أولاً: ما هي قوة المسيح القيامية؟
1- بالصليب دخل المسيح في مجال “الموت”. و”الموت”، في الكتاب المقدس، إنما يشير إلى كل ما يسيء إلى الإنسان، إلى كل ما ينتقص من حياته، إلى كل ما يحبط توقه إلى ملء تحقيق ذاته. من هنا أن الألم، نفسيًا كان أو جسديًا، إنما هو ضرب من “الموت”. وكذلك التعرض للظلم والقهر والذل والاستعباد؛ ومعاناة الخيبة والعزلة والفشل؛ وانطواء الإنسان على ممتلكاته وأطماعه وملذاته والانهماك بها والاكتفاء بها، مما يقطعه عن الله وعن الآخرين (ذلك هو “موت” الخطيئة)؛ وأخيرًا تلك النهاية المحتومة لحياته الأرضية، التي هي انحلال كيانه الجسدي الراهن وتواريه عن الدنيا. “الموت”، بهذا المعنى، هو إذًا مجمل مأساة الإنسانية. وهي مأساة، بالضبط لأن الإنسان يشعر في قرارة نفسه أنه مدعو إلى حياة لا حد لها وانطلاق لا حصر له، فإذا بالحدود والعوائق التي ينصبها الوجود أمامه، وبتلك التي ينصبها هو أمام نفسه، تصدمه وتدميه كما لا تصدم أو تدمي أيا من الكائنات الحية الأخرى، بالضبط على مقدار طموحه إلى الحياة الكاملة اللامحدودة.
2- لقد شاركنا المسيح في كافة نواحي “الموت” هذه ما عدا “موت” الخطيئة الذي لم يدع له مجالاً للتسرب إلى كيانه. فقد عانى من الخيبة والعزلة والفشل: تخلى عنه تلاميذه عند إلقاء القبض عليه وتركوه وحده حتى قبل ذلك، عندما كان يعاني النـزاع النفسي في بستان الجسمانية، وفشل في إقناع الشعب اليهودي وقادته، بأنه يحمل إليهم ملكوت الله ورُذِلَ من رؤساء شعبه، لا بل من الشعب نفسه الذي انقلب عليه وطالب بصلبه، وذاق المهانة والشتم والتعذيب بالسياط وبإكليل الشوك وعُلّق على الصليب ليموت عليه ببطء من النـزف والاختناق. وقبل أن يلفظ أنفاسه على آلة إعدام العبيد وعامة الناس تلك، اختبر، وهو الذي لم يعرف الخطيئة ولم يبتعد البتة عن الله، مرارة الاغتراب عنه وجحيم العزلة، فصاح: “إلهي، إلهي، لماذا تركتني…”.
3- إنما ذاك الذي دخل في مجال “الموت” هذا ليشارك البشر فيه حبًا، لم يكن كسائر البشر. لقد كان ابن الله المتجسِّد، أي ذلك الوجه الإنساني الذي شاء الله أن يتخذه عندما أراد أن يشاركنا حياتنا وبؤسنا ليمنحنا حياته وخلاصه. ولكن ابن الله هذا كان بآن إنسانًا حقيقيًا بكل ما في الكلمة من معنى، حتى يتسنى له بالفعل أن يلاقي الإنسان ويخلِّصه. وكان عليه بالتالي أن يفسح المجال، بإرادته الإنسانية الحرّة، للإلوهة الكائنة فيه أن تجتاح إنسانيته كلها فتملأها بالحياة اللامحدودة الظافرة التي تمنحها تلك الإلوهة.
إن هاجس يسوع كان أن يفتح إنسانيته تماماً أمام الإلوهة الكامنة فيها منذ الأزل، والمتصلة بإلوهة الآب اتصال النور بالشمس والفكر بالعقل. وقد تمّ له ذلك في أثناء حياته، التي كانت تقبُّلاً لا تحفّظ فيه لحضور الله وإسلامًا كليًا له، مترجَمًا بتقبّلٍ لا حدود له للبشر وانعطاف بالغ على بؤسهم وشقائهم. هذا الإسلام لله، الذي كان عنوان حياة يسوع كلها، بلغ ذروته في تقبله للصليب نتيجةً لإخلاصه الكامل لله ومشاركته التامة للبشر في معاناتهم (“ليس حبّ أعظم من هذا أن يضع الإنسان نفسه عن أحبائه”). من هنا أن الصليب كان تلك اللحظة التي بلغ فيها انفتاح إنسانية يسوع لله ذروته، بالضبط في الوقت الذي عانت فيه تلك الإنسانية أقصى مرارة الاغتراب إخلاصاً لله ومشاركةً للإنسان (هذان الوجهان للصليب تعبّر عنهما كلمتا المصلوب: “إلهي، إلهي، لماذا تركتني” و “أبتِ، في يديك أستودع روحي”). بهذا الانفتاح الكامل، اجتاحت الإلوهة إنسانية يسوع، فكانت ساعة الصلب إنما هي ساعة المجد (“يا أبتِ، قد أتت الساعة، مجّد ابنك ليمجدك ابنك أيضا”).
لم تكن القيامة سوى إعلان لهذا المجد، أي لهذا الحضور الإلهي المكثّف الذي غمر إنسانية يسوع عندما قبلت هذه الإنسانية أن تنكسر حبًا بالصليب. هكذا تجلى أقصى القوة في أقصى الضعف. تلك هي قوة المسيح القيامية.
ثانياً: كيف بثَّها المسيح في الكون؟
طبعا، هذه القوة القيامية لم يحصل عليها المسيح ليحتفظ بها لنفسه. إنما قد حصل عليها بإسمنا ولأجلنا. من هنا إنها انبثّت منه في الإنسانية كلّها، لا بل في الكون كلّه. فكيف تمّ ذلك؟
1- المسيح، من حيث لاهوته، هو “كلمة الله”، أي فكر الله الذي به صنع كل شيء. نقرأ في سفر التكوين: “قال الله: ليكن نور، فكان نور” (تكوين 1: 3). هذه الكلمة الخلاقة (التي سميت أيضا “حكمة الله”) اتضح شيئًا فشيئًا في الوحي الإلهي أن لها وجودًا مميزًا (هذا ما يمكن متابعته بالنسبة لمفهوم “الحكمة” في كتب العهد القديم). وفي العهد الجديد اتضح أنها أقنوم (شخص) له وجوده المتميز في وحدة الجوهر الإلهي: “في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وإلهًا كان الكلمة” (يوحنا 1: 1). واتضح أنه، بهذا الأقنوم (الذي هو “الكلمة” أو “الابن”) خُلقت الموجودات كلها: “به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كوّن” (يوحنا 1: 3). كل ما هو موجود في الكون يستمدّ إذا في كل لحظة من “كلمة الله” وجوده وكيانه ومعنى هذا الوجود وتوجيهه وغايته. وكما أن الكون موجود بالكلمة، فبالكلمة المتجسد يتجدد.
2- ولكن كيف يحصل هذا التجدُّد؟ بالقيامة، كما قلنا، اجتاحت الإلوهة إنسانية يسوع المنفتحة إليها بالصليب انفتاحًا كاملاً. عند ذاك تحررت إنسانية يسوع من محدوديتها، بما فيها محدوديتها الزمنية والمكانية، فأصبح لها الامتداد اللانهائي الذي كان ولا يزال لكلمة الله. أي أن المسيح لم يعد محصورًا في يسوع التاريخي الذي وُجد في حقبة زمنية محددة وفي بقعة محددة من بقاع الأرض. إنما أصبح حضوره المحيي يشمل الكون قاطبةً مهما تعددت أمكنته، والتاريخ كله بما فيه ماضيه وحاضره ومستقبله. لقد أصبح بالتالي “مسيحا كونيا” وامتدت إنسانيته لتشمل بحضورها الأمكنة كلها والأزمنة كلها، حاملة إليها طاقة القيامة التي انفجرت فيها. من هنا أن الإنسانية قاطبة، في انتشارها عبر الزمان والمكان، أصبحت مرشّحة لتكون “جسد المسيح”، أي امتدادًا لإنسانيته الممجَّدة، وأصبح كل إنسان، في كل زمان ومكان، مرشّحًا ليكون، إذا شاء، عضوًا في هذا الجسد الكونيّ ومستمدًا منه طاقة الحياة والانبعاث كما يستمد الغصنُ النسغَ المحيي من الكرمة التي هو متصل بها. لا بل، بما أن الإنسان متصل بكيانه بالكون، إذ يتكون جسده من عناصر الكون، وإذ أنه، حسب نظرية التطور، تتويج لمسيرة الكون الطويلة نحو الأرقى والأفضل، قلت بما أن الإنسان متصلٌ بكيانه بالكون، فقد أصبح الكون كله، بمعنى أعمّ، مرشحًا ليكون جسد المسيح، وانبثت بالتالي في الكون كله طاقة القيامة التي اجتاحت إنسانية يسوع.
ثالثاً: كيف تتجلى قوة القيامة المنبثة في الكون؟
1- قوة القيامة هذه تتجلى بنوع خاص في الكنيسة، التي أرادها المسيح طليعة التجدد وخميرته في التاريخ البشري (من هنا مثل الخميرة التي خمّرت العجين كله). إن الكنيسة، من حيث أنها، بنوع أخصّ، “جسد المسيح”، فهي تتلقى منه بكثافة – إذا ما أسلمت ذاتها له – قوة القيامة وتشعّها في العالم الذي يفرض فيها أن تكون منارته وبؤرة الحياة الجديدة فيه. أن هذا يتمّ:
أ – عبر الكلمة الإلهية التي يُفرض بالكنيسة أن تتقبلها كما تتقبل الأرض الطيبة الزرع الذي يُلقى فيها، فتصبح هذه الكلمة فيها نورًا للأذهان ومنقية للقلوب ومشددة للعزائم وموجهة في سبل الخير وطاردة للظلمة ورادعة للشرور وواقية من الضعف وموقظة للرجاء.
ب – عبر الأسرار المقدسة، التي بها يُولد المرء للحياة الجديدة (المعمودية) وينمو فيها (الميرون) ويغذيها فيه باستمرار (المناولة) ويعود إليها بعد تناقصها فيه (التوبة) ويتلقاها منيرة وموجهة ومشددة لكافة أوضاع حياته (الزواج، الكهنوت، الزيت المقدس).
ج – عبر الصلاة، التي تستدعي في أعضاء الكنيسة قوة المسيح القيامية كما يستدعي التنفس الهواء المحيي. وللصلاة الجماعية فاعلية خاصة من هذه الزاوية: “إذا جمع اثنان منكم في الأرض صوتيهما وطلبا حاجة، حصلا عليها من أبي الذي في السموات. فمتى اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي،كنت هناك بينهم” (متى 18: 19-20). هذا وان الصلاة الليتورجية تستدعي قوة القيامة في كافة لحظات الزمن (نصف الليل، السحر، الساعة الأولى، الساعة الثالثة، الساعة السادسة، الساعة التاسعة، الغروب، النوم) من أجل تجديده.
د – عبر الاجتماع الإفخارستي (الشكري)، حيث يجدد المؤمنون اتحادهم بالمسيح الناهض من بين الأموات وببعضهم البعض فيه، بحيث يؤكدون ويعمّقون في كل مرة كونهم جماعة قيامية وامتداد المسيح الناهض في التاريخ وطليعة لتجدد البشرية ووحدتها.
هـ – عبر المحبة المعاشة بين أعضاء الجماعة الكنيسة، التي تشق طريقها عبر الخلافات والتأزمات التي لا مناص منها، تلك المحبة المعبّر عنها بالمشاركة المادية والمعنوية فيما بينهم، والتي هي بآن نتيجة كونهم جماعة قيامية وسبيل إلى تحقيق هذه الصفة: “نحن نعلم أننا انتقلنا من الموت إلى الحياة، لأننا نحب الأخوة” (1 يوحنا 3: 14).
2- ولكن قوة المسيح القيامية تتجلى أيضًا خارج حدود الكنيسة المنظورة، ذلك أن الكنيسة المنظورة لا تحصر المسيح، وإن كانت – أو يجب أن تكون، بالأحرى- المكان المميز لحضوره. هذا ما تشير إليه مثلاً حادثة الرجل الذي كان يطرد الشياطين باسم يسوع دون أن يكون منتميًا إلى جماعة التلاميذ. فأراد هؤلاء أن يمنعوه، لكن يسوع عارضهم (راجع مرقس 9: 39-40). هذه القوة القيامية الفاعلة في المجال الإنساني الشامل تتجلى:
أ – في كل اتجاه أصيل إلى الله ولو لم يكن مقرونًا بمعرفةٍ لله في تمام حقيقته التي انكشفت لنا في يسوع المسيح. لا بل في كل سعي أصيل إلى الحق والخير والجمال حتى لو لم يكن في الظاهر مستلهمًا من الله وموجهًا إليه، إذ أنه في هذه الحال يكون سعيًا إلى ذلك “الإله المجهول” الذي وجد الرسول بولس إشارةً إليه عند أهل أثينا (أعمال الرسل17: 23)
ب – في كل انعطاف حقيقي من الإنسان إلى أخيه الإنسان، إذ تنتعش الحياة حينئذ عند هذا وذاك ويتراجع الموت، في كل مساعدة تقدم إلى إنسان أو إلى مجموعة من البشر فتخفف عنهم وطأة البؤس المادي أو المعنوي وتنجيهم من العزلة والموت.
ج – في كل نضال من أجل تخفيف آلام البشر وإنقاذهم من الآفات التي يعانون منها (كالجوع والمرض والجهل والتخلف)، وبالتالي في كل مشروع تنمية يتناول مختلف أصعدة الحياة الإنسانية، من صحية واقتصادية وثقافية وغيرها، وفي كل إنجاز علمي يصب في الغاية نفسها.
د – في كل تصدّ للظلم الذي يسحق الإنسان في الظالم والمظلوم على حد سواء، وكل نضال مخلص في سبيل إحلال شروط توفّر للبشر العدل والحرية والكرامة والسلام.
2 تعليقان
الشخصية الكونية للمسيح
. رؤية اللاهوت الآبائي للكون .
في اعتقادي ، تتلخص الرؤية الآبائية للكون في ثلاث خصائص ، هامة :
1 – الاعتمادية ، على حضور شخص الكلمة :
ليس للكون عند الآباء – لاسيما أثناسيوس – وجود مستقل بذاته ، فالكون ، بطبيعته اعتمادى (dependant ) ، هكذا خرجت الخليقة إلى الوجود ، وأصبح الكون حقيقة ، بعد أن كان عدما ( creatio ex nihilo ) ، بسبب واحد ، فقط ، لا ثان له ، هو حضور الكلمة . ويكتسب مصطلح ” الحضور = presence ” ، ذلك الزخم العظيم ، عند أثناسيوس ، وهكذا لا يبدو الكون إلا استعلانا لذلك الحضور ، الذي لم يعد فقط مجرد فاعل ، في لحظة خلقة الكون ، بل قد صار وجود الكون واستمراره – بكل تفاصيل حركته وتطوره – معتمدا على حضور الكلمة ، وكاشفا له . والتخيل للكون ، بدون حضور الكلمة فيه ، هو تخيل لتلاشي الكون وعودته إلى العدم .
2 – الشخصية الكونية :
ليس الكون مجرد تجمع عشوائي لأجزاء عشوائية ، متناثرة ، بل للكون شخصية عامة ، ووجود كلي ، حاضر وظاهر في كل جزء من أجزائه ، مهما بلغ صغر هذا الجزء ،إنه الانسجام ، والتناغم ( harmony )، بين جميع الأجزاء ، من خلال سياق منظومي ، شامل ، وهذا بالضبط ، هو ما عبر به العظيم أثناسيوس ، عندما استخدم كلمة “السيمفونية ” للتعبير عن الإنسجام الكلي ، وعن الشخصية العامة للكون .
3 – الكون ، كصورة للثالوث القدوس :
العبارة الشهيرة لأثناسيوس : ” من الآب بالابن في الروح القدس ” تظهر وجود الكون كصورة للوجود الالهي ، القائم فى علاقة شركة الثالوث القدوس . نعمة خلقة الكون هى استعلان حضور الثالوث ، في الكون . المحبة الثالوثية قد استعلنت في خلقة الكون ؛ إذ قد وهب ( بضم الواو) الابن الوحيد ، كعطية أبدية ، للكون ، لكي لا يهلك كل من يؤمن به ، بل تكون له الحياة الأبدية ، حدث هذا في تجسد الكلمة . هكذا أصبح تبني الكون ، حقيقة واقعة . هكذا أظهر الكون كصورة للثالوث القدوس .
. إذن ، ومن خلال الثلاث خصائص السابقة ، نستطيع أن نقول بأننا أينما ننظر في الكون ، فنحن نتجه بأبصارنا صوب ما يكشف ، وما يستعلن ، حضورا شخصيا للكلمة . شخص المسيح حاضر ومستعلن في منظومة القوانين الطبيعية – ذات الطابع الكلي الشخصي ، السيمفوني – الحاكمة للكون .
هذه هي ، ذات الصورة التي يتم اظهارها ، وتناميها ، وتثبيتها إلى الأبد ، بتكريس الوجود الكامل للمسيح المستوعب للكون الجديد ، أي الكنيسة .
. الكون الجديد .
. بتجسد الكلمة ، وظهور الرب يسوع التاريخي ، بدأ ظهور الكون الجديد ، وفي يسوع ، أعتق الكون من طبيعته الزمانية المكانية ، وبالقيامة استعلنت الطبيعة الجديدة ، عديمة الفساد ، غير المحدودة بقيود الزمان والمكان ، فقد صار يسوع ، آدم الجديد ، روحا محييا ، منه ينطلق الوجود الروحاني ، للكون الجديد ، أي الكنيسة .
. صار الزمن الكوني ، في يسوع ، حاضرا أبديا ، يتحقق فيه ملكوت السماوات ، بامتلاء شخص المسيح بجميع المختارين . وصار المكان الكوني ، مجالا لاجتماع الكنيسة ، هيكل الروح القدس ، الأبدى ، الذي حجر زاويته هو يسوع التاريخي .
. الأبدية هي المصير النعموي لزمن الكون الطبيعي ، هي الزمن الممتلئ ، هي الزمن الآني ، أبدا . هذا هو ما تحقق لباكورة الكون الجديد ، الرب يسوع ، التاريخي.
. وبخصوص الشق الثاني ، لطبيعة الكون ، العتيق ، أي ” المكان “، فقد تم تجديده ، وامتلاؤه . تحرر الكون الجديد ، في يسوع ، من قيود ومحدودية المكان . صار للإنسانية طبيعة روحية ، صارت كائنة إلى الأبد في الروح القدس ، صارت مستوعبة في مجال الروح وليست مقيدة بقيود المكان . فالحياة في الروح القدس هي حالة من السعي الأبدي نحو عمق الله ؛ إذ أن الروح هو الذي يفحص ، حتى أعماق الله .( 1كو 2 : 10 ) . فالانسانية الجديدة ، بصعودها إلى الآب ، في يسوع ، قد صارت في ديناميكية أبدية نحو العمق الالهي ، في الروح القدس ، وليتنا نتأمل بشيء من التدقيق ، عبارة الرسول بولس : “.. لكي يعطيكم بحسب غنى مجده ، أن تتأيدوا بالقوة بروحه في الانسان الباطن ، ليحل المسيح (o christos ) بالإيمان في قلوبكم ، وأنتم متأصلون ومتأسسون في المحبة ، حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ، ما هو العرض والطول والعلو ( الارتفاع ) والعمق ، وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة ، لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله .” ( أفس 3 : 16 – 19 )
. شخص الرب يسوع
1- الإنسان الكامل
المسلمة الأولى في الخريستولوجي هي أن الرب يسوع ، التاريخي ، هو إنسان كامل ، وإله كامل بآن واحد . إنسانية الرب يسوع كائنة في حالة احتواء ( تواجد) متبادل مع لاهوته ، حتى أنه ينظر إليه فيرى الإنسان الكامل ، وأيضا ينظر إليه فيرى الإله الكامل . ولكن السؤال الجوهري هو : ما معنى تعبير”الإنسان الكامل ” ؟ . هل الإنسان الكامل هو طبيعتنا البشرية العتيقة ،بمعنى الإنسان النفساني ، اللحم والدم ؟ .
إذا كان تعبير الإنسان الكامل ، في سياقه الخريستولوجي يعنى الكيان البيولوجي، الحيواني ، النفساني ، الذي نحن إياه ، والذي تم تجديده في المسيح ، بالقيامة – فتكون النتيحة المنطقية ، لهذه الفرضية ، هي أن الكلمة بتجسده ، قد لبس إنسانية ناقصة ، مكملا إياها، بالقيامة . ويكون الاتحاد الأقنومي كائنا بين عنصرين ، هما الكلمة والطبيعة الانسانية الحيوانية ، العتيقة ، من لحم ودم . وتكون النتيجة الأكثر كارثية ، هي أن شخص الرب يسوع ، الكلمة المتجسد ، قد ظل ناقصا، إلى أن تكمل ، وتجدد ، ونال عدم الفساد ، بالقيامة . وبمعنى أكثر فجاجة ، يكون شخص الكلمة المتجسد ، قد تغير بالقيامة عن ما كان عليه ، قبل القيامة .وعليه فيكون حدث التجسد هو غير كامل منذ الحبل الالهي ، ويكون أيضا أن الاتحاد الأقنومي هو غير كامل منذ أول لحظة للتجسد ؛ لأن ما كان الكلمة قد اتحد به أقنوميا منذ بداية الحبل ، قد تبدل وتغير بالقيامة . أي كفر ، وأي هرطقة ، من الممكن أن تكون أعظم من هذا ؟!، وأي مفهوم للاتحاد الأقنومي يكون هذا ؟!.
. هناك ، إذن فرق جوهري ودقيق ، بين أن يقال أن الكلمة قد اتحد اقنوميا بالطبيعة البشرية ، الخاضعة للألم والموت ، مجددا إياها بالقيامة – وأن يقال أن الكلمة قد زرع ذاته في الطبيعة البشرية الخاضعة للألم والموت ، فنبت فيها باكورة الطبيعة الجديدة ، غير القابلة للألم والموت ، هذا الذى أعلن لنا ، بإظهار القيامة ، فى اليوم الثالث لموت الرب ، بعد أن خلع طبيعتنا العتيقة على الصليب . فالقيامة هي حقيقة واستحقاق الاتحاد الأقنومي لشخص الرب يسوع ، منذ أن صار هناك اتحاد أقنومي ، مع أول لحظة للحبل في رحم العذراء . وأما الألم والموت فهما حقيقيان ، وبكل تأكيد ، ينسبان إلى الشخص كاملا ، وسيظل الخروف المذبوح ، هو الخبرة الأبدية المنقوشة في وعي شخص الرب يسوع المسيح .
. واقع الحال هو أن إنساننا العتيق ليس بأي حال من الأحوال ، إنسانا كاملا . فالإنسان الكامل هو ذلك النموذج الذي جبل الإنسان عليه ، وقد صار هذا النموذج واقعا كونيا ، جديدا مع أول لحظة للتجسد . وبالرغم من ظهور ذلك الإنسان الكامل، فقد ظل لابسا نقصنا ، إلى أن اجتاز فيه موتنا ، فتمت إبادة النقص ، وتم موت الموت ، ووهب لنا الكامل ذاته ، كرأس لكمالنا وكمصدر لحياتنا وكبداية للكون الجديد .
. الإنسان الكامل ، كائن خلف الذبيح المعلق على الخشبة ، بل هو كائن في أعماق الكون كله منذ أول لحظة لحدث التجسد .
. الإنسان الكامل هو جسد الكلمة الخاص الذي اجتاز الموت في رداء ، في حجاب ، هو طبيعتنا ، نحن . وحينما خلع الرب هذا الرداء ، كان قد خلع الموت عنا ، معلنا عن جديده الكامل ، المستتر خلف طبيعتنا البيولوجية ، بل خلف الكون الطبيعي ، كله .
2- تفرد إنسانية يسوع
شخص الابن ، بولادته في الكون ، قد أظهر شخصا متفردا ، والتفرد هنا هو تفرد الشخص كاملا ، بعنصريه الكلمة والإنسان .وتفرد إنسانية يسوع ، ينبع من كونها تمثل جسد الكلمة الخاص . وهنا يجب أن ندرك حقيقة هامة ، وهي أنه حيث يوجد الكلمة ، يوجد جسده الخاص . والكلمة حاضر فى الكون منذ انطلاقه ، حاملا إياه ومسيطرا على كل مساره حتى نهايته ، ومنذ أول لحظة للتجسد بلغ حضور الكلمة قمة غير مسبوقة فقد صار الكلمة في اتحاد شخصي مع أرفع منتج للكون ، أي الإنسان ، وهكذا صار لإنسانية يسوع حضور كوني . هذه هي الحلقة المفقودة التى ينبغي أن نتحدث عنها ، أى الشخصية الكونية للرب يسوع التاريخي ، الانسانية الجديدة التي له بفضل كونه جسد الكلمة الخاص ، تلك الانسانية التي تحررت من قيود الزمان والمكان . فبتحررها من قيد الزمان أصبحت شريكة في حياة الكلمة أي في الحياة الأبدية ، وبتحررها من قيود المكان أصبحت طبيعة روحانية ، تحيا في مجال وليس في مكان ، أي في مجال الروح ، لأنه حيث روح الرب فهناك حرية .
. إذن ، فعندما نرصد ، تاريخيا ، عتيق الرب يسوع في مسيرة ضعفه على الأرض ، مرورا بآلامه وانتهاءا بموته ، فيجب أن لانعثر ونعتقد أن ذلك المشهد المحدود جغرافيا وتاريخيا هو كل شئ في مايخص شخص الرب يسوع الكامل ؛ فخلف ذلك الحمل المذبوح تستتر شخصية كونية ، هي إنسانيته الجديدة التي تملأ الكل وتجذب إليها الكل ، فهي رأس الكون الجديد الباحث عن أعضائه في الزمان والمكان . وهنا يجب أن نؤكد أمرا ، وهو بالحق مسلمة خريستولوجية ، وهو أن إنسانية يسوع قد ظلت في ديناميكيتها وحضورها الأبدي ، فلم يتخل الإنسان عن إنسانيته ليصبح إلها ، وإنما قد تأله أي نال نعمة الشركة في حياة الله . جسد يسوع هو جسد مخلوق ، وسيظل إلى الأبد مخلوقا ، أي يظل يتقبل مجده الخاص كجسد الكلمة من شركته في الكلمة من خلال الاتحاد الشخصي غير القابل للانفصال سواء قبل أو بعد الاتحاد .
. ولأن كيان يسوع الإنساني الجديد هو جسد الكلمة ، الخاص فنتيجة ذلك أمران :
1- قبوله نعمة عدم الفساد واللامحدودية الزمكانية ( من الزمان والمكان ) بفضل اشتراكه في الكلمة .
2- قبوله للنعمة ، ليس قبول المستفيد فقط مثلما هو حالنا نحن ، بل قد صار مصدر النعمة الوحيد في الكون ، كوسيط لأنه الإنسان الكامل والإله الكامل بآن واحد . وإن كان قد أخذ مجده بفضل اشتركه في الكلمة ، الذى هو معه في اتحاد أقنومي ، فهو في ذات الوقت يمجد الذين يشتركون فيه بجعلهم أعضاءا منتمين إلى رأس هو جسد الكلمة الخاص ، وبذلك يهبهم ما قد حصل عليه ، هو شخصيا من التأله واللامحدودية الزمكانية .
. إنسانية يسوع ، الجديدة ، المتفردة ، جسد المونوجينيس ، الخاص – قد أظهرها الرب يسوع التاريخي ، للتاريخ في مواضع عدة ، فعلى الجبل ، وقبل أحداث الصليب والقيامة ، كان الرب قد كشف للخاصة من تلاميذه ، عن هذه الإنسانية الجديدة التي نالت مجد الشركة في الكلمة ، وأوصاهم أن لا يبوحوا بما قد رأوا إلى أن يعلنه هو ذاته ، بالقيامة . وبعد القبر كشف الرب ، بقيامته عن هذه الإنسانية الجديدة وأظهرها لتلاميذه مرات عديدة ، طيلة أربعين يوم ، ثم بعد ذلك أظهرها صاعدة إلى السماء ، وأما هم فقد ظلوا شاخصين ، مخطوفة ألبابهم من المشهد .
ولكن كيف ينبغي لنا أن نفهم هذه التجليات والظهورات ؟ هل يجب أن نفهم أن انسانية يسوع الجديدة مازالت محدودة بإحداثيات المكان ، حتى أن فى استطاعة العين الطبيعية ، أن ترصدها وهي تتحرك من هنا إلى هناك أو أن تصعد إلى أعلى ؟ وسؤال اخر : ما معنى الصعود ، ذاته ؟ هل هو الانتقال إلى أعلى ، إلى السماء ؟ ثم ماذا تعنى كلمة السماء ؟ هل السماء مكان ؟ .
. حقيقة الأمر هو أن إنسانية يسوع ، الجديدة هي باكورة الإنسانية الصاعدة إلى السماء ، والمقدمة إلى الآب عندما صارت شريكة في الابن ، باتحاد شخصي غير قابل للانفصال . إذن ، معنى أن الكلمة قد صار جسدا هو أن الكلمة قد أصعد هذا الجسد إلى الآب السماوي . فجسد الكلمة الخاص هو جسد ذلك المونوجينيس الكائن في حضن أبيه الذاتي ، وفيما تتحد إنسانية يسوع ، أقنوميا بالكلمة فهي تصعد ، وتقدم إلى الآب كباكورة لتقدمة الجميع .
. تتفرد إنسانية يسوع في أنها قد نبتت في الزمان وبالر غم من ذلك فمنذ ظهورها قد صارت محورا ومآلا لحركة الزمان . وأيضا تتفرد إنسانية يسوع في أنها قد نبتت في المكان وبالرغم من ذلك فمنذ ظهورها قد صارت تملأ كل الكون ، إذ هي كائنة في اتحاد أقنومي مع ذلك الذي يملأ الكل ، الله الكلمة .
. إننا لا نجد عبارة في الإنجيل – تستطيع أن تعبر عن الطرح السابق – أعظم من عبارة إنجيل يوحنا : ” هكذا أحب الله العالم ( الكون =cosmos)حتى بذل ( أعطى ) ابنه الوحيد ( المونوجينيس) ، لكي لا يهلك كل من يؤمن به ، بل تكون له الحياة الأبدية ” . ( يو 3 : 16 ). وفي رسالته الأولى : ” بهذا أظهرت محبة الله فينا : أن الله قد أرسل ابنه الوحيد ( المونوجينيس ) إلى العالم ( الكون = cosmos ) لكي نحيا به . ( 1يو 4 : 9 ).
3- تفرد موت يسوع
موت الإنسان – من الناحية العملية – وكما نختبره ، هو انهيار صورته البيولوجية ، بشق طبيعته النفسجسدية ، إلى عنصريها .والنفس هي طاقة الحياة ، غير المادية ، المعبرة عن الجسد ، والمحركة له . وببطلان هذه الطاقة ، تنهار بيولوجية الإنسان ، أي تنهار الأنسجة وتنهار الخلية الحية ، ويرتد الكيان كله إلى حفنة من العناصر الأولية ، الداخلة في تكوين الكون ، بصفة عامة .
. ومثلما كان الكيان الإنساني الجديد ، ليسوع ، متفردا – في عدم الفساد ، بفضل اتحاده أقنوميا مع الكلمة – كان موت يسوع متفردا ، في كونه موتا للكون كله ، فلم تنهار الصورة البيولوجية ، فقط ، بل قد انهارت جميع العناصر الأولية ، المكونة للبيولوجيا . خضع عتيق يسوع لاستحقاقات لحظة نهاية الكون ، وفنائه ، إذ قد انهارت المادة ، واختفت القوانين الطبيعية ، التي تحكمها.
. لم يترك الرب يسوع ، في قبره ، جثة ، قابلة للتحلل ، كما يحدث لنا ، ولو كان قد حدث له ذلك ، لكان عليه أن ينتظر حتى لحظة نهاية الكون ، لكي مايكتمل موته . هو لم يفعل ذلك ، ولكنه قد أكمل موتنا ، بل قد أكمل وأتم موت الكون كله ، وبذلك فقد اجتاز كيانه الجديد – الذي هو جسد الكلمة الخاص – أقصى درجات تحدي الموت ، له ، أي العدم ، وخرج ظافرا ومعلنا نصرة إنسانيته ، المتحدة أقنوميا ، بالكلمة ، ومظهرا هذه النصرة ، في شعبه، الذي يجتمع فيه ، أي الكنيسة .
. ومثلما كان زمن الكون ، في جديد يسوع ، حالة من البدء اللانهائي ، كان الزمن في عتيق يسوع ، هو زمن نهاية الكون ، وصار زمن الكون ، ماضيا قد تم تجاوزه .بموت عتيق يسوع . قد تم طي الزمان والمكان ، وبإعلان حياة جديد يسوع قد أظهر الزمن الآني ، الآن الأبدي . وأظهرت الحرية من المحدودية المكانية ، بالشركة في الطبيعة الروحية الجديدة ، التي لا تستوعب في المكان ، بل تستوعب في مجال الروح القدس .
. النقطة الجوهرية هي أن الحياة وعدم الموت ما هي إلا كشف لحضور الكلمة . وفي كيان يسوع الجديد ، القائم والمنتصر على الموت ، أصبح الكلمة حاضرا إلى الأبد في الكون ، أما عتيق يسوع ، فهو عتيقنا ، هو الكون العتيق ، المتروك بطبيعته من الشركة الأبدية في الكلمة ، لأنه : ” لا يرث الفساد عدم الفساد ” . عتيق يسوع قد صرخ على الصليب ، معلنا حقيقة هذه المأساة : ” إلهي ، إلهي ، لماذا تركتني ” . هكذا ، كان موت المسيح إعلانا عن جدة الحياة ، الناشئة في بيئة الموت الكوني. بموته داس الموت ، وأعلن الحياة ، بالشركة غير القابلة للإنحلال ، في اللوغوس.
. شخص الرب يسوع التاريخي ، هو قائم ومستعلن في عنصرين : لاهوت الكلمة ، والإنسانية الجديدة عديمة الفساد . وأما البيئة العتيقة ، التي هى نحن ، فقد ظل الكلمة المتجسد ، مرتديا إياها ، وفيها قد قبل الألم ، إلى أن أسلمها لمصيرها ، الذي هو مصيرنا ، ومصير الكون الطبيعي ، كله ، أي ” العدم ” . وهكذا اجتاز شخص الكلمة المتجسد ، الموت ، وهزمه ، إذ لم يستطع الموت أن يقتنص منه غير عتيقه الظاهر ، أما جديده ، فقد أعلنه لنا رأسا لنصرتنا ، رأسا للكون الجديد .
. عثرتان تعرقلان إدراكنا لكونية شخصية الرب يسوع :
1- عثرة المحدودية الزمكانية :
. لأننا زمكانيون ( من الزمان والمكان ) بطبيعتنا ، فقد اصطبغت نظرتنا الخريستولوجية بصبغة الزمان والمكان ، وكانت النتيجة المأساوية أننا فقدنا – في اعتقادي – أهم حلقة في الفكر الخريستولوجي ، أي حلقة الشخصية الكونية ، لإنسانية يسوع ، الجديدة الكائنة منذ أول لحظة للتجسد .
. نظرنا إلى عتيقه الظاهر منذ أن صار إيانا ، ولم نستطع أن نرى جديدنا الكائن فيه ، المستتر منذ أول لحظة للتجسد .
. نظرنا إلى اللحم والدم ، الظاهرين منذ أن صار الكلمة ، إيانا ، ولم نستطع أن نرى طبيعتنا الروحية الجديدة المستترة ، الكائنة فيه منذ أول لحظة للتجسد .
. ولما أردنا أن نوفق بين انطباعاتنا الزمكانية ، والمسلمة الأساسية في التجسد – من منظور النعمة – افترضنا أن اللحم والدم قد تغيرا ، تعسفيا ، إلى الطبيعة الممجدة الجديدة ، بالقيامة ، وبذلك قد كسرنا القاعدة الإنجيلية التي تقول بأن ” اللحم والدم لا يستطيعان أن يرثا ملكوت الله ، ولا يرث الفساد عدم الفساد ” . ( 1كو15 : 50 ).
. افترضنا أن استحقاق سر التجسد – في إنسانية يسوع – قد تكمل وامتلأ على مدار السيرة الذاتية ليسوع ، على الأرض ، ولم ندرك أن هذا الاستحقاق هو استحقاق الاتحاد الأقنومي ، منذ أول لحظة للتجسد .
. افترضنا أن مضمون القيامة هو مجرد معجزة ، مثل معجزة إقامة لعازر ، مثلا ، ولم ندرك أن القيامة هي حقيقة ومضمون الاتحاد الأقنومي ، الكائن منذ أول لحظة للتجسد .
. افترضنا أن حدث القيامة – المرصود تاريخيا – هو حدث منشئ لإنسانية يسوع الجديدة ، ولم ندرك أن حدث القيامة هو حدث كاشف لحقيقة ما هو واقع بالفعل منذ أول لحظة للتجسد .
. لبسنا الزمان والمكان ، كمنظار ، على أعيننا فرأينا تدبير الخلاص كحدث زمني متسلسل ، ولم ندرك أن التدبير كامل ، وممتلئ منذ أن صار الاتحاد الشخصي بين الله والانسان . وما ترصده الأناجيل ، ما هو إلا أحداث كاشفة تخاطب زمكانيتنا التي لا تستطيع أن تدرك القيامة إلا وهي مسبوقة بالموت ، بينما حقيقة الأمر هي أن القيامة قد سبقت الزمان والمكان ، وأن جديد يسوع قد سبق اكتمال السيرة الذاتية لعتيقه ، بل هو كائن منذ أول لحظة لانطلاق هذه السيرة ، في التاريخ . ولم يكن موت يسوع إلا ” اختبار التحدي = challange test” الذي كشف عن عدم قابلية إنسانية يسوع الجديدة للموت ، وهذا ما أظهره الرب في فجر الأحد بعد اجتياز الموت الذي لم يستطع أن يلتهم منه غير عتيقه الظاهر الذي هو طبيعتنا ، وهكذا أظهر في حدث القيامة عربون وباكورة قيامتنا وعدم موتنا ، ذلك الذي سيتجلى فينا ، أيضا بعد أن نخلع عتيقنا ، كما سبق هو أن خلعه .
. وإن كنا نتغير الآن ، باطنيا ( في الإنسان الباطن ) ، فلكي ما نشترك في جديده الذي كان مستترا منذ اول لحظة للتجسد ، وعندما نفقد عتيقنا الظاهر ، وفقا لطبيعته الفاسدة ، فلنا رجاء في الآخر المستتر الذي يتصور كعضو ، رأسه الرب يسوع التاريخي ، الكائن منذ أول لحظة للتجسد .
2- عثرة التاريخية :
. بالتأكيد ، إن شخص الرب يسوع ، المرصود إنجيليا ، هو شخصية تاريخية ولكن ما تتفرد به هذه الشخصية ، هو أنها أول شخصية إنسانية تدخل التاريخ ، لتسكن التاريخ ، وليسكنها التاريخ . فالرب يسوع ، الإنسان الجديد ، منذ أول لحظة للتجسد ، هو حاضر في الكون ، كرأس تجتذب أعضاءها الكثيرين ، المشتتين في الزمن المتبقي من تاريخ الكون ، كما سبق أن اجتذبت المشتتين في الزمن السابق للتجسد ، وذلك بمجرد ظهوره وافتقاده للمأسورين في الجحيم . وهكذا بمجرد ظهوره ، صار الزمن ، فيه ، حاضرا أبديا يصب فيه كل من الماضي والمستقبل وصار التاريخ فيه ، تاريخا أبديا للكون الجديد عديم الفساد .
. تحدث العثرة من تاريخية شخص الرب يسوع ، عندما يختزل الشخص في عتيقه الظاهر ، المرصود تاريخيا في الأناجيل ، وبالتالي نجد أنفسنا – بانتهاء السيرة الذاتية له على الأرض ، بالصعود – أمام نمط لشخصية ، لابد أن ندعوها تاريخية ، لكي تنسجم مع انطباعاتنا ، و لكن ما يجب أن ندركه ، هو أن إنسانية يسوع الجديدة ، بالرغم من كونها حقيقة تاريخية ، إلا أنها حاضرة في ما تبقى من التاريخ ، لتجتذب كل ثماره إلى تاريخ جديد للكون ، تاريخ لا نهائي. فالكلمة بتجسده قد صار تاريخيا ، ولكن الكون – فيه ، ومنذ أول لحظة للتجسد – قد صار أبديا .
. المسيح الكوني ( Cosmic Christ ).
المسيح ، ليس شخصا تاريخيا ، تقاطع مع الزمان والمكان ، في الكون ، في لحظة زمنية وفي مكان معين ، بل إن المسيح هو محور حركة وجود الكون . وهذه المحورية ، تتجلى على صعيدين :
1- محوريته كفاعل ، في الكون
إذ بحضوره قد ظهر الكون ، وبحضوره يتطور الكون في مساره المرسوم ، وفقا للقوانين الطبيعية ، التي هي ، في حد ذاتها تكشف ، صورته كشخص اللوغوس الفاعل والمسيطر والمعلن ذاته .
2- محوريته كمستهدف ( بفتح التاء ) للكون .
حضور شخص الكلمة ، كفاعل ، فى الكون الطبيعى هو حضور مؤقت ، وباستمراره ، يستمر وجود الكون الطبيعي ، وما أن ينهي الكلمة حضوره في الكون الطبيعي، إلا وينهار الكون عائدا إلى أصله ، الذي هو العدم . ولكن الخبر السار، هو أن شخص الكلمة الحاضر في الكون الطبيعي ، قد صار بتجسده بكرا للكون الجديد ، عديم الفساد وعديم الموت ، صار رأسا للانسانية الجديدة الممتدة في الزمان والمكان .
. ليس لوجود الكون هدف غير إنتاج شخص المسيح الكامل المستوعب للكنيسة . هذا هو الكون الجديد . هذا هو الأرض الجديدة والسماء الجديدة . هذا هو ملكوت السموات . هذا هو المسيح الكوني .
. الليتورجية الكونية
تعبير ” الليتورجية الكونية “، هو من إبداع ” اللاهوتى السويسري : ( Hans Urs Von Balthasar ,1905-1988 ) ، الذي يعتبر من أعظم اللاهوتيين في القرن العشرين ، وقد كان هذا التعبير ، مضمونا وعنوانا لكتابه الشهير : ” cosmic liturgy.the universe according to Maximus the Confessor). وفي هذا الكتاب تمت إعادة اكتشاف القديس ماكسيموس المعترف (580 م -662 م )، من خلال مفهوم “الليتورجيا الكونية “، التي يبقى فيها الرب يسوع المسيح هو الإنسان الكامل ،الذي تم فيه توحيد الإنسان ، كما سبق أن تم توحيد الكون في الإنسان ، وهكذا يظهر شخص المسيح كمرجعية ” قيمية “، كونية ، وحيدة . وهكذا يشير لنا المسيح ، أن الكون يجب أن يصبح ، فى النهاية ، ليتورجيا مجد الله ، وأن العبادة هي بداية التحول الحقيقي ، والتجدد الحقيقي للعالم .
. إلى هنا ، والليتورجيا الكونية ، كما يجب أن ندركها – في اعتقادى – ليست هي مجرد ذلك البعد التصالحي الكوني ، الذي يتم فيه قبول الآخر ، فهذا البعد ، هو بالتأكيد يمثل قمة الوعي، في استيعاب وإدراك مفهوم الليتورجيا الكونية ، ولكن للمفهوم “بعد تحتي ، عملياتي ( إن جاز التعبير ) ، فالليتورجيا الكونية هي حدث وفعل كوني، بل هي المنظومة الكلية ، التي تشمل جميع الأحداث الكونية ، على جميع مستوياتها -ومن خلال كل القوانين الطبيعية ، ومن خلال كل العلاقات الكائنة في الكون ، ومن خلال كل مسار تاريخ الكون- مستهدفة ، هدفا واحدا ، هو تكميل شخص واحد وامتلائه ، شخص المسيح .
. فالمسيح هو وليد المخاض الكوني ، الذي فيه يتم تبني الحميع . وبقاء الكون ، وانتظاره ، مرهون بهذا الطرح ، فبحسب الرسول بولس : ” لأن انتظار الخليقة يتوقع استعلان أبناء الله . إذ أخضعت الخليقة للبطل – ليس طوعا ، بل من أجل الذي أخضعها – على الرجاء . لأن الخليقة نفسها أيضا ستعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله . فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معا إلى الآن . وليس هكذا فقط ، بل نحن الذين لنا باكورة الروح ، نحن أنفسنا نئن في أنفسنا ، متوقعين التبني فداء أجسادنا “. ( رو 8 : 19-23 ) .
. شخص المسيح ، هو الخادم الكوني ، الذي لم يكتف بمجرد حضوره في الكون الطبيعي ، أن يظهر إياه وفقا لطبيعته العتيقة ، بل قد آثر أن يلبس هذا الكون ، كرداء أبدي ، بتجسده فيه ، في شخص الرب يسوع ، التاريخي ، حتى ما يكون له شيء يقدمه ، وفيه يكمل خدمته ( leitourgia ) ، كما يقررالرسول بولس : ” وأما رأس الكلام فهو : أن لنا رئيس كهنة مثل هذا ، قد جلس في يمين عرش العظمة في السماوات خادما (leitourgos ) للأقداس والمسكن الحقيقي الذي نصبه الرب لا إنسان . لأن كل رئيس كهنة يقام لكي يقدم قرابين وذبائح . فمن ثم يلزم أن يكون لهذا أيضا شيء يقدمه .” ( عب 8 : 1-3 ).
. كان ظهور الرب يسوع التاريخي هو منطلق حدث امتلاء الخدمة الكونية ، فبامتداد استحقاقات التجسد ، في كل الكنيسة الكونية . تتواصل حركة الليتورجية الكونية ، نحو امتلاء المسيح الكوني .كل حركة الكون ، منذ انطلاقه وحتى نهايته ، هي فى خدمة هذا الهدف .
. الحركة الصادرة من الرب يسوع التاريخي ، كرأس -نحو جمهرة الأعضاء المشتتين في الزمان والمكان – هى ” افخارستيا كونية “، يتحقق فيها الكون الجديد ، كجسد للمسيح . يتحقق فيها الكون الافخارستي عديم الفساد ، أي الكنيسة .
. والآن ، كيف لنا أن ندرك العلاقة بين ليتورجية جماعة المؤمنين – المجتمعين في الكنيسة ، في لحظة معينة – و مضمون” الليتورجيا الكونية ” ؟ . والاجابة هي : إن كنا نؤمن بمسيح واحد ، يستوعب كنيسته الواحدة ، الكونية ، فلابد أن نعي أن ليتورجيا القداس الالهي هي مجرد انفتاح جماعة من المؤمنين – في لحظة زمنية معينة وفي مكان معين – على الليتورجيا الكونية ، المخترقة للزمان وللمكان ، لينضموا إلى ” قداس كوني ” واحد تتكرس فيه خدمة امتلاء المسيح بانضمام الجميع إلى رأسهم الواحد . إذن هي ليتورجيا واحدة و خادم كوني واحد .
. إن القداس الإلهي ليس حدثا انقطاعيا ، منعزلا، فالكاهن خادم السر ، لا ينشئ حدثا جديدا ، فما ليتورجيا القداس إلا مجرد باب يفتح على حدث جار ، آني ، هو ” القداس الكوني ” ، الذي يخدمه كاهن واحد هو المسيح الكوني . انه انفتاح ” الجزء ” ، الزمكاني ، المحدود ، على ” الكل” ، الإفخارستي ، الذي يفترش كل الكون . هي خدمة كونية واحدة . أنافورا واحدة . خادم كوني واحد . إفخارستيا واحدة . كنيسة واحدة . مسيح واحد .
. المسيح الكوني هو شخص ” ابن الإنسان ” الذي يتحقق مجيئه ” parousia ” الآن في الليتورجيا الكونية . وانتظار الكون موقوف باستكمال حضور شخص المسيح الممتلئ بالكنيسة ، مرهون باكتمال مجيء “ابن الانسان “، باكتمال مجيء ” المسيح الكوني “.
اقتبس هذا القول من المقالة لان فيه سر ان يحل كل ملء اللاهوت جسديا و فيه سر تدبير حياتنا و خلاصنا مع فرحي و ادراكي لكافة التعليقات الا ان في هذه الكلمات الدواء لكل داء روحي و فيها شركة الطبيعة الالهية المختفية بعيدا عن علم اللاهوت النظري !!!
(((لم تكن القيامة سوى إعلان لهذا المجد، أي لهذا الحضور الإلهي المكثّف الذي غمر إنسانية يسوع عندما قبلت هذه الإنسانية أن تنكسر حبًا بالصليب. هكذا تجلى أقصى القوة في أقصى الضعف. تلك هي قوة المسيح القيامية.)))