عاصفةُ إخلاء الذات
لنفتح الأسفار، لكن بحس مَن يحب الحكمة ومَن يفتِّش على أسرار الله.
كان استعلان الله في العهد الأول في عاصفةٍ ونارٍ وزلزلةٍ، لاسيما عند نزول الشريعة (راجع عب 12: 18 – 31)، عندها لم يستطع أحدٌ أن يقترب من الجبل. وبالمثل ظهر للنبي إيليا (ملوك الأول 19: 11 – 12)، ولكن بعد العاصفة جاء الرب وتكلم بصوتٍ خفيضٍ.
وعندما صُلب الربُّ حلَّت تلك الظلمة التي كانت تسبق استعلان الله في العهد القديم (لو 23: 44). وعندما قام؛ تزلزلت الأرض وانفتح القبر وجاء ملاك الرب ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه (مت 28: 2). تلك هي زلزلة الاستعلان الإلهي الذي لا يمكن لعقلٍ أن يحتويه، ولا لمصطلحٍ أن يحدَّه، لأن أي اصطلاحٍ ليس أكثر من علامةٍ على الطريق!
عاصفة يوم الخمسين كانت بدون زلزلةٍ، ولكن علينا أن ننتبه إلى أن هذا الريح العاصف هبَّ في يوم العنصرة، أي في يوم الاحتفال اليهودي بنزول الشريعة.
هذه هي أيضًا استعلانات الله الآتي في لحمٍ ودمٍ: “فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا” (عب 2: 14)، لأن الكلمة صار جسدًا (يو 1: 14).
عاصفةُ إخلاء الذات (فيلبي 2: 6)، تلك التي دخلها يسوع وحملته إلى السامرة وإلى كورة الجدريين، بل حتى إلى جثيماني، وإن كانت عاصفةً غيرَ منظورةٍ، لكن على الجلجثة تجلَّى الحضور الإلهي في ظلمةٍ سبقت زلزلة القبر، زلزلة القيامة.
ويجب أن نحسب تكاليف إخلاء الذات، إذا جاز لنا أن نكتب كلمة تكاليف، في إطار ما نعرفه من استعلان الله في التاريخ في العهد القديم، وما علَّم به ربنا له المجد، أي في إطار المحبة التي لا تعرف الحدود وتستعصي على التعريف، إذ أن الله محبة؛ أي في حدود ما أُعلن، وهو قبول الألوهة للطبيعة الإنسانية. صحيحٌ أن الأسفار الإلهية لم تكتب كلمة “طبيعة”، وهي كلمة مثقلة بالإلهام الفلسفي اليوناني، أو بالحري الهلليني، ولكنها كانت ولا تزال تعني “الكيان”، أو ما هو كائنٌ فعلاً. وحتى عندما كان من الشائع الحديث عن طبيعة الكلمة المنطوقة، كان المقصود هو النطق بما يتعارف عليه الكل من معانٍ.
عاصفةُ إخلاء الابن لذاته وأخذه لطبيعةٍ غير طبيعته، استدعت عاصفةً من نوع آخر، هي عاصفة النسطورية، لأن اتحاد طبيعتين -من الناحية الفلسفية- كان غير مقبولٍ عند أرسطو وهو أستاذ نسطور.
ومع أن عاصفة يوم العنصرة، مثلها مثل عاصفة الجلجثة، وعاصفة القيامة، لا تزال تهب علينا، غير أن الذين دخلوا فيها وأفكارهم محصورة في ذواتهم؛ ولم تبرح شريعة موسى عيون عقولهم؛ فلم يفهموا شيئًا، ولم يروا غير الشريعة، مع أن العاصفة الإلهية على أشُدها، وإنما بصوتٍ خفيض كما حدث مع إيليا النبي.
ما يؤكده إخلاء الذات هو انحناء الله علينا بشكلٍ لم يسبق له مثيل لكي يتحد بنا من خلال اتحاده بالإنسانية.
تلك عاصفةٌ تجلَّت على الجلجثة بعد صراع الرب في البستان.
عاصفةُ إخلاء الذات هذه، هي التي جرَّدت أنطونيوس من كل ما كان يقتني، إذ باعه وأنفق على الفقراء. وجرَّدت أثناسيوس من حب الذات ومن التمسُّك باللقب، فعاش سائحًا غريبًا مُطارَدًا.
وما أكثر الذين دخلوا العاصفة، وشكَّلوا جيشًا من القديسين والشهداء. وعندما يكتب السنكسار “ولما أكمل سعيه بسلام”، فإن ذلك يعني أنه وصل إلى الهدف من حياته؛ الاتحاد بالثالوث.
لذلك، فعندما اكتنز أحد الرهبان قطعًا من الذهب، أمر رئيس الدير أن تُدفَن معه، لأن الراهب الذي يغتني، يترك إخلاء الذات.
أُحبُكَ يا ربي، يا مَن لأجلي صرت إنسانًا.
أخليت ذاتك كإنسانٍ، وعند دفنك لم يكن لك قبرٌ، ولا حتى كفنٌ.
أتذكَّرُ ذلك،
وأتذكَّرُ أيضًا العظيم، الأنبا أبرام أسقف الفيوم الذي لم يجدوا لديه مالاً لشراء الكفن.
أتذكَّرُ ذلك وأنا أرى القبور المزيَّنةَ تشهد على أننا لم نعرف إخلاء الذات بعد.
اخترتَ الفقر حُرًّا،
ولكي نفهم هذا الاختيار، علينا أن ندخل عاصفة إخلاء الذات.
كل عام وأنتم بخير، لمصر وكنيسة مصر ولشعب مصر.
دكتور
جورج حبيب بباوي