تجيء كلمات فضيلة المفتي، وفضيلة الإمام الأكبر مثل نسمات هواء منعشة في صيف مصر القائظ، وهو ما يجب أن نشكر عليه كل الذين قالوا أفضل ما جاء به الدين الحنيف معبِّراً عن العدل والمساواة بين البشر … لكن نسمة الهواء المنعش التي تحمل أريج “الربيع العربي” هذه لا يمكن أن تطفئ ما تحت النار من رماد. وهي نارٌ كانت اشتعلت في عصر الرئيس السادات، فهو أول زعامة مصرية تقول علانيةً وتخاطب شعب مصر الواحد باسم “عنصري الأمة”، وإن كان عاد واستدرك القول بعد ذلك، لكن خط التقسيم كان ينمو حثيثاً حتى وصل إلى مأساة الإسكندرية في ليلة رأس السنة، وما أحاط بهذه المأساة البشعة من تضليل وكذب ساهم فيه الأمن وقامت المحافظة بتنظيف موقع الجريمة لكي تختفي كل آثارها التي كان رجال الطب الشرعي وخبراء القانون في حاجة إلى التعرف عليها … ولم يكن هذا من أجل النظافة، بل كان من أجل التستر على القتل والقاتل أو القتلة …
وتجيء الثورة المصرية في 25 يناير، ونحلم جميعاً بالمواطنة، ولكن الحراك السياسي حركته المشاعر الدينية في محاولة لكسب سلطة الدولة في انتخابات مجلس الشعب، وبعد ذلك في انتخابات الرئاسة، وكلاهما تم فيما يشبه الاستقالة الكاملة للقوى الوطنية التي لا تقل نسبتها عن 65 % من شعب مصر الذي عرف التدين منذ فجر الحضارة التي أشرقت على أرضه، بينما غرقت بلادٌ أخرى مجاورة في ظلام الجهل …
المأساة ليست القتيل والقاتل؛ لأن الجرائم موجودة في كل بلاد الدنيا، يقوم بها فاقدو العقل من المرضى بالكراهية وبالعدوان لأسبابٍ يطول شرحها، لكن كيف تواجه الدول مشكلة الاعتداء باسم الله هو بيت القصيد، أما كيف تتحول النار تحت الرماد إلى رماد، فهو مسئولية الحركة الوطنية.
أولاً: لا زال الإعلام، بل حتى جريدة الأهرام التي عرف عنها احترام عقل القارئ والرصانة، تكتب عن “المكوجي المسيحي”، أو القبطي الذي أشعل النار في “مسلم”. هي لا تذكر أن مصرياً اعتدى على مصري آخر، وأن السطو ومحاولة اقتحام الكنيسة هو اعتداء على مؤسسة وطنية … أسلوب تقديم الحادثة، وعرضها على القراء هو أسلوب خط التقسيم، فهل من علاج داخل المؤسسات الإعلامية التي تذكر “الفتنة”، ولا تذكر الحلول، ولا تحاول أن تتكلم باسم الوطنية وحقوق المواطنة؟
ثانياً: ورغم أننا قلنا لأكبر الزعامات السياسية والدينية إن رجل الدين إذا ظهر في مشكلة ومسرح الجريمة، غيَّر ظهوره كل شيء مهما كانت النوايا الطيبة والعواطف النبيلة الشريفة التي نراها، وبالتالي تحولت المشكلة أو الجريمة من مشكلة سياسية تشغل الدولة المصرية إلى مشكلة دينية …
لا تعليق على طلب فضيلة الإمام الأكبر أو فضيلة المفتي أن يتولى “المسلمون حماية المسيحيين”.
هذا طلب شريفٌ ونبيل، ولكن هذا الطلب الشريف والنبيل يخدم خط التقسيم، ويبرز أن مسيحيي مصر هم “أهل ذمة”، وأنهم في “ذمة الإسلام”، وهذه في حد ذاتها بشارة بسقوط الدولة المدنية الحديثة.
واجتماع بيت العائلة هو اجتماعٌ جديرٌ بكل احترام، ولقاء سيادة الرئيس محمد مرسي، بدوره هو لقاء ضروري في إطار جمع الشمل، ولكن الدور كله محصور في القيادات الدينية، والحل باسم الدين – أي دين – لا يطفئ ما تحت الرماد من نار، بل يُبقي عليها مشتعلةً. هذه مشكلة ظاهرها عفيف وشريف، ومقاصدها خير كل الخير، ولكنها تحتاج إلى قاعدة وطنية، أي أن يضم بيت العائلة قيادات الاحزاب المصرية الفاعلة والتي لها وجود في الساحة وفي الحياة المصرية.
كان هناك اقتراحٌ قُدِّمَ للرئيس السابق حسني مبارك بإنشاء وزارة للوحدة الوطنية تتبع رئاسة الجمهورية، تنظر في برامج التعليم في المدارس وفي طريقة ومناهج تدريس تاريخ مصر وتقيم ما ينشر لأن الرقابة على المطبوعات فشلت عبر ما يزيد عن 40 عاماً نُشِرَ فيها الكذب والتدليس رغم وجود قانون حماية الجبهة الداخلية، وقرارات لجان تقصي الحقائق وأشهرها اللجنة التي رأسها د. جمال العطيفي.
مطلوب حركة دائبة لا تقف، ولا تكل لخلق الفكر المصري الذي يجب أن يدخل القرن الـ 21 والذي تسعى جهات كثيرة بأموالٍ طائلة إلى إعادته إلى الخلف، إلى قرون سابقة كان لها في تلك الحقبة من التاريخ “منهج” خاص بها، ولكن الدنيا تغيَّرت، إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، هو محاولة لأن تفقد مصر دورها الرائد والعلمي، بل والعسكري في حماية المنطقة العربية.
لا بكل ما تحمله هذه الـ “لا” لـ “أهل الذمة”
لسنا أمام الفتح الإسلامي، ولا نحن نعيش عصر عمرو بن العاص، أو العصر الأموي أو العباسي، أو العثماني، ناهيك عن أننا لا نعيش في عصر المماليك … فقد مضت هذه العصور وغابت في قلب تاريخ عرف القهر والتخلف ومارس أنواع الظلم باسم الدين لشعب مصر دون تفرقة … وما محاولة تحطيم الآثار الفرعونية إلاَّ الفصل الأول في الانقضاض على كنائس مصر. وإزالة الأهرام تمهد لإزالة كل ما هو سابق على الإسلام. وحذف التاريخ هو بداية فقدان الذاكرة وإنكار وجود الإبداع والتقدم الإنساني الذي تحركه القوى الإنسانية مثل الخيال، فيتحول الحجر إلى رموز للجمال والقوة والديمومة. إن مصر لن تدخل “بيت الطاعة” من أبواب “الوهابية”؛ لأنها كانت ولا زالت الوطن الواحد لشعب مصر، وتفعيل القانون ضد ذئابٍ تسعى لافتراس تراثنا الوطني هو أحد الحلول، ولكنه يجب أن يسير في تزامن مع استعادة تاريخ مصر.
لسنا على ذمة الإسلام؛ لأننا لسنا الشعب الذي قُهِرَ وغُلِبَ ودخل تحت حكم أمة أخرى، بل نحن شعبٌ اختار الإسلام والمسيحية حراً؛ لأنه شعبٌ واحد، وأكبر دليل على ما نقول هو أن عملية اختيار الإسلام كدين استمرت قروناً طويلة، بغض النظر عن فترات القهر التي تخللت هذه القرون، طالت أو قصرت.