الكائنة في شركة الثالوث فهي حركة مطلقة ( إن جاز التعبير ) ، وهي نمط من الحركة لاتعرفه الخليقة ولايستطيع أن يدركه البشر .
وإن أردنا أن نصوغ تعريفا للمصطلح فيمكننا القول بأنها الحركة التي من المستحيل إدراكها إلا من داخلها ، بعكس الحركة النسبية التي لايمكن إدراكها إلا بواسطة راصد خارجي .
في حركة المحبة الكائنة في شركة الثالوث القدوس يتجلى السر العجيب للحركة المطلقة ، حيث مايمكن أن نطلق عليه ” واحدية الحركة والراصد ”
وإذا أردنا تطبيق التعريف الذي قدمناه ، نقول بأن شخص الابن – وبينما هو كائن في أبيه الذاتي- هو الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يرصد حركة عطاء الآب كل ملئه . وشخص الروح القدس – وبينما هو كائن في الآ ب وفي الابن ، بآن واحد – هو الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يرصد حركة عطاء الآب وقبول الابن ، إذ هو بطبيعته شركة ، وهو روح الآب وروح الابن بآن واحد .
يتحقق الوجود الإلهي في فعل ديناميكي – يحدث في زمن سرمدي لابداية ولانهاية له ، يحدث في الآن المطلق ( إن جاز التعبير ) – فيه يلد الآب ابنه الذاتي . فيه يولد الابن من أبيه الذاتي . فيه ينبثق الروح القدس من الآب الذاتي .
الفرض المستحيل هو : لو توقف الآب عن أن يلد ابنه الذاتي لتلاشى الوجود الإلهي . لو توقف الابن عن أن يولد من أبيه الذاتي لتلاشى الوجود الإلهي . لو توقف الروح القدس عن أن ينبثق من الآب لتلاشى الوجود الإلهي .
هكذا يتحقق الوجود الإلهي في فعل حركي متصل ودائم ديمومة مطلقة .
صيغة ” من الآب بالابن في الروح القدس ”
هذه الصيغة ، التي يتبناها القديس أثناسيوس – في معرض شرحه للثالوث الأقدس – والتي من خلالها يشرح جوهر النعمة ، التي هي ” واحدة ، تعطى من الآب وتتم بالابن في الروح القدس ” ( الرسائل إلى سرابيون ) – إنما يتخطى مضمونها مجرد الاختزال في مفهوم النعمة ، ولكننا نستطيع أن نتفهم هذا الاستقطاب ” النعموي “- لهذه الصيغة – عند أثناسيوس – إذا أخذنا في الاعتبار ، المدخل الخلاصي ، لأثناسيوس في شرح وفهم الثالوث ؛ فهو يقدم لنا الثالوث كما استعلن للكنيسة ، كخبرة ، في سر التجسد . وهكذا لا يميل أثناسيوس إلى التنظير اللاهوتي الفلسفي ، عن الثالوث ، بقدر اختبار الثالوث المستعلن في النعمة ، ولكن هذا لا يعني انقطاعية صيغة ” من الآب بالابن في الروح القدس ” عن الجذر والأصل ، أى استعلان الثالوث كحقيقة تخص الجوهر الإلهي الواحد – فى المطلق – بعيدا عن حديث النعمة . وهذا الفكر نجده حاضرا في نص عبارة أثناسيوس ، ويمكننا بلورته ، اذا بذلنا قليلا من الجهد ، فنجده يقول : ” لأن النعمة التي من الآب هي واحدة ، وهي تتم بالابن في الروح القدس . وهناك ألوهة واحدة وإله واحد الذي هو ” على الكل وبالكل وفي الكل” . ( أف 4 : 6 ).
إذن ، كأن أثناسيوس يريد أن يقول : إن النعمة الواحدة التي من الآب بالابن في الروح القدس هي استعلان للثالوث – كما هو – فينا ، فالألوهة هي واحدة ، من الآب تعطى ( كينبوع ) وبالابن تقبل وتستقر ( كملء ) في الروح القدس ( الذى هو شركة لأنه روح الآب وروح الابن ) .
– ويقدم القديس ابيفانيوس شرحا وتوضيحا لفكر أثناسيوس – بخصوص هذه الصيغة فيقول : ” لأن ما هو الله في جوهره الذاتي الأزلي هو نفس ما هو الله في إعلانه عن ذاته لنا وهو نفس ما هو الله في إعطائه ذاته لنا … اذ أن الله المثلث الأقانيم هو العامل في هذه الأعمال جميعها بشكل مباشر وخلاق ( من الآب بالابن في الروح القدس ) وهناك نعمة واحدة وروح واحد ، حيث أن الله ذاته في ملء كيانه الثالوثي يكون حاضرا في جميع أعماله من خلق واستعلان واستنارة وتقديس “( + ص : 355 ) .
. هذا ، إذن ، هو سر الثالوث الأقدس :
1- الألوهة واحدة ، من مصدرها الذاتي ، تعطى = ” من الآب .”
2- الألوهة واحدة ، بقبولها لعطائها الذاتي ، تتحقق = ” بالابن .”
3- الألوهة واحدة ، في شركة بين العطاء الذاتي والقبول الذاتي = ” في الروح القدس .”
أى أن ، ما هو مستمد ( من الآب ) ، هو ذاته ما هو مستمد ( بالابن ) ، هو ذاته ما هو مستمد ( في الروح القدس ) . نحن لسنا بصدد ثلاثة حوادث مختلقة ، بل هو ذات الحدث الواحد الذي ينظر اليه من ثلاثة زوايا مختلفة ، تختلف بحسب خصوصية كل أقنوم . ومن هذا المنظور تختلف “حروف الجر ، المستخدمة ( من ، الباء ، في ) ” . فلأن الآب هو المصدر الذي منه تستمد الألوهة ، فقد كان من المناسب أن يقول ” من الآب ” . ولأن الابن هو كل الملء والذي بواسطته يتم قبول الألوهة ، فقد كان من المناسب أن يقول ” بالابن ” . ولأن الروح القدس هو شركة الفيض ، بين مصدرية الآب وقبول الابن ، فقد كان من المناسب أن يقول ” في الروح القدس “.
اذن ، النعمة الواحدة المعطاة من الآب بالابن في الروح القدس هي صورة الألوهة الواحدة المعطاة من الآب بالابن في الروح القدس .
المصطلحات الأساسية .
1- الجوهر ousia ، أوسيا .
2- الشخص ( الأقنوم ) ، hypostasis ، هيبوستاسيس .
كان للصيغة العبقرية ” من الآب بالابن في الروح القدس ” – والتي صاغتها النعمة في فكر الآباء – لاسيما أثناسيوس – أعظم الأثر في وضع الحد الفاصل بين مفهومين تجمعهما علاقة جدلية ، هما مفهوم ” الجوهر ” ومفهوم ” الشخص ” . وقد ساهمت هذه الصيغة فى بلورة كل من المفهومين ، فبالنسبة لمفهوم الجوهر ، فالجوهر الإلهي ليس مجرد طبيعة تتسم بصفات إلهية بل هو الألوهة الواحدة التي من الآب ، هو الألوهة الواحدة التي بالابن ، هو الألوهة الواحدة التي في الروح القدس . الجوهر هو الألوهة القائمة في علاقاتها الداخلية ، القائمة فى شركة . لا معنى للجوهر إلا إذا كان مشخصا .
وبالنسبة لمفهوم ” الشخص ” ، فالشخص هو الذي يحقق ويؤقنم ويستعلن الجوهر ، فالآب هو الذي منه يعطى ( بضم الياء ) الجوهر ، والابن هو الذى به يتم قبول الجوهر ، والروح القدس هو الذي فيه تستعلن شركة عطاء الآب وقبول الابن .
. الشخص يعطي الجوهر شرعيته كجوهر ، لأن الشخص لا يستعلن ما هو غير موجود ، والجوهر يعطي الشخص شرعيته كشخص ، لأن الجوهر لا يملأ ماهو غير كائن . الشخص كائن باحتوائه للجوهر ، والجوهر موجود بوجوده في الشخص .
. الجوهر هو جوهر كل شخص : الجوهر هو جوهر الآ ب وليس مجرد الجوهر الإلهي . الجوهر هو جوهر الابن وليس مجرد الجوهر الإلهي . الجوهر هو جوهر الروح القدس وليس مجرد الجوهر الإلهي .
. الشخص ( هيبوستاسيس ) هو الكيان الحر الديناميكي الذي يستعلن الجوهر ، والذي لا يتحقق وجوده إلا في حالة من الاحتواء المتبادل مع كل شخص من الشخصين الآخرين .
. الجوهر يعني الملء ، والشخص يعني الاستعلان . وليس ملء الشخص هو الشخص ، لأن الشخص هوية ديناميكية حرة وأما الجوهر فهو من يصطبغ بتلك الهوية ، وليس الصابغ هو من يصطبغ .
3- مصطلح ” هوموأوسيوس = homoousios ”
المصطلح يعني أن كل شخص إنما له نفس الجوهر الذي لكل من الشخصين الآخرين ، الأمرالذي يعني أن كل شخص – وفيما يحقق جوهره ، مستعلنا الألوهة الكاملة – فهو يحقق ملء كل شخص من الشخصين الآخرين .
نحن ، اذن بصدد علاقة تبادل امتلاء شخوص الثالوث – بالجوهر الإلهي الواحد – دون تفريغ للشخص أو تقسيم للجوهر . نحن بصدد علاقة اعطاء الشخص ذاته – بالكامل – للآخر ، دون أن يفقدها . وقد كان هذا المصطلح العبقري ، تحديدا حاكما وشارحا للصيغة النيقاوية ” جوهر واحد ، ثلاثة أقانيم = ” mia ousia, treis hypostaseis ” .
– يقول العظيم أثناسيوس :” لأنه عندما يقول ” أنا في الآب والآب في ” فهذا لا يعني كما يظن هؤلاء أن الواحد يفرغ ذاته ليملأ الآخر ، كما يحدث في الأواني الفارغة . حتى أن الابن يملأ فراغ الآب ، والآب فراغ الابن ، وكأن كلا منهما ليس تاما ولا كاملا في ذانه فهذه هي خاصية الأجساد . ولذلك فإن هذا القول ، هو أكثر من الكفر لأن الآب هو تام وكامل ، والابن كذلك هو ملء اللاهوت .” ( المقالة الثالثة ضد الآريوسيين 23 :1 ).
– ويقول أيضا : “ولكن في اللاهوت فليس الأمر على هذا النحو . لأن الله ليس مثل الانسان ، وجوهره لا يتجزأ . ومن أجل ذلك فانه لم يتجزأ لكي يلد الابن حتى يصير أبا لاخر ، لأنه هو نفسه لم يكن من أب ، وكذلك فالابن ليس جزءا من الآب ، ولذلك فهو لم يلد كما ولد ( بضم الواو ) هو نفسه ، بل هو صورة كلية للكامل وهو اشعاعه . وفي اللاهوت فقط ، فإن الآب هو أب بالمعنى الأصيل والابن هو ابن بالمعنى الأصيل . وبالنسبة لهما يكون صحيحا أن الآب هو أب على الدوام . والابن هو ابن على الدوام . وكما أن الآب لن يكون ابنا أبدا كذلك أيضا لن يصير الابن أبا مطلقا . وكما أن الآب لم يكف أبدا عن أن يكون الآب الوحيد ، هكذا . فلن يكف الابن أبدا عن أن يكون الابن الوحيد .” ( الرسائل الى سرابيون 1 : 16 ).
اذن ، هذا هو عمق أعماق مفهوم الهوموأوسيوس عند أثناسيوس : كل شخص إنما هو كائن باحتوائه وشخصنته للألوهة الكاملة ، التي يحتويها ويستعلنها – في تلازم مطلق – كل من الشخصين الآخرين ، الكائنين فيه والمستترين خلف اسمه . وبينما يتضمن الآب كلا من الابن والروح القدس فان لكل من الابن والروح القدس ، ذات الجوهر الذى للآب . لا وجود للآب بدون الابن . ولا وجود للآب والابن بدون الروح القدس ، الذي هو روح الآب وروح الابن .
أي شخص – من شخوص الثالوث الأقدس – هو هوموأوسيوس مع كل شخص من الشخصين الآخرين ، المتضمنين فيه .
4- مصطلح ” الاحتواء المتبادل = perichoresis ”
كيف يبقى التمايز ، وتبقى التعددية محفوظة ، دون الوقوع في أحد الهرطقتين ، المتناقضتين : الأولى هى تعدد الآلهة والثانية هي الاختزال والذوبان لشخوص الثالوث ، بمعنى آخر كيف يبقى التمايز الشخصي ، تمايزا ، دون المساس بواحدية الجوهر ؟
جاءت الإجابة الآبائية ، في مصطلح عجيب ومدهش هو ” الاحتواء المتبادل ” . والمصطلح يعني أن أي شخص من شخوص الثالوث ، إنما يتضمن في داخله كلا من الشخصين الآخرين ، وبحسب تعبير القديس هيلاري : ” يحتوى كل منهم الآخر بالتبادل ، وبالتالي كل واحد منهم هو على الدوام يحيط ( envelopes) الآخر وأيضا يحاط ( يحتوى ، enveloped ) من الآخر ، الذى مازال هو يحتويه .” (+ ص: 317 ).
كان القديس أثناسيوس هو أول من أرسى وأسس لهذا المفهوم ، وسار خلفه كل الآباء العظام . وفي المقالة الثالثة ضد الاريوسيين (ف 23 : 1 ) ، نجده يفند انحراف الهراطقة في فهم فحوى هذا المصطلح ، وانحرافهم في تأويل عبارة من انجيل يوحنا ، هي من أقوى ما يدعم هذا المفهوم ، فنجده يقول :
” فانهم بدأوا يحرفون كلمات الرب : ” أنا في الآب والآب في ( يو 14 : 10 ) ، قائلين كيف يمكن أن يحتوي الواحد الآخر والآخر يحتوى في الأول ؟ أو كيف يمكن أن يحتوي الآب الذي هو أعظم ، في الابن الذي هو أقل منه ؟ أو ” أي غرابة أن يكون الابن في الآب ، طالما أنه مكتوب عنا نحن أيضا ” به نحيا ونتحرك ونوجد “( أع 17 : 28 )…. ولكن حيث أنهم قد حاولوا تشويه هذه الآية لخدمة هرطقتهم فقد أصبح من الضروري أن نفند ضلالتهم ،… لأنه عندما يقول ” أنا في الآب والآب في ” فهذا لا يعني كما يظن هؤلاء أن الواحد يفرغ ذاته في الاخر ليملأ الواحد منهما الآخر … حتى أن الابن يملأ فراغ الآب ، والآب فراغ الابن ، وكأن كلا منهما ليس تاما ولا كاملا في ذانه … ولذلك فان هذا القول ، هو أكثر من الكفر لأن الآب هو تام وكامل ، والابن كذلك هو ملء اللاهوت … وأيضا لا يوجد الابن في الآب بالمعنى الذي فى الآية ” فيه نحيا ونتحرك ونوجد ” ، لأن الابن لكونه من ينبوع الآب ، فهو الحياة ، الذي به تحيا وتقوم كل الأشياء ، لأن الحياة لا تحيا من حياة ( أخرى ) ، وإلا فهي لا تكون عندئذ حياة . فالابن هو الذي يعطى الحياة لكل الأشياء .”
يقوم “الاحتواء المتبادل “، عند أثناسيوس على دعامتين : الدعامة الأولى هي بقاء الشخص متمايزا ، بطريقة مطلقة ، أي يبقى كما هو دائما . والدعامة الثانية هي بقاء الشخص مستوعبا في كل من الشخصين الآخرين ، بطريقة مطلقة ، أي يبقى في الآخر دائما .
بخصوص الدعامة الأولى ، يقول أثناسيوس – على سبيل المثال – : ” لأن الله ليس مثل الانسان . فالآب لم يولد من أب آخر ، ولذلك فهو لا يلد ابنا يصير أبا لآخر . وليس الابن جزءا من الآب ، ولذلك فهو لم يولد ليلد ابنا . وإذن ففي الألوهة وحدها الآب هو آب ، وقد كان ، ويظل دائما كما هو ، لأنه هو الآب بحصر المعنى . وهو أب فقط . والابن هو ابن بحصر المعنى ، وهو ابن فقط . ويثبت القول أن الآب هو أب ويدعى دائما أبا . والابن هو ابن . والروح القدس هو دائما الروح القدس ، وهو الذي قد امنا به أنه من الله وأنه يعطى من الآب بواسطة الابن . وهكذا فالثالوث القدوس يظل غير قابل للتغير ويعرف في ألوهة واحدة .” ( 3 : 6 )
وبخصوص الدعامة الثانية ، يقول أثناسيوس – على سبيل المثال – في الرسائل إلى سرابيون : – ” لأن الثالوث القدوس المبارك هو غير منقسم وهو متحد في ذاته . وعندما يسمى الآب فهو يتضمن أيضا كلمته والروح الذي في الابن . وعندما يسمى الابن يكون الآب في الابن ولا يكون الروح خارجا عن الكلمة . “( 1: 14 ).
. هذا إذن ، هو الاحتواء المتبادل ( الضمنية المتبادلة ) بين شخوص الثالوث : الكل في الكل ، بدون ذوبان أو اختزال .
مراجع تم الاستعانة بها .
1- الرسائل عن الروح القدس الى الأسقف سرابيون – للقديس أثناسيوس – مركز دراسات الاباء – مايو 1994 .
2- المقالة الثالثة ضد الاريوسيين – للقديس أثناسيوس – مركز دراسات الاباء – نوفمبر 1994 .
3- الوجود شركة – الأسقف يوحنا زيزيولاس – مركز دراسات الاباء – مايو 1989 .
4- القديس أثناسيوس الرسولى فى مواجهة التراث الغربى غير الاورثوذكسى – د/ جورج حبيب – أسرة القديس كيرلس عمود الدين الاكليريكية – مايو 1985 .
5- الايمان بالثالوث – الفكر اللاهوتى الكتابى للكنيسة الجامعة فى القرون الأولى – توماس ف. تورانس – ترجمة د/ عماد موريس اسكندر – مكتبة باناريون – طبعة أولى – نوفمبر 2007 .( ملحوظة : كل الاقتباسات المأخوذة ، من هذا الكتاب هى تلك المذيلة بارقام الصفجات مع العلامة + )
الموضوع جميل وشيق ووضح اشياء كثيرة كنت على جهل بها، ولكن ارجو المزيد، كلما قرات كلما احسست بجهلى، ارجوك اريد ان احس بجهلى اكثر واكثر، لو يوجد مقالات اخرى فى نفس الموضوع، رجاء التنويه لها
وشكراً