عندما دخلت هذه الحياة الجديدة نفق لاهوت العصر الوسيط الذي يبحث في تطهيرات الجسد، وما قبل التناول وما بعد التناول من غسل الأسنان والاستحمام ..إلخ، وعندما لم تعد القيامة هي أساس الوجود في جسد المسيح الكنيسة، ولم يعد الروح القدس هو الذي يجمع ويضم المؤمنين إلى المسيح وجسده الكنيسة (1كو 12: 11 – 13)، تحول المسيح رب المجد إلى طعام بائد خاضع للفساد، وتحول الكهنوت إلى سلطة، وتحولت علامات حضور الرب إلى رموز؛ لأن الرب غائب، والحدث غائب، ويجب استدعاؤه عن طريق هذه الرموز، وبالتالي كان الاتهام بالوثنية في حد ذاته دليلاً على غياب واقع الكنيسة الحي من الوعي.
منظومة العصر الوسيط في المسيحية المصرية
التعليقات
مواضيع ذات صلة
Related Posts
- التطهيرات: تطوُّر النظرة إلى التطهيرات الجسدية في الطقوس والقوانين الكنسية من العصر الرسولي حتى العصر الحديث
نحن لا نرى الصدام بين المسيحية واليهودية ليس عند الرسول بولس وحده، وإنما في…
- تأملات في الصوم
صوم النفس، أو صوم العقل، أو صوم القلب هو صوم الحياة العقلية والنفسية، صوم الفكر…
- الشركة في الطبيعة الإلهية
عندما كتب الإنجيلي يوحنا "الكلمة صار جسداً وسكن فينا" (يو 1: 14)، فقد وضع أول…
2 تعليقان
مفهوم الرمز في اللاهوت الأورثوذكسي
(قراءة سريعة لكتاب هام)
المشكلة
لكي ندرك عمق مفهوم الرمز، لابد لنا أن ندرس بدقة، ثلاثة كلمات أساسية : العلامة والرمز والسر. وفي الواقع، إن الأمر جد خطير، فنحن – هنا – لسنا بصدد حديث تلوكه ألسنة ساكني الأبراج العاجية، من اللاهوتيين – كما قد يظن (بضم الياء) – بل إن فهما صحيحا للرمز هو نقطة حاكمة، ومفتاح، وحيد النسخة، لخزينة كنز لاهوت الأسرار الأورثوذكسي .
أهمية دراسة الكلمات الثلاثة، معا، تنبع من أهمية تلك العلاقة الثالوثية، التي ينبغي تسكين مفهوم الرمز، تسكينا صحيحا، في سياقها، ليبدو مفهوم كل كلمة متبلورا، في ذاته، وفي علاقته بكل من الكلمتين الأخرتين .
والمشكلة التي ظهرت في مرحلة اللاهوت ما بعد الآبائي، هي الخفوت – المؤدي للضياع – لكل من مفهوم كل كلمة على حدة، وللعلاقة بين الكلمات الثلاثة، في نفس الوقت .
ظهرت المشكلة، كأمر واقع، عندما حدث التماهي بين مفهوم العلامة ومفهوم الرمز. وما حدث هنا – تحديدا – هو القناعة بأن العلاقة بين العلامة والسر، لم تعد تلك المسافة التي ينبغي عبورها بالنعمة – في فعل ديناميكي نحو بلوغ السر، لم تعد تلك الحركة الإيجابية، الفاعلة الكاشفة والمحققة للسر – بل أصبحت فجوة لا يمكن عبورها. وكان رد الفعل التلقائي هو التعاطي الراديكالي مع تلك الفجوة، وكانت النتيجة المنطقية هي حدوث الاختزال، المشين، للسر – ككل – في العلامة .
ويرى الأب ألكسندر شميمان أن تشخيص هذا المرض المميت، قد أظهره عرضان مأساويان :
1- ضياع مفهوم الرمز، نهائيا.
إذ أصبح الرمز نقيضا للحقيقة، وفي ذلك يقول : “من الواضح أن هناك تأكيدا ثابتا مستمرا، في اللغة اللاهوتية المتداولة كما تطورت بين عصر النهضة الكارولنجية وعصر الإصلاح … لاعتبار” “الرمز والحقيقة” متباينين متعارضين، وكذلك “الصورة والحقيقة”. إن هذا التمييز وهذا التعارض- وهنا بيت القصيد – لم يكن واردا عند آباء الكنيسة ولا في التراث المبكر، لا بل على العكس كان صحيحا لأنهم كانوا يعتبرون أن الرمزية هي البعد الأساسي للسر الكنسي وهي المفتاح المناسب لفهمها. إن القديس مكسيموس المعترف، وهو من خيرة من عبر عن اللاهوت الأسراري في العصر الآبائي، يدعو جسد المسيح ودمه في سر الإفخارستيا رموزا وصورا وأسرارا. ليس ما هو “رمزي” هنا غير متعارض وما هو “حقيقي” فقط، بل إن الرمز يتضمن الحقيقة ويعبر عنها، وهو الصيغة التي تظهر الحقيقة فيها ومن خلالها.” (صفحة: 194 و 195).
ويقول أيضا: “على هذا النحو يكون اللاهوت الغربي قد صرح بأن ما هو “مستيكي” أو “رمزي” هو غير حقيقي، وأن ما هو حقيقي هو غير رمزي. هذا الحدث كان، في الواقع، بمثابة انهيار في المفهوم الأساسي للسر الكنسي المسيحي، انهيار ” للتماسك” القائم بين حقيقة الرمز ورمزية الحقيقة، انهيار لفهم المسيحية الأساسي للخليقة باعتبار أسراريتها الكيانية.” (صفحة: 180).
2- اختزال السر في تقديس العلامة، كجسم أسراري، وظهور مصطلح: التحول الجوهري .
وفي ذلك يقول: “حتى ولو تماهت العلامة والحقيقة، كما في حال سر الإفخارستيا، فإن خبرة هذه العلامة تكون على أساس أن السر الكنسي يلغيها، لا على أساس أنه يأتي بها إلى كمالها. إن عقيدة الإستحالة في جوهر العلامة (Transubstantiation)، بهذا المعنى، … هي فعلا انهيار، أو قل انتحار للاهوت الأسراري .”(صفحة : 201).
وأيضا يقول: “إن السر الكنسي … هو كشف للمسيح كبداية ومضمون ونهاية كل ما هو موجود، من حيث أن المسيح هو خالقه وفاديه وملؤه. إن تحول السر الكنسي في اللاهوت ما بعد الآبائي يتمثل في عزلته داخل “جسم” أسراري قائم بذاته. تلك العزلة الخارجية للسر الكنسي عن الليتورجيا،. .. كانت، في الحقيقة، مؤشرا على تغيير في العمق .”(صفحة : 202).
سر الكون
البداية الصحيحة لفهم تلك العلاقة الثالوثية – التي تجمع العلامة بالرمز بالسر – هي النظرة الأورثوذكسية الآبائية للخليقة. والسؤال الذي أجاب عليه الآباء بحسم، لاسيما أثناسيوس، هو : ماهو سر وجود الخليقة ؟. وكانت الإجابة بسيطة وعميقة وتتلخص في أن الخليقة قد دعيت من العدم إلى الوجود بفضل سبب واحد لا ثان له، هو حضور الكلمة. ولم تستمر الخليقة في وجودها – ما بقيت – إلا بسبب حضور الكلمة.
إذن، متى نظرنا إلى الكون، أو فكرنا فيه، فيجب أن ندرك أننا لا ننظر إلى – ولا نفكر في – كيان مستقل، منعزل عن الله. الكون هو مجال كاشف للحضور الإلهي ، ونعمة خلقة الكون واستمراره موجودا هي استعلان للحضرة الإلهية. سر الكون هو الله الكلمة الكائن فيه، والمستتر خلف المنظور الذي ندركه بحواسنا. النقطة الحاكمة التي تظهر فهمنا للعبارات السابقة هي إدراكنا أن مجرد إنهاء الكلمة لحضوره في الخليقة الطبيعية، هو إنهاء وإفناء للخليقة وإعادتها، ثانية، إلى العدم.
استمر حضور الكلمة، على هذا النحو، فاستمر الكون، أيضا، على هذا النحو من الحركة والتطور، إلى أن تجسد الكلمة وظهر الرب يسوع، التاريخي، فانتقل الكون نقلة نوعية، غير مسبوقة، بالحضور الإلهي غير المسبوق، أيضا، إذ ظهر فيه باكورة الكون الجديد عديم الفساد، الذي فيه، قد حضر – إلى الأبد – ملء اللاهوت .
صارت لحظة التجسد منطلقا لتكريس الخليقة الجديدة، الكون الجديد، الكنيسة، جسد المسيح. هكذا بلغت الليتورجية الكونية أوجها، في حركة دؤوبة ساعية نحو ظهور شخص المسيح الممتلئ، المستوعب للكل، والذي فيه يمتلئ الكون. فالمسيح هو الشخص الكوني ، الذي تتمحور حوله، وبه، حركة الكون الطبيعي، منذ بدايته وحتى نهايته، وفيه يظهر معنى أي شيء، في الكون.
المسيح هو السر المخبوء خلف كل من الصورة والحركة الظاهرتين – سواء على مستوى الجزء أو الكل – للكون.
العالم، إذن، بطبيعته، هو أسراري، يسعى في كل حركة، سواء كانت حركة جزئية، أو على مستوى حركته، ككل – في أي زمن محدد أو في كل زمانه – نحو مصير واحد هو تحقيق الشركة مع الله، في المسيح، في الملكوت الآتي.
يقول شميمان: “إن لفظة” أسراري” تعني هنا أن الحدث الأساسي الأولي الذي لا يعبر عن نفسه في العبادة وحسب، بل تشكل كل العبادة، في الحقيقة، “ظاهرة” له – من حيث الأثر والخبرة – هذا الحدث هو أن العالم، سواء في كليته ككون أو في حياته وصيرورته كزمن وتاريخ، هو ظهور إلهي وواسطة لإعلان الله عن نفسه وحضوره وسلطانه. بكلام آخر لا يجعل هذا الحدث فكرة الله في موقع العلة الذهنية المقبولة لوجود العالم، بل “يتحدث” عن الله بالفعل، وهو، في ذاته، واسطة أساسية لمعرفة الله والدخول في شركة معه.” (صفحة : 168).
ويقول أيضا: ” فقط لأن ليتورجيا الكنيسة دائما ما تكون كونية، أي دائما ما تتمثل الخليقة كلها في المسيح، وهي تاريخية أبدا، أي تتمثل الزمن كله في المسيح، لأن ليتورجيا الكنيسة هي كذلك فهي قادرة على أن تكون انقضائي أيضا، أن تجعلنا مشتركين، بالفعل، في الملكوت الآتي.” (صفحة : 173).
السر الكنسي
وعليه، فإن السر الكنسي ليس دخيلا على الكون، ليس عملا اختراقيا، عجائبيا، أو تدخلا في النواميس الطبيعية للكون، بل هو – وحده – التعبير الإيجابي، الفاعل، العملي، الصحيح ، عن وصول الكون إلى الملء، إلى هيئته الجديدة، إلى المسيح .
يقول شميمان: “إن السر، كما نعلم، دائما ما يكون معبرا وتحولا، لكنه ليس “معبرا” إلى ما هو “فائق الطبيعة” بل إلى ملكوت الله، إلى العالم الآتي، إلى حقيقة هذا العالم بالذات، إلى حياة مفتداة ومستعادة بالمسيح. والسر تحول، لا من ” الطبيعة ” إلى ما هو ” فائق الطبيعة “، بل من العتيق إلى الجديد. ليس السر، إذا، “آية” يخترق بها الله، بمعنى، “نواميس الطبيعة”، بل هو ظهور للحقيقة الأخيرة بشأن العالم والحياة، بشأن الإنسان والطبيعة، الحقيقة التي هي المسيح .” (صفحة: 146).
العلامة
علامة السر، الظاهرة، هي مادة تنتمي إلى كوننا، ذي الطبيعة الأسرارية، تستوعبها أيقونة ديناميكية أشمل، هي الليتورجية الكنسية، ولكن طبيعة السر الكنسي تظهر الليتورجية ليس كأي عمل بشري منحصر في الزمان والمكان، فالليتورجية الكنسية هي دخول إلى ذلك الحضور المرجعي، الأشمل والأعم، هي دخول إلى الليتورجية الكونية، التي يظهر فيها الكون في ملئه، في المسيح، وتظهر فيه العلامة في ملئها، في المسيح. فقط في المسيح تتكشف العلامة وتبدو سرا. والعلامة تنتمي إلينا وننتمي إليها، فهي صورة وجودنا الذي لابد أن تنطلق منه حركتنا نحو الملء، ملء العلامة، الذي هو ملؤنا، الذي هو المسيح .
يقول شميمان: “نحن نحتاج إلى ماء وزيت وخبز وخمر لنكون في شركة مع الله، لنعرفه. لكن هذا الدخول في شركة مع الله، من جهة أخرى – وهنا يكمن تعليم، إن لم يكن كتبنا اللاهوتية العصرية، فأقله الليتورجيا ذاتها – أقول هذا الدخول في شركة مع الله بوساطة “المادة” هو ما يكشف لنا المعنى الحقيقي للمادة، أي للعالم بالذات. فقط في الزمن نستطيع أن نعبد، ولكن العبادة هي التي، في نهاية المطاف، لا تكشف لنا معنى الزمن وحسب، بل تجدده أيضا .لا عبادة من دون اشتراك للجسد، من دون كلمات وصمت ونور وظلمة وحركة وسكون. ولكن، في العبادة ومن خلالها، تأخذ كل التعابير الأساسية للإنسان، في علاقته بالعالم، إطارها المرجعي الأخير، وتعتلن في أسمى معانيها وأعماقها.
من هنا إن لفظة “أسراري” تعني أنه إذا كان العالم وساطة عبادة ووساطة نعمة فليس ذلك عرضا، بل كشفا لمعناه واستعادة لجوهره وتحقيقا لمصيره. إن ” أسرارية العالم الطبيعية ” هي التي تجد تعبيرا عن ذاتها في العبادة، وتجعل هذه العبادة الوظيفة الأساسية للإنسان، قاعدة وينبوع حياته وأنشطته كإنسان. والعبادة من حيث هي ظهور لله هي ظهور للعالم أيضا، ومن حيث هي دخول في الشركة مع الله هي دخول في الشركة الوحيدة الحق مع العالم، وأخيرا، من حيث هي معرفة الله هي الملء الأخير لكل معرفة بشرية .”(صفحة: 169 و 170) .
العلامة والسببية
السببية، الخاصة بالسر الكنسي هي المسيح ذاته، وهي لا يمكن اختزالها في العلامة، فالأخيرة ذاتها، تفقد مضمونها إذا انقطعت عن المسيح.
يقول شميمان: “ففي تراث الأوائل، كانت السببية المتأصلة في السر الكنسي، وكذلك التقديس الذي يفيضه السر على أولئك الذين يشتركون فيه، لا ينفصلان عن رمزيته لأنهما كانا متجذرين فيها. وهذا لا يحد، بحال، ولا يتعارض والعلة الوحيدة لكل الأسرار الكنسية، أعني تأسيسها من قبل المسيح، لأن التأسيس ،كما سبق لنا أن قلنا، هو، بالضبط، إتمام المسيح لرمز ما، وبالتالي تحويله إلى سر كنسي. وهكذا فإن التأسيس هو فعل إتمام وتحقيق، وليس فعلا يقطع السر عما سبقه، وهو ظهور “للخليقة الجديدة” في المسيح ومن خلاله، لا خلق شيء “جديد”. وإذا كان التأسيس يبين “إتصالية” الخليقة بالمسيح، فلأنه توجد، أولا، اتصالية بين المسيح والخليقة، الخليقة التي المسيح كلمتها وحياتها ونورها. إن هذا الوجه من وجوه التأسيس والسر الكنسي هو الذي اختفى، عمليا، في اللاهوت ما بعد الآبائي. من هنا أن السببية التي تربط التأسيس بالعلامة بمضمون السر ينظر إليها في مستوى المظهر والشكل، لا في مستوى الجوهر والكشف الداخلي. بدل أن تكون السببية إعلانا وكشفا لما حققه المسيح، بات همها أن تضمن مفعول السر الكنسي.”(صفحة: 200 و 201).
الرمز
الرمز هو القوة الفاعلة، هو صيغة حضور السر وفعله، هو الحركة الإيجابية، النشطة، التي تأخذ العلامة إلى ملئها، إلى المسيح، الحاضر في كل الكون. الرمز يتضمن العلامة ويستوعبها، والعلامة تتضمن الرمز وتستوعبه. العلامة بدون فاعلية الرمز، هي صورة ميتة. الرمز هو حركة تخطي وتجاوز العلامة – من حيث كونها صورة ساكنة (استاتيكية)، إلى كشفها كأيقونة حية، إلى الملء، إلى المسيح الذي يستوعب الكل. النقطة الأساسية هنا أن الاحتواء المتبادل بين الرمز والعلامة، لا يلغي العلامة، ويبقى دائما التمايز بين العلامة – كمنطلق لحركة التجاوز والتخطي – والرمز، كجوهر لتلك الحركة .
وإذا كان الرمز هو حركة تخطي وتجاوز “علامة” الذات – البائسة، المتشرذمة، الساكنة، الميتة – فهذا يعني، في ذات الحدث، أيضا، قبول الآخر، الله، أي التأله .
حركة القبول هي مضمون الرمز، وحينما أعطى الرب جسده لكنيسته، لكي ما تستوطن فيه – مؤسسا الإفخارستيا – فهو لم يكتف بأن يقول : كلوا. هذا هو جسدي، بل سبق فقال : اقبلوا (الفعل lambano، تم ترجمته، بركاكة، إلى”خذوا”).
يقول شميمان: ” أن نترك، أن نأتي … هذه هي البداية ونقطة الانطلاق في السر الكنسي، وهذا هو الشرط لاقتناء قوته المحولة ومعرفة حقيقته .” (صفحة : 42).
ويقول أيضا: ” فقط، عندما نقبل، عندما نستجيب حبا وطاعة – فقط، عندما نسلم بالأنثوية الجوهرية للخليقة – نصبح نحن أنفسنا رجالا ونساء أصليين، نتخطى، بالفعل، محدوديتنا ك “ذكور” و “إناث”. (صفحة: 120). و “إن ضياء الربيع السرمدي يطل علينا عندما نصغي، يوم البشارة، إلى ذلك الموقف القرار: “ها أنذا أمة الرب، ليكن لي بحسب قولك “(لو1 : 38). هذه هي، في الحقيقة، كل الخليقة، كل البشرية، كل واحد منا متى أدركنا الكلمات التي تعبر عن طبيعتنا، عن كياننا الأسمى، عن قبولنا بأن نكون عروس الله، عن خطبتنا لمن أحبنا منذ الأزل. ” (صفحة : 121).
ويقول أيضا: “أما نحن فإن محور اهتمامنا، عبر دراستنا كلها، كان أن الليتورجيا بجملتها أسرارية، أي أنها عمل محول واحد وحركة صعود واحدة، وأن الهدف من حركة الصعود هذه، بالذات، هي إخراجنا من “هذا العالم” وجعلنا شركاء في “العالم الآتي”. في هذا العالم الذي دان المسيح فدان نفسه، لا يمكن لخبز وخمر أن يصبحا جسد المسيح ودمه. لا قداسة من هذا العالم. إن ليتورجيا الكنيسة هي أنافورا دائما، رفع إلى فوق، صعود. في السماء تحقق الكنيسة ذاتها، في ذاك الدهر الجديد الذي دشنه المسيح بموته وقيامته وصعوده والذي أعطي للكنيسة في العنصرة بمثابة حياة، بمثابة “نهاية” تتحرك الكنيسة نحوها. إن المسيح في هذا العالم مصلوب، وجسده مكسور ودمه مهراق. ونحن، علينا أن نخرج من هذا العالم، أن نصعد إلى السماء لنصير شركاء العالم الآتي.” (صفحة : 62) .
ويقول أيضا: “وهكذا فإن الخبز والخمر – أي طعام هذا العالم ومادته، ورمزه بالذات، وبالتالي مضمون تقدمتنا لله – ينبغي، لكي يتحولا إلى جسد المسيح ودمه ويصبحا شركة في ملكوته، أن “يرفعا” في الأنافورا، أن يخرجا من “هذا العالم” . فقط عندما تترك الكنيسة في الإفخارستيا هذا العالم وتصعد إلى مائدة المسيح في ملكوته تعاين، بالفعل، أن السماء والأرض مملوءتان من مجده وأن الله قد ” ملأ الكل من ذاته”. (صفحة: 172) .
ويقول أيضا: “إذا كان الآباء قد وحدوا، في تركيب وجودي حي، “آخرية” الله المطلقة، ولا إمكان معرفة البشر له في الجوهر، من جهة، وحقيقة شركة الإنسان مع الله، ومعرفته له وتألهه به، من جهة أخرى، فلأن هذا التركيب متجذر، بالدرجة الأولى، في فكرة الآباء، أو، بالأحرى، في حدسهم “للسر” ولصيغة حضوره وفعله، أي للرمز. هذا لأن الرمز، بطبيعته، يكشف الآخر وينقله إلينا كآخر، يكشف إمكانية رؤية من لا يرى من حيث إنه لا يرى، وإمكان إدراك ما لا يدرك من حيث إنه لا يدرك، وإمكان حضور المستقبل كمستقبل. إن الرمز هو واسطة لمعرفة ما لا يمكن أن يعرف بطريقة أخرى. المعرفة، هنا، تتوقف على المشاركة، أي على اللقاء الحي، على الدخول إلى ذاك الواقع الظهوري الذي هو الرمز. إذ ذاك لا يكون الرمز مرتبطا بالسر وحسب بل مصدرا له، أيضا، شرطا لإمكان وجوده .” (صفحة : 197) .
مصدر قوة الرمز
الرمز ليس فكرة مجردة، أو فلسفة، بل قوة فاعلة، محولة، تعبر بالعتيق إلى الجديد. وما يجعل الرمز هكذا، هو أنه عبور نعموي، أي، عبور بقوة الروح القدس. قوة الرمز هي قوة الروح القدس، الحال في الخليقة الطبيعية. فقط في الروح القدس تتبدد تلك الإنقطاعية – الظاهرة – بين العتيق والجديد، بين العلامة وملء السر، بين الكون الطبيعي وحياة الدهر الآتي، بين البشر والكنيسة الكائنة في المسيح. الروح القدس، هنا، لا يخلق من العدم، بل يملأ ويجدد ما هو موجود كخليقة طبيعية، يحضر فيها الله .
يقول شميمان : “فقط عندما تترك الكنيسة في الإفخارستيا هذا العالم وتصعد إلى مائدة المسيح في ملكوته تعاين، بالفعل، أن السماء والأرض مملوءتان من مجده وأن الله قد “ملأ الكل من ذاته”. تعاين ذلك وتعلن عنه. ولكن هذه “اللاإتصالية”، هذه الرؤية لكل شيء جديدا، هي ممكنة، فقط، لأن ثم اتصالية موجودة أولا، لأن الروح القدس يجعل ” كل شيء جديدا ” ولا يخلق “أشياء جديدة”.(صفحة: 172 و 173).
خلاصة
الرمز هو حركة وقوة وفعل السر الكنسي، هو الجوهر الديناميكي للسر، المنطلق من علامته الظاهرة، في هذا العالم العتيق، نحو تجلي الكنيسة، في المسيح، في ملكوت الله، حيث التجلي الأخير لمصير الكون، بظهوره جديدا .
إجهاض الرمز بتماهيه مع العلامة هو اختزال للسر الكنسي في علامته الظاهرة، وبالتالي هو قتل للسر، باختزاله في مجرد صورة ساكنة ميتة .
تبقى العلامة حية وفاعلة – أي تبقى أسرارية – مادامت محتفظة بهويتها كمنطلق حركي، كمنطلق للرمز، وليس كمآل له، فمآل الكل هو المسيح، الذي يملأ الكل .
المرجع
الأب الكسندر شميمان – كتاب: من أجل حياة العالم – الأورثوذكسية والأسرار الكنسية – تعريب الأرشمندريت توما (بيطار)- عائلة الثالوث القدوس – دوما – منشورات النور- 1994.
الأيقونة بين حقيقة الرمز وشبهة الوثنية
لاشك أن ” لاهوت الأيقونة ” هو أهم مايميز الكنائس التقليدية لاسيما الكنيسة الأرثوذكسية . ومفهوم الأيقونة ، هنا، لايجب اختزاله فقط في ما يرصع جدران الكنائس من أيقونات القديسين ، ولكن مفهومها يتخطى ذلك بكثير .
وتنبع أهمية الأيقونة ( الصورة ) من كونها تمثل الواقع الإنساني الذي تنطلق منه العبادة ؛ فالأيقونة هي بنية الليتورجيا الكنسية بما تكشفه من مشهد طقسي ذي سيناريو محدد يستمد مضمونه من وقائع تاريخ الخلاص ومن مواد مثل الماء و الزيت و البخور .. الخ . وتبلغ الأيقونة قمة أهميتها اللاهوتية بحضورها كعلامة أسرارية ؛ ففي السر الكنسي تنطلق الليتورجيا من علامة السر المنظورة ، الواقعية – التي من هذا العالم وتمثل صورته وصورة وجودنا – نحو كشف سر المسيح . وهنا تصبح الصورة منطلقا لحركة مستيكية يتم إشباع وامتلاء رمزيتها في المسيح .وهنا تتجلى علاقة الضمنية المتبادلة ( أو علاقة الاحتواء المتبادل ) في مابين العناصر الثلاثة للسر الكنسي : العلامة والرمز ومضمون السر( المسيح ، ذاته ) .
ولكن التاريخ اللاهوتي قد شهد موقفين خطيرين قد أخرجا الصورة ( العلامة ) عن سياقها الصحيح . وبالرغم من أن هذين الموقفين هما بمثابة نقيضين فقد تماهت نتيجتاهما في أثر واحد هو تهديد العمق اللاهوتي الليتورجي والأسراري :
الموقف الأول : هو عزل الصورة ( العلامة ) بتقديسها ككيان منفصل ، وبلغ ذلك ذروته المأساوية في مايعرف في لاهوت الأسرار بالتحول الجوهري ( metousiosis = transubstantiation ) ، إذ أصبحت صورة الخبز والخمر المنظورة – المنعزلة عن سياقها الرمزي الأسراري الممتد خارجا ، في المسيح – جسدا ودما ، وكل من تناولهما ، حسيا ، فقد تناول المسيح ، حسيا ، أيضا .
الموقف الثاني : هو مجرد رد فعل عكسي للموقف الأول . وهذا هو الموقف الذي يمثله الدكتور حنين في كتابه . وهنا قد تم عزل الصورة بإقصائها تماما من العبادة كدرء لشبهة عبادة الصورة ، عبادة الأصنام .
وهنا يبرز السؤال الأساسي : هل من الممكن أن تتحرر الليتورجيا من الصورة ؟ . هل من الممكن أن نعبد الله ، في المسيح ، ونحن في حالة إقصاء راديكالي للصورة من وعينا الليتورجي ؟. والجواب الصحيح هو : مستحيل !
إقصاء الصورة هو إقصاء للتجسد ، ذاته ؛ فالكلمة بتجسده قد صار ” صورة “. صار في صورة عبد ، حتى حينما نشترك فيه نتحرر من “صورتنا ” العتيقة إلى حرية مجده الذي لم تره عين ( أي الذي ليس صورة ) .
الصورة هي واقع الإنسان في هذا العالم . والإنسان لايستطيع أن يتأله إلا منطلقا من الصورة العتيقة التي لواقعه ؛ فلا حركة بدون منطلق لتلك الحركة . أما تخيل العبادة كمنظومة من الأفكار الهائمة غير المتجزرة في الواقع البشري فهو تخيل لعبادة ميتة .
خلاصة
يتساوى عزل الصورة عن رمزيتها ، بتقديسها ، مع عزل الصورة عن رمزيتها ، أيضا ، بإقصائها . فكلا الأمرين هما تجاهل لعمق اللاهوت الأرثوذكسي الذي يمثله مضمون مصطلح ” الرمز “.
ويتساوى تقديس الصورة المعزولة ( إلى حد عبادتها وتصنيمها ) مع انتزاعها وإقصائها واستبعادها ، فكل من الأمرين قد أمات رمزية الصورة فأمات الصورة وأمات الليتورجيا .
الايقونة هي نقطة انطلاق لحركة النعمة المستيكية ، لذلك لايمكن تصنيمها أو عبادتها ، أي جعلها مآلا ومستهدفا للحركة . وبنفس القدر من الأهمية – وعلى الطرف الآخر – لايمكن استبعاد الأيقونة من العبادة لأنه لاحركة نعموية بدون نقطة انطلاقها الطبيعية ، بدون الأيقونة ( العلامة ) .