إن الروح القدس هو أحد أقانيم الثالوث القدوس: الآب، والابن، والروح القدس الإله الواحد. وللروح القدس كل الصفات الإلهية التي لأقنومي الآب والابن:
- فهو كلي العلم “يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ اللهِ… أمور اللهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ اللهِ” (1كورنثوس 2: 10، 11).
- وهو يفعل ما يشاء (1كورنثوس 12: 11).
- الروح القدس أزلي (عبرانيين 9: 14).
- الروح القدس يعرف المستقبل ويخبر به (لوقا 2: 26، يوحنا 16: 13).
- وهو كلي القدرة (رومية 15: 19).
- وهو القدوس، وهذه صفة الله وحده إذ لم تُطلق على أحد سوى الله في العهدين القديم والجديد (أفسس 4: 30، رؤيا 4: 8).
- وهو الحق “الروح هو الحق” (1يوحنا 5: 6).
- وله يُنسب الخلق (أيوب 23: 4، مزمور 33: 6، مزمور 104: 30 ).
- وهو موجود في كل مكان (مزمور 139 : 7، 8 ) وهو يسكن في جميع المؤمنين في كل زمان ومكان (يوحنا 14: 17، أفسس 1: 1).
- وهو المحيي (يوحنا 6: 63، 2كورنثوس 3: 6، رومية 8: 11).
- وهو مصدر الوحـي وملهم الأنبياء كلام الله وإرادته “بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللَّهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ” (2بطرس 1: 21).
- ويذكر العهد الجديد صراحةً أن الروح القدس هو الله، عندما قال بطرس لحنانيا “لِمَاذَا مَلأَ الشَّيْطَانُ قَلْبَكَ لِتَكْذِبَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ… أَنْتَ لَمْ تَكْذِبْ عَلَى النَّاسِ بَلْ عَلَى اللهِ»” (أعمال 5: 4).
عندما نتحدث عن الروح القدس، فإننا نتحدث عن الأقنوم الثالث في الثالوث الأقدس، وهو شخصيةٌ مميزةٌ عن شخصية الآب وشخصية الابن. فهو يعمل ويفحص ويتكلم ويشهد ويعزِّي ويعلِّم ويرشد ويوبِّخ ويوجِّه ويدعو إلى الخدمة، وهو متّحدٌ معهم اتحاداً لا اختلاط فيه ولا تمازج ولا ذوبان. ورد اسمه مراراً إلى جانب اسم الآب والابن. مثال على ذلك قول المسيح: “وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس”. وفي البركة الرسولية يقول القديس بولس الرسول: “نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس تكون معكم”. وفي الإصحاح 12 من رسالة كورنثوس الأولى يقول بولس أيضاً: “الروح واحد…الرب واحد..الله واحد”. وهذا دليلٌ على لاهوته الكامل المعادل للاهوت الأقنومين الآخرين. فالآب هو الله، والابن هو الله، والروح القدس هو الله.
وفي سفر أيوب نقرأ: “روح الرب صنعني ونسمة القدير أحيتني” مما يشير بوضوح إلى أن الروح القدس شارك الآب والابن في عملية الخلق، وأن هذه العملية هي صنع الأقانيم الثلاثة.
ألقاب الروح القدس في الكتاب المقدس كثيرة ومنها: روح الله، روح السيد الرب، روح الآب، روح النعمة، روح الحق، روح القداسة، روح الحياة، روح المسيح، روح التبني، روح الابن، روح النبوة والروح الأزلي.
الروح يوبخ الإنسان على خطاياه ويكشف عيوبه. قال المسيح لتلاميذه في الإصحاح 16 من إنجيل يوحنا “ومتى جاء ذاك – الروح – يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة”. فالروح يوبخ ويبكت ويكشف عيوبنا وذنوبنا بحيث نرى نفوسنا على حقيقتها لا كما نراها نحن. فنحن خطاة، وبسبب كبرياء قلوبنا لا نحب أن تسلط الأضواء على حياتنا لئلا نفضح. أمَّا الروح القدس، فيقول لنا الحقيقة كما هي. والحقيقة هي أننا خطاة.
لمَّا كان المسيح على الأرض، كان هو شخصياً يقوم بعملية التنديد والتبكيت وكشف الخطايا. ولكن لما دنت ساعة رحيله من هذا العالم قال لتلاميذه إن الروح القدس هو الذي سيتابع عمل التبكيت، فالروح المعزِّي هو الذي يتابع اليوم ما بدأ به المسيح على الأرض؛ لأنه مساو للابن والآب.
ثانياً: الروح يجدد. يقول بولس الرسول في الإصحاح الخامس من رسالة كورنثوس الثانية: “إن كان أحدٌ في المسيح فهو خليقة جديدة”. أما عامل التجديد، فهو روح الله، ولهذا دعي التجديد في رسالة تيطس “تجديد الروح القدس”. وقد أوضح الرب هذه النقطة مع المعلم نيقوديموس لما قال له: “ينبغي أن تُولد من جديد”. ولما لم يفهم المقصود قال له يسوع: “المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح”. فالروح القدس هو الذي يلد الإنسان التائب المؤمن ولادة روحية ويجعله إنساناً جديداً وابناً لله.
نتساءل كيف يحضر الروح القدس في العالم بعد انطلاق السيد إلى السماء ؟
لقد وفى المسيح بوعده وها هو بعد عشرة أيام من صعوده المجيد وجلوسه على يمين الله الآب يرسل لتلاميذه الروح القدس الذي حلّ عليهم وهم مجتمعين ” بنفس واحدة ” في علية صهيون، فحلّ عليهم بهيئة ألسنة من لهيب نار استقرت عليهم جميعاً. نلاحظ أيها الأحباء كيف قال الكتاب أن الروح حلّ على التلاميذ وهم مجتمعين في العلية ” بنفس واحدة ” وهذا في غاية الأهمية لأنه سبق للبشير لوقا كاتب سفر الأعمال أن قال ” هؤُلاَءِ – التلاميذ الإثني عشر – كُلُّهُمْ كَانُوا يُواظِبُونَ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّلاَةِ وَالطِّلْبَةِ مَعَ النِّسَاءِ وَمَرْيَمَ أُمِّ يَسُوعَ وَمَعَ إِخْوَتِهِ ” ( أع 1: 14 ) فهؤلاء هم من كانوا مجتمعين وحل عليهم الروح في ذلك اليوم. هذا يعني أن الروح يحلّ على الكنيسة وفي إطار الكنيسة وعندما تجتمع الكنيسة معاً بنفس واحدة وقلب واحد.
كان الرسل يثبِّتون المؤمنين بوضع اليد الذي استُبدِل بعد كبر حجم الرعايا وتباعدها بمسحة الميرون المقدس – سر التثبيت – وكانوا يسيمون الكهنةَ ويضعون الأيادي عليهم، وكانوا يقيمون سر الشكر – الإفخارستيا – ويعمدون الناس، وهكذا كانت كنيسة المسيح تكبر وتحيا.
إذاً الروح القدس يعمل في كنيسته من خلال الأسرار المقدسة والتي هي سبعة من خلالها يحصل المؤمنون على نعمة الروح القدس وشركته وشركة بعضهم البعض.
عمل الروح القدس
الوحدة بين المؤمنين هي بفضل الروح الواحد لا سواه، فهم جميعاً ولدوا من الماء والروح القدس بالمعمودية المقدسة وبمسحة الثبيت، ثم لهم أن يقاوموا هذا الروح أو يخضعون له. هكذا المؤمنون الحقيقيون روح الله يسكن فيهم موحِّداً إياهم فيه.
يشدد الرب يسوع على القوة التي ينالها المؤمنون بحلول الروح عليهم “تنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم”. وقد دعاه الرب يسوع “الروح المعزِّي” عندما وعد تلاميذه بإرساله إليهم.
الروح يوجِّه خطوات المؤمنين في مشيئة الله. فالأنبياء في العهد القديم تكلّموا وعلّموا كما ألهمهم الروح، ولهذا قال بطرس الرسول: “لم تأت نبوةٌ قط بمشيئة إنسان بل تكلّم بها رجال الله القديسون مسوقين من الروح القدس”. وبالمعنى نفسه صرّح الرسول بولس قائلاً: “كل الكتاب موحى به من الله”.
الروح يمجِّد المسيح: “ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويعطيكم”. وهذا يعني أن عمل الروح القدس هو أن يُظهر المسيح ويعلنه، ولذلك لا يقدر أحد أن يعترف بسيادة المسيح إلا بمساعدة الروح كما يقول الرسول بولس في رسالة كورنثوس الأولى: “ليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس” (12: 3).
لم يكن اختيار الرب ليوم حلول الروح عبثاً، بل هو إتمام ما رُسم قديماً، فعيد العنصرة كان عيداً لليهود يجتمعون فيه من أقصى الأرض ويأتون إلى أورشليم ليسجدوا في الهيكل. وهو ذكرى ظهور الله لموسى على الجبل يوم أعطاه لوحي الوصايا لبني إسرائيل، وكانت الشريعة المكتوبة التي يقول عنها بولس الرسول أنها كانت “مؤدبنا إلى أن يأتي المسيح”. يقول يوئيل النبي ” وَيَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنِّي أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَيَحْلَمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَماً وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤًى … وَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ يَنْجُو… لأَنَّهُ فِي جَبَلِ صِهْيَوْنَ وَفِي أُورُشَلِيمَ تَكُونُ نَجَاةٌ، كَمَا قَالَ الرَّبُّ، وَبَيْنَ الْبَاقِينَ مَنْ يَدْعُوهُ الرَّب ُ ” ( يو2: 28- 32 ). وهذا كان في ذلك اليوم أن أعطى الله أخيراً شريعته غير المكتوبة ووضعها في قلوب مختاريه لتثبت معهم وتثبتهم إلى الأبد.
الروح القدس في العهد القديم
يتساءل القديس كيرلس الإسكندري (+444)، في تفسيره الشهير لإنجيل يوحنا، حول الآية القائلة: “فلم يكن هناك بعد من روح، لأن يسوع لم يكن قد مُجّد” (7: 39). والسؤال الذي طرحه قديسنا هو: “كيف يقال إن الروح لم يكن موجودا قبل المسيح، مع العلم أن الروح قد تكلم بالأنبياء بأقوال كثيرة؟” (ولا ننسى أننا نقول اليوم في دستور الإيمان إن الروح القدس ينطق بالأنبياء). ثم يورد كيرلس الآية الكتابية القائلة: “ووصلوا إلى جمع، فإذا المجموعة من الأنبياء قد استقبلوه، فانقض عليه روح الله فتنبأ في وسطهم” (1صموئيل 10: 10)؛ والآية الإنجيلية الواردة على لسان السيد المسيح: “وداود نفسه قال بوحي من الروح القدس…” (مرقس 12: 36). بعد ذلك يجيب كيرلس نفسه على سؤاله بالقول: إن الله خلق الإنسان عادم الفساد، إذ “نفخ في أنفه نسمة حياة” (تكوين 2: 7)، إلاَّ أن الإنسان وجد نفسه بعد السقوط محروما من الروح وقابلا الفساد؛ أما الأنبياء فقد نالوا عطايا متفرقة لكي يتنبأوا عن مجيء المسيح، ولكي يوبخوا شعبهم لأجل ابتعاده عن الله. ويختم الأسقف السكندري بالقول إن الفارق اليوم هو أن المسيحيين جميعا قد أتيح لهم أن يصبحوا بمعموديتهم مساكن للروح القدس وهياكل له.
كان روح الله يحل على القضاة لوقت، ثم يغادرهم بعد أن يتمّوا الرسالة الموكلة إليهم. هكذا نرى “روح الله يحلّ على جدعون” (قضاة 6: 34)، أو “ينقض” على شمشون وعلى شاول (قضاة 15: 14، و1صموئيل 11: 6). فبدون أي تمهيد مسبق أو أي انتظار، كان روح الله يتدخل ويسكن هؤلاء القضاة لفترة لكي يوحِّدوا الشعب ويقودوهم. بعد القضاة تأتي حقبة الملوك الذين كانت مسؤوليتهم دائمة، بعكس القضاة الذين كانت رسالتهم محددة بأمر واحد. من هنا تأتي مسحة الزيت كتعبير عن استمرارية المهمة الموكلة إليهم، فصموئيل قال لشاول عندما صبّ الزيت على رأسه: “فينقضّ عليك روح الرب، وتتنبأ أنت معهم وتصير رجلا آخر” (1صموئيل 10: 6). أما داود فيقول عنه الكتاب: “فأخذ صموئيل قرن الزيت، ومسحه في وسط إخوته، فانقضّ روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدا” (1صموئيل 16: 13). غير أن هذه المسحة لم تكفِ لكي تجعل من نسل داود ملوكا على حسب قلب الله، حتى يأتي المسيح المتحدّر من هذا النسل فيقيم العدل والسلام إلى الأبد: “ويحلّ عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة” (اشعيا 11: 2).
ألسنة الروح الحقيقية في العهد القديم هي الأنبياء، الأقدمون فيهم: عاموس، هوشع، أشعياء، وارميا كانوا يشعرون بقوة الروح المسيطر عليهم، لذلك أسموه “يد الرب” عوض روحه، فأشعياء يقول: “فإنه هكذا كلَّمني الرب عندما قبض عليّ بيده” (8: 11)، أما ارميا فيقول: “ثم مدّ الرب يده ولمس فمي وقال لي الرب: ها أنذا قد جعلتُ كلامي في فمك” (1: 9). كانوا إذًا في قبضة الله لا يعلنون إلاَّ مشيئته ولا يتفوهون إلاَّ بكلامه. الروح ينقل إليهم كلمة الله وهم يعلنونها بقوة على الشعب. ولكن النبي الذي سوف يهب الخلاص للعالم فليس سوى ذاك المسيح (أي الممسوح بالروح القدس) الذي يستريح عليه روح الرب إلي الأبد: “روح السيد الرب عليّ لأن الرب مَسَحَني وأَرسَلَني لأُبشّر الفقراء وأجبر منكسري القلوب” (أشعياء 16: 1).
لقد أعلن أنبياء العهد القديم – بإلهام الروح – أن هذا الروح نفسه سيُعطى إلى العالم، وهذا ما تم في العنصرة. فها أشعياء يقول: “فإني أفيض المياه على العطشان والسيول على اليبس، أفيض روحي على ذريتك وبركتي على سلالتك” (44: 3)، أما يوئيل النبي فيقول في كتابه: “وسيكون بعد هذه أني أفيض روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم، ويحلم شيوخكم أحلاما، ويرى شبانكم رؤى، وعلى العبيد والإماء أيضاً أفيض روحي في تلك الأيام” (3: 1-2). والجدير بالذكر أن بطرس الرسول في عظته الأولى بعد حلول الروح القدس على التلاميذ يستشهد بهذه النبوءة اليوئيلية (أعمال الرسل 2: 17-21). ويرينا حزقيال النبي أن الروح قادر على إحياء العظام وإعادة خلقها، وذلك حين يدخل فيها فيعود اللحم والجلد ويكسوان العظام فيقوم الموتى إلى الحياة مجددا، وينهي النبي نبوءته هذه بالقول على لسان السيد الرب: “وأجعل روحي فيكم فتحيون” (حزقيال 37: 14).
لا يبرز الروح القدس في العهد القديم ككائن منفصل عن الله، بل هو “روحه القدوس” (أشعياء 63: 10) لأنه يأتي منه، هو الروح القدس الذي أعلنه يسوع المسيح إلى العالم، كما أعلن عن الآب. نحن نعلم عن الله بقدر ما يكشفه الله عن نفسه، تجسُّدُ كلمة الله في يسوع المسيح قد كشف لنا أن الله هو آب وابن وروح قدس. قبل التجسد كان الابن والروح يعملان من دون أن يكشفا عن اسميهما وقدرتهما، حتى اسم الآب لم يكن مكشوفا للعالم. تجسُّدُ الابن -أي صيرورته إنساناً- قد أتاح للبشر أن يشاركوا الله في مجده، إذ إن هذا التجسد قد أنار طريقهم إلى معرفة الحق وجها لوجه.