الكلمة كائنٌ في كل زمان ومكان، وهو “ليس بعيداً عنا“، لكن القصد من تجسده لم يكن – كما يذكر معلمنا العظيم – أن “يظهر فقط” (8: 3)؛ لأن الله أظهر ذاته بعدة طرق في العهد القديم (عب 1: 1)، ولكنه الآن “أخذ جسداً من الجنس البشري” (8: 3) “وأعدَّهُ أداةً وهيكلاً، وجعله جسده الخاص ليسكن فيه ويُظهر ذاته به” (8: 3).
4 تعليقات
الحضور المتجسد للكلمة
لعل تعبير ” الحضور المتجسد للكلمة ” هو أنضج تعبير لاهوتي ، من الممكن أن يبلور عمق اللاهوت الأرثوذكسي . وواقع الحال هو أن هذا التعبير هو مضمون كتاب ” تجسد الكلمة ” للعظيم أثناسيوس .
وعبقرية هذا التعبير تكمن في إنهاء الإنقطاعية وعدم الإتصال الوهميين الظاهرين بين مفهوم ” الحضور ” ومفهوم “التجسد ” . فالتجسد ليس حدثا تعسفيا يقتحم الكون بل هو امتلاء ووصول بالواقع الحضوري إلى قمته .فحضور الكلمة في الخليقة هو تجسد بطريقة ، وبقدر ما للكلمة . وتجسد الكلمة هو أقصى حضور – غير قابل للانحلال- للكلمة في الخليقة .
إن تعبير ” الحضور المتجسد للكلمة ” هو بمثابة رؤية بانورامية للحقيقة اللاهوتية الأرثوذكسية ، فالمفهوم الأصيل للنعمة لايمكن بلوغ أعماقه خارجا عن سياق هذا التعبير . فإذا كانت قمة امتلاء مفهوم النعمة واستعلانها تتجلى في حضور الكلمة في الإنسان بالتجسد ، فإن ذلك يعني ببساطة استعلان قمة هرم النعمة الذي يمتد بقاعدته في الخليقة كلها . فلم يصر الكلمة حاضرا في الخليقة منذ لحظة التجسد فقط ، بل كانت تلك اللحظة كشفا لقمة حضوره في الكون . فحدث الخلقة لم يكن استعلانا لإرادة الخالق ، من بعد ، بل كان كشفا لذلك الحضور .النعمة بمفهومها الشامل هي استعلان للحضور الإلهي وكشف له .
والإبحار الهادئ المتأني في كتاب ” تجسد الكلمة ” يقودنا إلى رصد تلك المستويات المتراكمة المتصاعدة للنعمة والتي تكشف تصاعدا وتراكما لمستويات حضور الكلمة في الخليقة . فالخليقة الطبيعيةالجامدة ، أي الكون ، قد ظهرت موجودة لتستعلن حضورا للكلمة . وظهور الحياة البيولوجية (الحيوانية )يكشف حضورا أكثر كثافة للكلمة . بينما ظهور الإنسان وتمتعه بنعمة مماثلة الصورة الإلهية ، ككائن عاقل ، يكشف قدرا أكثر كثافة من الحضور وبحسب تعبير أثناسيوس ، يكشف ” نعمة إضافية ” وبتعبير آخر لأثناسيوس ،أيضا ، يظهر العقل الإنساني” كظل للكلمة ” .ويبلغ حضور الكلمة في الخليقة قمته وأقصى قدر لكثافته في حدث تجسد الكلمة في شخص الرب يسوع المسيح الذي يحل فيه كل الملء ، والذي لم يكن ظهوره حدثا غريبا عن الخليقة بل كشفا لقمة حضور من هو كائن في الخليقة منذ أول لحظة لها وبحضوره فيها هي كائنة وحاضرة فيه .
إشكالية اختزال حضور الكلمة في حدث تجسده
لم يكن حدث تجسد الكلمة في شخص الرب يسوع التاريخي حدثا منشئا لمفهوم الحضور بل كان حدثا ينتمي إلى ذات نسيج حضوره في الكون . وبالتأكيد قد كان تجسد الرب حدثا جديدا على الكون ولكن لم تكن جدة الحدث في طبيعته المنشئة له ولكن في عمقه وفي ديمومته ، فإذا كان التجسد هو الحضور الأبدي للكلمة في الخليقة ، ممثلة في الإنسان ، فقد كانت الخليقة الطبيعية منذ نشأة الكون – واستمرار وجودها وتطورها حتى نهايتها وعودتها للعدم – تجسدا زمنيا للكلمة .
ولكن ماينجم عن فصل التجسد كقمة لهرم الحضور ، عن قاعدته ، أي حضوره في الخليقة ، هو عدم الفهم لعدة قضايا أساسية :
1- قضية الخلقة من العدم
لم تظهر الخليقة من العدم بطريقة سحرية تعسفية وفقا لإرادة خالق مطلق القوة يقبع في سمائه ممسكا بأداة للتحكم من بعد ، بل قد كان ظهورها موجودة كشفا واستعلانا لحضور الخالق ، الكلمة الذاتي . كانت الخليقة المادية الطبيعية تجسيدا لحضرته ليس فقط في لحظة انطلاق الحدث بل في ديمومة ذلك الحدث ، الأمر الذي يعني أن إنهاء الحضور هو نهاية وجود الخليقة وارتدادها إلى العدم . كل ذرة ، أو قل كل مايمكن أن يكتشفه العلم من مكونات ما تحت الذرة ، هو تجسيد لحضور الكلمة . منظومة القوانين الطبيعية التي تحكم الكون في جميع مستوياته من الجزء إلى الكل ، هي تجسيد لحضور الكلمة الذي يحمل الكل ، الذي يحضر الكل ، الذي يحضر في الكل .
2- قضية النعمة
ليست النعمة هبة تتساقط من السماء عابرة لتلك الفجوة البائسة التي يفترضها الفكر الثنائي الذي يحتفل دائما بالفصل المأساوي بين السماء والأرض ، بل هي استعلان وكشف للحضور الإلهي ، كشف لحضور الكلمة ، كشف لحدث ينبع من الآب ليحققه الابن في الروح القدس . وإذا كان ظهور الكلمة متجسدا في شخص الرب يسوع التاريخي هو ظهور لملء وعمق ومنبع النعمة الأبدي ، فلم يكن ذلك إلا وصولا بالنعمة إلى قمة هرمها ، المشيد على قاعدة تمتد منذ لحظة نشأة الكون الطبيعي .
3- قضية الأسرار
ليس السر الكنسي حدثا للتقوى الفردية التي تنتشل الإنسان من وجوده الطبيعي لتلحقه بعالم جديد وخليقة جديدة لا تنتمي إلى العتيقة ، بل هو نمو وامتلاء للخليقة العتيقة ووصول بها إلى هدفها الذي هو المسيح الحاضر فيها . السر الكنسي هو نمو للوعي البشري بحضور الكلمة فيه ، الأمر الذي يبلغ قمته بالشركة في جسد الكلمة المتجسد ، أي الانتماء إلى وطن الحضور الأبدي للكلمة في الخليقة .
ماهية الحضور الإلهي
ليس الحضور الإلهي استيعابا مكانيا أو زمانيا للاهوت ، فالمكان والزمان ذاتيهما هما بعض من تجلي الحضور الإلهي ، هما مجال لإعلان هذا السر العجيب .
الحضور الإلهي هو شركة اللاهوت في الآخر ، تلك الشركة التي تتجلى في وجود ذلك الآخر . فالوجود هو الحضور الإلهي المنطوق ، هو الحضور المستعلن .
في اللاهوت المسيحي الأرثوذكسي نستطيع أن نرصد ثلاثة مستويات للحضور الإلهي :
1- الحضور الإلهي الذاتي ( سر الثالوث )
في شركة الثالوث الأقدس يتكشف نمط مدهش وفائق للعقل البشري ، من الحضور الإلهي ، من حضور متبادل بين شخوص الثالوث . كل شخص حاضر في الآخر في علاقة ضمنية متبادلة . كل شخص هو ” هومو أوسيوس ” بالنسبة للآخر ، أي أن كل شخص له ذات الجوهر الذي للآخر . ومن خلال حركة المحبة المطلقة التي لتلك ” الآخرية الذاتية ” يتحقق الوجود الإلهي .
شخص الابن ، الكلمة الذاتي ، حاضر في أبيه الذاتي ، فهو كل ملء الآب ، كما أن الآب هو منبع ومصدر ابنه الذاتي . والابن ، أيضا ، حاضر في شخص الروح القدس ، لأن الأخير هو روح الإبن كما أنه أيضا روح الآب ، لأنه شركة .
شخص الابن ، اللوغوس هو الحضور الإلهي المنطوق ذاتيا ، أي من أبيه الذاتي ، والذي يستعلن كل ما للجوهر الإلهي .
الحضور المتبادل بين شخوص الثالوث المقدس هو مايتجلى وجودا وجوهرا إلهيا .
2- الحضور الإلهي المتجسد ( سر التجسد )
في شخص الرب يسوع ، الكلمة المتجسد ، يتكشف نمط جديد من الحضور الإلهي في الخليقة ، إذ قد صار الكلمة حاضرا إلى الأبد حضورا تجلى في إنسان له عدم الموت وعدم افساد ، بل والأكثر من ذلك قد صار هذا الإنسان ، الرب يسوع ، رأسا للحياة الأبدية وعدم الفساد لكل البشر الصائرين أعضاءا له .
بتجسد الكلمة وظهور الرب يسوع كرأس ، بامتداد كيانه في الكنيسة ، كجسد له ، يكون الحضور الإلهي قد تجلى مسيحا يستوعب كنيسته في كيانه ، تجلى خليقة جديدة تتمتع بالوجود الأبدي في مظلة شركة الثالوث الأقدس .
3- الحضور الإلهي الخالق ( سر الخليقة )
لم يكن الكون مجرد إرادة لخالق خارجي منعزل ومنفصل عنه ، بل كان تجليا لحضور إلهي ، تجليا لقدر من الشركة في شخص الكلمة الحامل للكون على مستوى الكل ، كما على مستوى كل جزء . الخليقة ، زمانا ومكانا ، تكشف حضورا إلهيا ديناميكيا فاعلا ، فليست الخليقة ، وليس الكون ، إلا سيمفونية قام بتأليفها المايسترو الحاضر والقائد للأوركسترا التي تعزفها .
خلقة الكون واستمراره وتطوره حتى نهايته هو حدث كاشف للمستوى الأولي للحضور الالهي .
خلاصة
الحضور الإلهي مفهوم متسع ، واتساعه يتخطى محدودية العقل البشري . ويتقاطع هذا المفهوم مع الخليقة من خلال مفهوم ” النعمة ” بمستوييها : مستوى الخليقة الطبيعية ، والمستوى الأكمل والأتم الذي للخليقة الجديدة التي في المسيح . بينما يظل مركز وبؤرة مفهوم الحضور الإلهي هو الثالوث الأقدس ، ذاته .
المسيح اللوغوس ، هاجس الفلسفة
ليست القطيعة مع الفلسفة – التي قد تبدو، من وجهة نظر اللاهوت المسيحي – بهذا القدر من المأساوية ، أو القدرية التي لافكاك منها . وليس هناك موضوع ، ينبغي أن يستعاد بخصوصه الود المفقود ، أكثر من موضوع ” اللوغوس ” ( Λούος = Logos) . وفي هذا السياق قد بات من ” الحكمة ” – والفلسفة هي حب الحكمة ” φιλοσοφία =philosophia”- أن لايكون سعينا اللاهوتي الدائم – بخصوص هذا الموضوع – هو دحض شبهة الأصل الفلسفي لمفهوم اللوغوس ، المسيحي ، بل ينبغي أن يكون محاولة اكتشاف دلالة التشابه مع الطرح الفلسفي ، كقيمة إيجابية محسوبة في ميزان الطرح المسيحي وليس العكس .
لوغوس الفلسفة
اللوغوس في الفلسفة الإغريقية القديمة هو ذلك الوجود المستتر خلف الكون والذي بواسطته ظهر الكون ، هو المحرك والأصل لكل الأشياء . ولكن تظل طبيعة اللوغوس ضبابية ، غير شخصية ، ويبدو وجوده – بالرغم من كونه إلهيا – كما لوكان فقط من أجل الكون فهو باختصار القوة الكونية المحققة للكون .
ولنا هنا نموذجان من أبرز وأهم الفلاسفة في هذا السياق :
1- هرقليطس ( Heraclitus )
اهتم الفيلسوف اليوناني القديم ، بشكل عظيم باللوغوس وكان أول من أعطى له زخمه الفلسفي ؛ فقد اعتبره ” القانون الكلي للكون ” ، فيقول هرقليطس : ” كل القوانين الإنسانية تتغذى من قانون إلهي واحد ، لأن هذا يسود كل من يريد ، ويكفي للكل ، ويسيطر على الكل ” . ووافقه الرواقيون وقالوا بأن اللوغوس هو المبدأ الفعال في العالم ، وهو الذي يشيع في العالم الحياة ، وأنه هو الذي ينظم ويرشد العنصر السلبي في العالم ( وهوالمادة ، وفقا لهم ) ، مع الوضع في الاعتبار أن الرواقيين لايضعون تحديدا فاصلا بين مفهوم ” الله ” ومفهوم الكون ، فالمفهومان يعنيان – بالنسبة لهم – شيئا واحدا .
2 – فيلون ، الفيلسوف اليهودي ( -20 إلى +50) ( Philo of Alexandria )
قال فيلون عن اللوغوس أنه أول القوى الصادرة عن الله ، وأنه محل الصور ، والنموذج الأول لكل الأشياء . وهو القوة الباطنة التي تحيي الأشياء وتربط بينها . وهو يتدخل في تكوين العالم ، لكنه ليس خالقا . وهو الوسيط بين الله والناس ، وهو الذي يرشد بني الإنسان ويمكنهم من الارتفاع إلى رؤية الله . ولكن دوره هو دائما دور الوسيط . ويقينه بأنه ” إلهي ” ( Theos ) ويميزه من الله بأداة التعريف التي تضاف إلى الله ( o Theos ) ولكنها لا تضاف إلى اللوغوس .
لوغوس إنجيل يوحنا
في استهلالية إنجيل يوحنا يتجلى اللوغوس على ثلاثة مستويات :
1 – اللوغوس ، كشخص من شخوص الثالوث القدوس
فهو الذي” كان في البدء ( en archi )عند الله ( pros ton Theon ) “( يوحنا 1 : 2 ). وهذه العبارة هي بمثابة دمج للعبارتين الاستهلالتين ” في البدء كان الكلمة ، والكلمة كان عند الله ، .( يوحنا 1 : 1 ) . ولعل ماقد أظهره هذا الدمج – الذي تم فيه تكرار العبارتين – هو مفهوم ” البدء ” ، ويتضح هنا جليا أن ” البدء ” المقصود ليس ” بدء ” سفر التكوين ، الذي فيه ” خلق الله السماوات والأرض “( تكوين 1 : 1 ) ؛ فالأخير هو بدء الخليقة ، أما ” بدء” إنجيل يوحنا فهو” بدء الله ، ذاته ” ، هو شخص الآب . وعبارة ” عند الله ” ذات دلالة في هذا السياق ، وكلمة ” عند ” تحديدا – كما وردت في اليونانية ” pros “وليس ” para ” – تعني الحركة ؛ فهي ” عندية ديناميكية “( إذا جاز التعبير ) . وإذا أضفنا إلى الفسيفسائية اللاهوتية – التي يرسمها الوحي – عبارة ” وكان الكلمة الله” – التي وردت بين وضعي العبارتين، من دمج وغير دمج ، مع الوضع في الاعتبار الحالة التي ورد عليها اسم ” الله ” ، من ” عدم التعريف ” ( Theos ) – نكون بصدد تجل رائع لعلاقة الكلمة ، الابن الذاتي بالآب في شركة الثالوث القدوس . فاللوغوس كائن أزليا – بل سرمديا – في علاقة ديناميكية نحو الله ، فهو كل ملء الآب ، والذي بحدث قبوله – الأزلي الأبدي – لكل ملء أبيه الذاتي فهو يحقق ألوهة الله ، فالله هو اللوغوس ، لأن الله وجود شخصي يقبل كل وجوده من أبيه الذاتي .
وفي عبارة لاحقة يؤكد إنجيل يوحنا هذا الطرح الاستهلالي – أي علاقة اللوغوس بالآب ، في شركة الثالوث القدوس ، فيكشف أن اللوغوس هو ” الابن الوحيد ( الفريد = monogenis) ، الكائن ( o wn ) في حضن الآب ( يوحنا 1 : 18 ) .
2 – اللوغوس ، الخالق
” فكل شيء به كان ، وبغيره لم يكن شيء مما كان . فيه كانت الحياة ، والحياة كانت نور الناس ،..” ( يوحنا 1 : 3و4 )
3- اللوغوس المتجسد
” فاللوغوس صار جسدا وحل بيننا ( فينا ) ، ورأينا مجده ، مجدا كما لوحيد من الآب ، مملوءا نعمة وحقا … ومن ملئه نحن جميعا أخذنا ، ونعمة فوق نعمة ،…( يوحنا 1 : 14 – 16 ) .
إذن ،اللوغوس في إنجيل يوحنا هو الشخص الذي يستعلن الوجود الإلهي ؛ فالله موجود لأنه شخص اللوغوس المنطوق ذاتيا،هو كل ملء الآب . واللوغوس هو الخالق الذي بحضوره في الخليقة صارت الخليقة موجودة. ويبلغ اللوغوس قمة حضوره ، بتجسده في شخص الرب يسوع ، الذي فيه يمتلئ الجميع صائرين خليقة جديدة . وهذه هي الاتصالية – بين اللوغوس ( كأحد شخوص الثالوث) والكون والتجسد والخليقة الجديدة – التي يكشفها إنجيل يوحنا .
الفرق بين اللوغوس و” الريما ” (Rhema= ῥῆμα )
. في يونانية العهد الجديد نجد تمييزا واضحا بين مفردتين ، يتم ترجمتهما في معظم اللغات – بما فيها العربية – بمعنى ” كلمة ” وهما ” لوغوس” و ” ريما ” . ومما ينبغي ذكره هنا أنه في اللغة العبرية توجد مفردة واحدة بمعنى ” كلمة ” وهي ” Dabar ” ، ولكن عند ترجمة العهد القديم إلى اليونانية ( الترجمة السبعينية ) ، حمل الروح القدس المترجمين إلى ترجمة ” الدابار ” تارة إلى ” ريما ” ، وتارة أخرى إلى ” لوغوس ” ، بحسب دلالة السياق في كل حالة على حدة .
. يبرز استخدام ” لوغوس ” للتعبير عن الإعلان عن الهوية الذاتية أو الشخصية ، أو الذهنية لصاحب ” الكلمة ” ، بينما تبرز ” الريما ” كتعبير عن الإعلان ” للآخر ” ؛ فهي الكلمة التي تخاطب الآخر فيتلقاها ويتعاطى معها سواء كانت ” منطوقة ” ، فيسمعها ، أو مكتوبة فيقرأها ، وفي كل من الحالتين هو يتواصل مع ذهن وفكر المتكلم .
. ومن هذا المنطلق ، فلم يكن شخص الابن الكائن في حضن أبيه إلا شخص ” اللوغوس “، ومن المستحيل أن يطلق عليه شخص ” الريما ” ؛ فهو كل ملء الآب وبه يتم – سرمديا – الاستعلان الذاتي للوجود الإلهي الكائن في شركة الثالوث القدوس .
. وعلينا أن نرصد – إنجيليا – حدثين متصلين ، من منظور الثالوث القدوس :
1- اللوغوس هو الشخص الذي يعطى للإنسان .
2- إذا قبل الإنسان ” عطية اللوغوس ” ، واشترك فيه – بالنعمة – يكون قد اشترك في الحياة الأبدية وعتق من هلاكه الطبيعي .
– ” أنا قد أعطيتهم كلمتك ( ton logon sou) ” ( يوحنا 17 : 14 ) .
– ” إن كان أحد يحفظ كلمتي ( ton logon mou ) فلن يذوق الموت إلى الأبد “( يوحنا 8 : 52 ) .
– ” شاء فولدنا بكلمة ( لوغوس )الحق لكي نكون باكورة من خلائقه ” ( يعقوب 1 : 18 )
– “مولودين ثانية ، لا من زرع يفنى ، بل مما لايفنى ، بكلمة ( لوغوس ) الله الحية الباقية إلى الأبد ” ( 1بطرس1 : 23 ).
– ” الذي كان من البدء ، الذي سمعناه ، ولمسته أيدينا ، من جهة كلمة ( لوغوس )الحياة . فإن الحياة أظهرت ، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا .( 1يوحنا 1 : 1و 2 )
. أما بخصوص الاستعلان الإلهي على مستوى النعمة – أي من منظور البشر – إذ يعلن الله ذاته في خليقته ( فعل النعمة ) ، ولخليقته ( كلمات الوحي الإلهي ) – فالحديث هنا هو حديث ” الريما “، والكلمة الذاتي ( اللوغوس ) قد صار بتجسده – واستعلانه في البشر – ” ريما “. فالريما هي تجسيد للكلمة اللوغوس . الريما هي الاستعلان النعموي لحضور اللوغوس ، هي استعلان الشركة ( شركة البشر ) في اللوغوس :
– ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة ( ريما ) تخرج من فم الله ( لوقا 4 : 4 )
– الكلام ( ريما ) الذي أكلمكم به هو روح وحياة ( يوحنا 6 : 63 )
– إلى من نذهب ؟ كلام ( ريما ) الحياة الأبدية عندك ، ونحن قد آمن وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي ( يوحنا6 : 68و 69 )
– الكلام ( ريما ) الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي لكن الآب الحال في هو يعمل الأعمال ( يوحنا 14 : 10 )
– إن ثبتم في وثبت كلامي ( ريما ) فيكم تطلبون ماتريدون فيكون لكم ( يوحنا 15 : 7 )
– لأن الكلام ( ريما ) الذي أعطيتني قد أعطيتهم وهم قبلوا وعلموا يقينا أني خرجت من عندك وآمنوا أنك أنت أرسلتني ( يوحنا 17 : 8 )
– البسوا سلاح الله الكامل ،… وسيف الروح الذي هو كلمة ( ريما ) الله ( rhema Theo ) ( أفسس 6 : 11 ، 17 )
– لأن الذين استنيروا مرة ، وذاقوا الموهبة السماوية وصاروا شركاء الروح القدس، وذاقوا كلمة الله ( Theou rhema ) الصالحة وقوات الدهر الآتي ، وسقطوا ، لايمكن تجديدهم أيضا للتوبة ، إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه ( عبرانيين 6 : 5و6 )
دحض شبهة الأصل الفلسفي
شبهة أن لوغوس إنجيل يوحنا مجرد نسخة من لوغوس الفلسفة ، أي أنه مجرد امتداد للفلسفة اليونانية القديمة ، هي شبهة مردود عليها على مستويين :
1- المستوى الأول هو ” التفنيد المنطقي ” ، فهناك هوة شاسعة بين لوغوس الفلسفة – الذي هو مجرد بنية من السببية أو القوة الباطنية المستترة خلف وجود الكون – ولوغوس إنجيل يوحنا الذي هو شخص الكلمة الذاتي المتجسد في البشر جاعلا منهم خليقة جديدة ، فيه . المفهوم الأول متجذر في الخليقة ، ويبدو اللوغوس موجودا وقائما من أجل الخليقة ، وليس هناك أي مضمون لماهيته ولا لوجوده الشخصي ، بمعزل عن الخليقة . وفي أفضل الأوضاع أعتبر وسيطا بين الله والناس ، كما عند فيلون الاسكندري ، أوحتى مجرد مبدأ إلهي يحكم الكون ( بحسب هيرقليطس وبحسب الرواقيين ) . أما المفهوم الثاني فهو متجذر في الله ذاته ، في الآب ؛ فهو شخص الابن الذاتي ، الذي يحقق وجود الله ذاته ، وهو قد أعطي ( بضم الهمزة ) للخليقة لكي مايجددها في جسده الخاص الذي أخذه منها . ويبدو المفهومان متعاكسان في اتجاهيهما .
أيضا فيما تحدث يوحنا عن ولادة الابن الوحيد ، اللوغوس ، من الآب ، فهو أيضا قد تحدث – بنفس المنطق وبنفس الطريقة – عن انبثاق الروح القدس من عند الآب ( بوحنا 15 : 26 ) . فالقضية إذن ليست امتدادا للوغوس الفلسفة الذي لايعرف ” سر الثالوث القدوس ” ، ومن المستحيل أن يكون الثالوث مفهوما متصلا مع – أو امتدادا ل – لوغوس الفلسفة .
2- المستوى الثاني هو ” التفنيد الموضوعي ” ، فلوغوس إنجيل يوحنا غائر في العهد القديم لاسيما في أسفار الحكمة . فالمسيح اللوغوس ، ” المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم ” ( كولوسي 2 : 3 ) يتحدث عن ذاته كشخص ، في سفر الأمثال ، الإصحاح الثامن ، قائلا :” أنا الحكمة “( 12 )… ” أنا الفهم . لي القدرة (14 ) . وكخالق يتحدث عن ذاته – بينما هو ليس بمعزل عن أبيه ، أي بينما هو كائن فيه – إذ يقول :” الرب قناني أول طريقه ، من قبل أعماله ، منذ القدم . منذ الأزل مسحت ، منذ البدء ، منذ أوائل الأرض “( 22 و 23) . وأيضا يقول : ” كنت عنده صانعا ، وكنت كل يوم لذته ، فرحة دائما قدامه “( 30 ).
وفي سفر ” حكمة سليمان ” ، الإصحاح السابع ، نجد عبارة مدهشة تشير إشارة جلية إلى ديناميكية اللوغوس ، كأحد شخوص الثالوث ، وهي عبارة ” لأن الحكمة أسرع حركة من كل متحرك فهي لطهارتها تلج وتنفذ في كل شيء “(24 ) .
. ولو أردنا أن نفكر في لوغوس إنجيل يوحنا ، كامتداد ، فهو بالتأكيد امتداد متنام تحمله لغة الوحي الإلهي ، المتصل بين العهدين ، القديم والجديد ، وليس بين العهد الجديد والفلسفة ، إذ أن مفهوم العهد القديم ( للوغوس ) يتجاوز ويتخطى ، في عمقه ، المفهوم الفلسفي ؛ فالحكمة ليست مجرد سببية – غير شخصية – ضالعة خلف وجود الكون ، بل هي كيان شخصي مستعلن وظاهرفي الله ذاته ، فهي ، في حكمة سليمان : ” بخار قوة الله ” ( 7 :25 ) ، وهي ” ضياء النور الأزلي ومرآة عمل الله النقية وصورة جودته . تقدر على كل شيء وهي واحدة وتجدد كل شيء وهي ثابتة في ذاتها ” ( 7 : 26و27) .
مدلول التشابه العجيب
الرؤية الصحيحة للوغوس الفلسفة – من قبل اللاهوت المسيحي – ينبغي أن تكون في سياق أشمل وأعم ؛ فينظر إليه كقاعدة لهرم ” معرفة اللوغوس ” (إذا جاز التعبير ) ، إذا يبدو اللوغوس ” القوة الحاضرة والفاعلة والمحققة لوجود الكون ” . وفوق هذه القاعدة يبنى مفهوم اللوغوس في العهد القديم ، إذ يبدو اللوغوس شخصا أزليا وليس مجرد قوة كونية أو وعي كوني . ثم تأتي قمة الهرم – في مفهوم العهد الجديد ، لاسيما إنجيل يوحنا – في تجلي اللوغوس كشخص يحقق الوجود الإلهي ، ذاته ، ويحقق – بتجسده – وجود الخليقة الجديدة ، في ذاته . وفي هذا السياق يبدو لوغوس الفلسفة اليونانية القديمة عتبة معرفية هامة تتواصل مع إعلان الوحي الإلهي ، المتدرج ، فيبدو شحص المسيح ، اللوغوس – في النهاية – هاجسا إنسانيا فلسفيا ، يتكمل ويتجلى في الطرح المسيحي للمفهوم .