وصل إلى الموقع هذا السؤال من الصديق كيرلس:
سلام من الرب يسوع يكون مع شخصكم الكريم
أنا كنت في شرح الابوليناريوسية، وازاي أن ابوليناريوس كان في ضيق شديد من أفكار آريوس الهرطوقية ( عندما قال ان المسيح كان عُرضة للخطأ الأخلاقي) وازاي توصل ابوليناريوس في حل مشكله آريوس (من وجه نظر ابوليناريوس) في أن الإرادة المسئولة عن تصرُّف الانسان في أن يُخطئ أو يكون ذو سلوك سليم، وهذه الإرادة هي في النفس الانسانية. إذاً اللوغوس عندما اتحد بالطبيعة الإنسانية لم يتحد بالنفس الإنسانية، وإنما اتحد بجسد الإنسان فقط “وذلك ليتغلّب علي جُزئية العُرضة للخطأ الأخلاقي في شخص يسوع أثناء التّجسُّد الذي تحدث عنها آريوس.
ولكن السؤال هنا: السيد المسيح شابهنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها، فإذا كان المسيح قد أخذ كل الطبيعة الانسانية ووحَّدها مع اللوغوس حتي يفتدي الانسان، فما الذي جعل يسوع غير عُرضة للخطأ الأخلاقي؟؟؟ هل بسبب اتحاده باللوغوس كما قُلتُم لي في المُحادثة التليفونية أم هناك أسبابٌ أخري؟
شكرًا لشخصكم الكريم
سؤال الأخ كيرلس هو عن هرطقة ابوليناريوس أسقف اللاذقية في عام (360) والذي حوكم في مجمع في الإسكندرية (362)، رغم الصداقة المتينة التي كانت بينه وبين القديس أثناسيوس، ثم حوكم بعد ذلك في مجامع في روما (374-380)، وهو ابنٌ لواحدٍ من أعظم أساتذة الفكر الفلسفي والآداب اليونانية القديمة، وله نفس اسم الابن، عاش في بيروت، وأعاد ترجمة أسفار العهد القديم إلى لغة يونانية فصيحة حتى يتعلم المسيحيون الآداب اليونانية بعد أن مُنعوا من الدراسة وتدريس الآداب اليونانية بأمر الامبراطور يوليانوس الجاحد.
لم يبقَ من كتابات ابوليناريوس إلَّا شذرات جَمَعَها المؤرخ الألماني H. Litzmann وأخرى نُسبت للقديس أثناسيوس الرسولي، وهي صيغة اعتراف بالإيمان.
الأفكار الأساسية:
1- كان عدواً شديد البأس ضد الأريوسية، وأراد أن يؤكد اتحاد الألوهة الكامل بالناسوت أو الإنسانية.
2- لكن مع شدة الاهتمام بالتعليم الصحيح، ورغم تأكيده على أُلوهية الرب، إلَّا أن اعتراض الأريوسية وهجوم الأريوسيين اللاذع على تقدُّم يسوع الأخلاقي، جَعَلَه -وهو ناسكٌ، يرى في الإرادةِ والعقل والنفس، المصدرَ الحقيقي للشر- أن ينكر وجود النفس الإنسانية في الرب المتجسِّد، وأن التجسد هو اتحاد اللوغوس بجسدٍ بلا نفس؛ لكي يظل المسيحُ قدوساً بلا خطية.
يسوع الإنسان الذي لم يَعِش لنفسه:
الحذف والفصل معاً هما من آليات الفكر الإنساني المستعبَد للخوف، والأسير لمعطيات الفلسفة اليونانية، حيث ينسب كل شيء إلى “طبيعةٍ” لها قدرة وفاعلية تقود وتحرِّك كل شيء. قد ينطبق هذا على الهواء أو الماء أو عالم النباتات والحيوانات، ولكنه لا ينطبق بالمرة على الإنسان بالذات؛ لأننا نتجاوز التعليم المسيحي الأصيل -بسبب عدم الدقة- عندما نتكلم عن “الطبيعة الإنسانية”؛ لأن فكرة الطبيعة الإنسانية هي فكرة يونانية تجد القاسم المشتَرَك بين كائناتٍ تشترك في صفاتٍ وأفعال، لكي تصنف ما هو مشترَكٌ بينها على أنه “طبيعة”.
الوجه الحَسِن في هذه الفكرة هو تحديد الانتماء، ولكن الوجه المُعتِم فيها هو تحول الإنسان إلى فكرة معنوية، في حين أن الإنسان -حسب المسيحية الأرثوذكسية- هو “صورة ومثال الله”، وهو لم يفقد هذه الصورة تماماً بسبب الخطية. نعم جُرِحَت، ونعم شُوِّهت، ولكنها تظل دائماً كائنةً إلى أن تُشرق من جديد في يسوع المسيح.
لذا، فعندما يستخدم آباء القرون الرابع والخامس وما بعدهما، كلمة “طبيعة إنسانية”، فهم جميعاً يقصدون: الحرية – الحياة – الإرادة – الفكر – العواطف؛ لأن هذه هي ملامح “الطبيعة الإنسانية” التي للرب يسوع، والتي أخذها عندما تجسَّد.
المدرسة اليونانية القديمة قبل المسيحية، هي مدرسةُ تصنيفٍ، وهي مدرسةٌ تنسب الشَّرَ إلى الطبيعة، وليس إلى حرية الإرادة، ومنها وُلِدَت الأفلاطونية التي رأت أن سقوط الإنسان هو نزولٌ من عالم المُثُل أو عالم الروح إلى عالم الجسد الحسِّي عقاباً له.
لكن حسب تعليم اليهودية والمسيحية معاً، الشَّرَ هو اختيارُ الإرادة، وكامنٌ في المعرفة الذاتية، وينال العقل والقلب نورَ استنارةٍ من روح الحكمة، تراه في صرخات المزمور 119، وقبله المزمور 27.
الخطيةُ اختيارٌ. وكان اختيار آدم الأول، هو الوجود بدون الله. اختيارٌ ذاتيٌّ محدودٌ بنظرة الإنسان إلى كيانه، أفرد له المُعلِّم السكندري أثناسيوس الفصول الستة الأولى من رسالته في الرد على الوثنيين. ولذلك، وهو يقاوم البدعة المانوية والغنوصية، له عبارة مشهورة: “كل ما هو شر، فهو عدم، وكل ما هو خير، فهو موجود” (تجسد الكلمة 4: 5). الشَّرُ عدمٌ؛ لأنه من صُنع الإنسان، ولأن ما يصنعه الإنسان غير قادر على البقاء طويلاً، إذ يتبدد. الشَّرُ من خلق الفكر الإنساني، وهو لا بُد أن يضمحل، كما يؤكد المزمور: “تهلك أفكارهم”. وكل إنسان يحيا لنفسه، والذات هي مركز الوعي والقرار، أمَّا يسوع، فقد كان يحيا للآب وللإنسانية. يقول الرب: “لهذا يحبني الآب لأنني أضع نفسي” (يوحنا 10: 18)، وقد تكرر هذا في عبارات كثيرة كشف لنا الرب فيها عن قوام حياته الداخلية.
“لا يقدر الابن أن يعمل من ذاته عملاً إلَّا ما ينظر الآب يعمل” (يوحنا 5: 19)، فهو غير منفصلٍ عن الآب، ولكنه يعود ليؤكد بعد ذلك مباشرةً: “لأن مهما عمل الآب فهذا يعمله الابن أيضاً” (يو 5: 19). حقاً لم يَعِش الربُّ لنفسه؛ لأنه حتى الأعمال التي يعملها هو، يعملها الآب، ولذلك لم يكن لدى يسوع ذلك المركز الشخصي المستقل الإرادة الذي منه تأتي الخطية. لم تكن له محبة منقسمة مثل محبة البشر الساقطين في الانقسام. ولم تكن له محبة نفسه بعيدةً أو منفصلةً عن محبته للآب، ولذلك لم يكن للخطية مكانٌ في قلبه.
تراه في الصراع مع الشيطان في البرية، لا يقرر بإرادةٍ منفصلةٍ، بل يجيب من الأسفار. وسؤال الشيطان في كل تجربة موجَّهٌ إلى الأنا ego والرد هو: لا حياةَ في الخبز وحده، بل في كلمة الله؛ لأن الخبز وحده -بدون كلمة الله- هو الحياة الحيوانية. ولذلك، لا تطلب الأنا، الحياة الإنسانية البيولوجية المستقلة.
وعندما تُقدَّم له ممالك العالم يرفضها، ومن رفض الممالك -لأنها تعني عبادة المقدِّم، أي الشيطان الذي لا يملكها أصلاً- تظلُّ الأنا في دائرة التسليم إلى الله الآب: “للرب إلهك تسجد”، وحتى عندما يُمتَحَن في صدق مواعيد الله بالحفظ، يرفض أن يَمتَحِن الله؛ لأنه يعرف أمانة الله، ولذلك يقول: “لا تجرِّب الرب إلهك”.
على مستوى الوعي، كان بريئاً وقدوساً ونقياً، لم يكن للخطية مكانٌ في قلبه. وعلى مستوى العلاقة مع الخطاة، كانت محبته للخطاة ظاهرةً بشكلٍ جَعَلَه يوبِّخ سمعان الفريسي: “والذي غُفِرَ له كثيراً يحب أكثر”، وحَصَرَ الخطيةَ في ثلاثة أماكن: محبة الذات، ولذلك قال لنا جميعاً أن ننكر الذات، ونحمل صليب البذل، والأهم هو أن نتبعه. ومحبة الآخر، ولذلك ذكَّرَ الذين سمعوه بالوصيتين: محبة الله ومحبة القريب. ثم لمس في رقةٍ شديدةٍ محبة القنية، عندما طلب من الشاب الغني أن يبيع كل شيء، أي أن يجحد ما يملك، وأن يأتي وراءه، ويتبعه، فرفض الشاب الغني؛ لأن محبة القنية هي امتدادٌ لمحبة الذات، والتفريط في القنية هو تضحية بهذا الامتداد.
وحملُ الصليبِ هو وضعُ الذاتِ في إطار العطاء، العطاء الذي يتخطى كل الحدود، والذي عبَّر هو عنه في مثل السامري الصالح، الذي لم يكن له أي قيمة عند اليهود بالمرة؛ لأنه لم يحفظ الشريعة الموسوية، ولكن عمل المحبة والخير جعله يتخطَّى كل الحدود والفواصل العرقية. وحياة يسوع في الجسد وأقواله وأفعاله، هي النقاء والنور والمحبة والغفران مستَعلَنةً في الحياة الإنسانية.
وثمةُ موضوعٍ هام لم ندرسه بالتفصيل في مصر، وهو “إخلاء الذات” (فيلبي 2: 6). وأذكُر أنني كنت المُمتَحِن لطالب من جامعة شفيليد في شمال انجلترا، كانت رسالة الدكتوراه المقدَّمة منه هي عن (فيلبي 2: 1-8)، وكانت من أعظم الرسائل؛ لأنها جاءت مطابقة لتعليم آباء الإسكندرية، وهو إخلاء الرب الابن لذاته بالامتناع عن استخدام القوة الإلهية والسلطان، إلَّا في إطارٍ محدودٍ، حسب التدبير؛ لكي ينقل الإنسانية التي أخذها من العذراء إلى مجد أُلوهيته.
وعندما يتَّحِد ابن الله بطبيعة محدودة فانية، ليس لها وجود ذاتي، أي الإنسانية، فهو يدخل إلى جحيم الحياة الإنسانية، وهي ضد كل ما له؛ لأنه واجب الوجود أو كائنٌ بذاته، ليس للفناء أيُّ مكانٍ أو شكلٍ أو إحساسٍ في أُقنومه الإلهي، كما أنه غير محدود (غير محدود، أي لم يكن له أي تحديد خاص بالكَّم Quantity بل بالكيف Quality) فالله ليس محدوداً حسب الكم، بل فوق كل الحدود؛ لأنه صالحٌ ويعلو جوهره على كل ما هو معروف.
“نزل من السماء”، كما نقول في قانون الإيمان، وهي حركة التواضع الإلهي لكي يصبح الله متجسداً، وأن يحيي الحياة المخلوقة الإنسانية. هنا نرى كيف تظهر قداسة المسيح في أنه لم يتعدَّى حدود Boundaries ما هو مخلوق، ولذلك يقول رسول الرب إن “ضعف الله وجهالة الله أعظم من قوة وحكمة البشر (راجع 1كو 3: 19 – 1: 25). ولذلك، قَبِلَ الربُّ “الموتَ”، وعار الصليب والدفن مع الموتى، ولكنه قام في اليوم الثالث. أعمال التدبير الإلهي تؤكِّد أن مَن تجسَّد وبذل ذاته للموت، لم يكن له ذلك الاهتمام (الانهمام بالذات)، ولم تكن حياته لذاته، ولذلك قام بمجد الآب.
قداسةُ الربِّ ليست نظريةً في الخرستولوجي، بل هي الواقع المُعاش الذي جعل يسوع الإنسان، هو الإنسان الوحيد حتى آخر الدهور الذي لم يَعِش لنفسه، بل للآب وللإنسانية التي جاء لكي يخلِّصُها.
تقول سطورٌ باقيةٌ من صلاةٍ تعود إلى القرن الثاني أو الثالث:
“أنت يا يسوع نور الحياة؛ لأنك -كنورٍ- تجودُ بما لديك لكي لا نسير في الظلام، بل بنورك نعاين النور”.
مع محبتي.
د. جورج حبيب بباوي