يذكر الجبرتي أن حملة نابليون على مصر كانت تقابَل بدعاء عامة الناس: “يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف”. وكان الخوفُ من التفوق العسكري الفرنسي في مواجهة فرسان المماليك، هو الذي أجهز على المماليك، حتى تم القضاء تماماً على ما تبقى منهم في مذبحة القلعة الشهيرة.
يقبع الخوف من المستقبل في الوجدان القبطي (المصري)؛ لأن هذا الوجدان شَرِبَ حتى الثُمالة من نبع حكمةٍ قديمة تقول: “امشِ سنة ولا تعدي قَنا (قناة المياه)”، والمعنى واضح لا يحتاج إلى تفصيل. فغني عن البيان أن ثقافتنا الوطنية بشكل عام، وُلِدت في أحضان البيئة الزراعية التي خلق نهر النيل رتابتها واستقرارها إلى حد كبير، ولذلك فهي ثقافة تحرص على التناغم مع ما هو معروف ومألوف؛ لأن “خفي الألطاف” وضع نظاماً لتعاقب الأيام والشهور لا يعتريه تغيير، ولذلك ليس هناك من داع لأن نلقي بأنفسنا إلى التهلكة في أحضان المجهول، أي المستقبل!!!
بذرة المستقبل في الحاضر:
لكن المستقبل ليس هو ذلك المجهول؛ لأن المستقبل ينبت من بذرة معروفة في الحاضر، توالى على زراعتها الماضي والحاضر معاً، وهو ما لا يمكن أن ينكره أي إنسان له قدر من البصيرة. فقد باءت حرب فرسان المماليك بالفشل الذريع أمام هندسة الحرب الجديدة التي جاء بها تقدم الصناعة، والعودة الى جذور الفكر الأوروبي بإعادة اكتشاف أرسطو وتراث اليونان. بل جاءت الطفرة على أيدي أساتذة كبار كتبوا دوائر المعارف لحصر تاريخ الأفكار واكتشاف التطور الفكري، وكان لجامعات فرنسا السبق في ذلك.
ومثلما قضت هندسة الحرب الجديدة على فرسان المماليك، هكذا يخبرنا التاريخ نفسه أن حرب المدرعات وُلِدت في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
ويخبرنا التاريخ أيضاً أنه في الوقت الذي نام فيه الحلفاء (بريطانيا وفرنسا)، كان الطرف الذي شرب مرارة الهزيمة يدرس أسباب تقدم الحلفاء ويطوِّر استخدام السلاح، وهكذا سقطت فرنسا رائدة التقدم الاجتماعي الأوروبي أمام جيش هتلر في ثلاثة أسابيع.
لا شك أن بذرة المستقبل معروفة، في عيني كل من يعرف أن يرى. فقد كان ليدل هارت البريطاني هو أول من أدرك أهمية حرب المدرعات، ولكن أصبحت نظريته هي دعامة القوة العسكرية الألمانية!!!
الحاضر الذي يتجمد يقتل المستقبل، ولذلك قتل حاضر الاشتراكية نفسه مستقبل الاشتراكية في العالم الشيوعي، ولم يكن مجيء جورباتشوف مصادفةً، فهو واحد من سلسلة رواد حاولوا انقاذ المستقبل من براثن الاستبداد. فقد وقف الاستبداد بالمرصاد ضد عملية الإنقاذ هذه، تلك التي بدأها بوريس باتسترناك (د. جيفاكو)، مروراً بسولجنيستين (عنبر السرطان)، حتى جاء جورباتشوف الذي وصف النظام وحدده بكلمة واحدة وهي “الركود Stagnancy أو الجمود”. وكان السلاح الذي أوحاه جمود الحاضر لجورباتشوف مكوناً من كلمتين: الأولى هي الجلاسنوست، أي المكاشفة أو المصارحة، والثانية هي البرويسترويكا، أي إعادة الهيكلة([1]).
حق المرأة في الانتخاب، ولائحة 1957:
يتبدى عوار لائحة 1957 في عدة أمور هامة، يظهر أحدها عندما نذكِّر القارئ والقارئة بأن حق المرأة في الانتخاب الذي كُفِل منذ 1912 وقرره دستور 1923، سكتت عنه لائحة 1957 والعبرة هنا ليست في رِدة كشفت عنها المسافة الزمنية، ولكن العبرة في أن الزمن نفسه تجاوز هذه الردة، عندما ظهرت النساء المحجبات بل والمنتقبات عند صناديق الاقتراع في 2011 و2012 وهو أمرٌ مهما كانت شكل القوى التي تحركه ودوافعها الدينية والسياسية، يدعو فعلاً الى الإعجاب. وبغض النظر عما تلوكه الألسنة عن مكانة المرأة في المسيحية وفي غيرها من العقائد، تُظهر لائحة 1957 أننا لا نزال نعيش في زمان العثمانيين عندما كانت المرأة لا تتجاسر على أن تسير بجانب رجلها، بل بالكاد خلفه، وهي لذلك لا تملك حق انتخاب بابا الإسكندرية. ولذلك، فليعلم الكافة أن الأساقفة الأجلاء الذين يتمسكون بهذه اللائحة، يهددون الكنيسة بثورة ضد الكهنوت يعلم الله وحده إلى أين ينتهي.
المستقبل نراه بكل وضوح الآن، وأنا أكتب هذا بكل ثقة؛ لأني أرى أن الحاضر الذي تحياه الكنيسة يحمل بذرة تمرد شعبي جارف، وهذه هي المقدمات والنتائج:
أولاً: هل أصبحت الكنيسة مشروعاً استثمارياً؟
النادي – الرحلات – الدروس – المكتبات، هذه كلها قضت على الدور الرعائي للكاهن، وجاء الكاهن الجامعي الذكي الذي يعرف كيف يتكلم ويحرك ما هو راكد، ولكن تحولت الكنيسة من جماعة تصلي الى جماعة تدور في دائرة أنشطة اجتماعية بحتة، غاب عنها الوعي بالتراث وبالقانون الكنسي وبفهم الليتورجيا. أما بالنسبة لدراسة الكتاب المقدس فالكلام فيه حرج شديد لا داعي للخوض فيه. أما معرفة العقيدة الأرثوذكسية، فتُستمد من شرائط الكاسيت وعظات أساقفة بلا مرجعية كنسية.
وأصبحت المكتبة هي أحد أذرع الرقابة؛ لأن كتب هذا وذاك ممنوعة بأمر غامض لا يحتوي على أي عرض أمين ودقيق .. غير أن التحريم أنتج جيلاً يقرأ بشغف لكي يكتشف أن تحريم بعض الأكليروس هو استبداد يعيد الكنيسة الى النظام السياسي الشمولي الذي يتراجع أمام الحراك السياسي الوطني. فعندما كان مطران دمياط يزور الآباء الكهنة لكي يجمع كتب الأب متى المسكين، ويحرقها كان هو نفسه أي المطران يقوم بأكبر دعاية لهذه الكتب وكانت تباع سراً في مكتبات كنائس كثيرة تقع تحت اشرافه هو. لكن التمرد قادم وبقوة لأن مصر تحركت لكي تنفض غبار النظام السابق.
ثانياً: تحول القس والأسقف الى رجل صحافة من الدرجة الثالثة:
أي يجيد الكلام في أي موضوع ويتحدث بثقة مصدرها العمامة السوداء، في الوقت الذي انفتحت فيها منافذ الثقافة، بل والأبواب على مصراعيها. كان شباب الثورة قد سبق وزارة الداخلية في استخدام الوسائل الحديثة – الكمبيوتر، واستطاع خلق حلقات اتصال أكثر فاعلية من وزارة الداخلية، ولم يستطع الرصاص ولا الغازات المسيلة للدموع أن تصمد طويلاً؛ لأن إرهاق قوى الأمن المركزي، وانحسار الخوف، كَسَرَ شدة القبضة الأمنية، وانهار النظام فعلاً. وإن كان تحرك القوات المسلحة قد أنقذ مصر من مذبحة كبرى كان يمكن أن تحدث لولا وطنية رجال المجلس الأعلى، فقد استمات الشعب بكل أطيافه على ثورته، وأدرك خبراء الأمن أن تنازل الرئيس سوف يحسم ويحقن الدماء.
أقول للإكليروس النائم على وسادة الماضي، أن أحداً لم يعد تعوزه كتابات الآباء؛ لأنها موجودة على مواقع كثيرة في شبكة المعلومات، ولم يعد التراث العالمي المسيحي غائب عن القارئ القبطي، وحرق كتب الأب متى المسكين، ومصادرة كتاب أقوال مضيئة وغيره، لا يعبر إلاِّ عن قبضة كنسية ضعيفة لا تقوى على أن نقف أمام سيل المعلومات والمعارف التي تدور الكرة الأرضية كلها بكل لغات العالم، في الوقت الذي حجب فيه المشروع الاستثماري الكنسي المعرفة الأرثوذكسية عن الشعب، فالقس لا وقت لديه، وهو لم يتعلم في أي مدرسة لاهوتية (الغالبية الساحقة)، وبالتالي يأخذ الاكليروس صورة وزارة الداخلية قبل ثورة 25 يناير، وهي صورة من لا يعرف الحوار ولا يقدِّر أن أمن مصر يكمن في رغيف الخبز – العمل – كرامة المواطن، وهذه كلها لا يحققها السلاح، نعم يحميها السلاح، ولكن لا يخلقها السلاح.
وعلى الجانب العام يلفت (مسلسل ثورة الحريم) الذي أُذيع في قناة النيل النظر إلى أن هناك حراكاً نسائياً يدور في أشد المجتمعات تحفظاً في صعيد مصر، بالرغم من أن البعض قد يرون أن الأوضاع قد تعاد صياغتها من جديد لإعادة عصر الحريم من جديد. كما لا يمكن أن نغفل كم المعلومات التي لا يمكن حجبها والتي نسمعها ونتداولها على مواقع الحوار في غرف الحوار.
وهي أمور لم نكن نسمع عنها في السنوات الماضية.
النعامة التي تدفن رأسها في الرمال:
عندما تدفن النعامة رأسها في الرمال، تحكم على كيانها كله بالهلاك. تلك آفة اجتماعية لم يعد لها مكانها الذي كانت تحتله من قبل .. فرجل الصحافة من الدرجة الثالثة الذي يرتدي ملابس القس أو الأسقف لا يمكنه – في مواجهة الزخم الثقافي والحراك الاجتماعي والسياسي – أن يتمثل بالنعامة هرباً من عبء التغيير، وإلاَّ طاله النقد الجارح، وفي أقل القليل السخريةالحادة.
يا خفي الألطاف نجنا مما نراه الآن بكل وضوح.
هل يتحرك آباء المجمع قبل أن يحرك أحدهم دعوى قضائية أمام المحكمة الإدارية العليا لوقف هذه المسرحية الهابطة بشكلها العثماني القديم الذي ينكر حق المرأة، بل ويهدم حق الانتخاب، ولأن الذين لهم حق الانتخاب، تعينهم اللجنة، فهم ليسوا من أصحاب الصوت الحر.
هل يتحرك آباء المجمع قبل أن تتحرك المحكمة، وتصبح هذه سابقة قانونية لها آثارها بعيدة المدى التي يدركها كل من يريد أن يرى المستقبل.
هل يوجد ما هو أفظع من أن تفقد كنيسة زمام المبادرة؛ فيتدخل القانون المصري لكي يحمي المواطن من جور وتعسف الماضي؟
يا خفي الألطاف نجنا مما نراه، ولا يراه الآخرون.
([1]) لا يعنينا هنا ما حدث في الاتحاد السوفيتي السابق من تغيير في الأنظمة الاقتصادية، وانتقالها من النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالي، ولكن ما يعننا هو المفهوم المجرد للكلمتين بغض النظر عما حدث من تطبيقات، كانت وما تزال محلاً لوجهات نظرٍ مختلفة.
تعليق واحد
يا اخي الحبيب نحن في جيل غالبيته من الإكليروس لا يقرأون الإنجيل فما بالك بكتب الآباء والتاريخ وعبر الماضى-ولكل الذين يتهافتون على كرسي البطريركية من المطارنة بالمخالفة للقانون الكنسى أدعوهم لأجل خلاص أنفسهم وخلاص الكنيسة من أيام سوء تأتى على الكنيسة وعليهم بسبب كسرهم للتقاليد الكنيسية أن يطالعوا السيرة الغبرة للمطارنة الذين إختلسوا الكرسى البطريركى وهم البطاركة رقر 112\113\114 -وحرمان البابا مبخائيل ال 46 بحرمان الأسقف السرياني إسحق أسقف حوران عندما أراد أن يصير بطريرك للسريان وكتب الحرم بخط يده علي كل أسقف برشح نفسه لكى يصير بطريرك”محروم الأسقف الذي يكمل بطريرك” فهل من آذان صاغية ؛بدلآ من عصا السماء-المسيح إلهنا يرحمنا -نتكلم شيئ ونفعل عكسه