لعل أفضل ما كُتب عن بتولية القديسة مريم هو ردُّ القديس جيروم على هلفيديوس Helvidius في عام 383 وهو اعتراضٌ بدأ من سوء فهم قراءة نصوص الكتاب المقدس، وبالذات كلمات إنجيل متى: “ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر” (مت 1: 24-25). وسوء الفهم له أكثر من مصدر، ولكن في هذا المجال بالذات يهمنا المصدر الأصلي والمحرك لكل الاعتراضات التي طفحت في الحياة العقلية في الـ 100 سنة الأخيرة.
أولاً: إنكار هدف التدبير الأول.
وهو استعلان “الخلقة الجديدة” (2كو: 17)، وهي خلقٌ جديدٌ يحدث هنا في الزمان، وفي البشر، في التاريخ الذي أغلقته الخطية بالموت، دون أن يتمكن لا الإنسان نفسه ولا النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي على أن “يبشِّر بالقيامة”؛ لأن كل البشر ماتوا ودُفنوا، كما قال القديس بطرس عن داود: “قبره لا يزال عندنا إلى هذا اليوم” (أع 2: 29).
لكن رب الحياة صَرَعَ الموتَ وصَلَبَه وقَتَلَه([1]).
وفي التدبير تغيَّر كل شيء:
- الولادة البيولوجية صارت ولادة روحية.
- الزواج نفسه صار يخدم سر الكنيسة، ويقدم أعضاء جديدة لجسد المسيح.
- الموت تحول إلى قوة تهدم أثار الخطية؛ إذ يهدم الموتُ الجسدَ الترابي لكي يقوم الجسد الروحاني أو السمائي (1كو 15: 44).
- بل عندما صُلب الرب يسوع، صارت قوة الصليب في “إماتة الخطية” وبالموت نخلع جذر الخطية. وحتى في الحياة النسكية القبطية الأرثوذكسية “مات عن العالم” هي عبارة الأسقيط التي تعني أن قوة الموت هدمت كل الرغبات والشهوات، بما فيها شهوة الطعام بالصوم، والكسل بالسهر، والزواج بالبتولية. وهكذا تغير أيضاً الطقوس والصلوات وصارت هذه الطقوس رموزاً لحقيقة أكبر، وهو “الواقع المعاش” أي “الشركة” في حياة الثالوث نفسه.
ثانياً: بقاء نعمة التدبير:
كانت معاداة الرهبنة والحياة النسكية هي المحرك الأول للهجوم على القديسة مريم، وكان قادة الإصلاح هم أول من أعادوا الحياة المسيحية وردوها إلى شكلها الطبيعي في محاولة لإبادة الحياة النسكية كجزء مكوِّن للحياة المسيحية كما عرفتها أوروبا تحت التعليم وسلطان الكنيسة الرومانية الكاثوليكية([2]). ولذلك، بتولية القديسة مريم، وهي أيقونة البتولية، ومصدر إلهام كبير، كان من الضروري إنكارها لكي يتغير نظام الحياة ويفلت من المثال “الكاثوليكي” إلى المثال “الطبيعي” أو البيولوجي، وفي زماننا كنا نسمع عن زواج القديسة مريم بعد ولادة رب المجد، بل كانت العبارة الشائعة على ألسنة كثيرة بأنها مثل البيضة أخذ الله ما فيها وألقى بالقشرة التي لا تؤكل، ولم يكن غريباً أن يتجدد الهجوم على الرهبنة والحياة النسكية في السنوات الأخيرة لأنها صورة أو أيقونة الحياة الجديدة التي أساسها في المسيح حيث يتحول:
* التكوين البيولوجي للإنسان في المسيح إلى تكوين جديد يعود أصله إلى المسيح يسوع، إلى ميلاد الرب نفسه في بيت لحم “مسقط رأس البشرية الجديدة” التي كما تقول التسبحة السنوية “ولد فيها آدم الجديد”، وفي هذا التكوين الجديد تنمو “الخلقة الجديدة” التي لا يقوى عليها الموت لأن الموت قد أُبيد تماماً.
* والتكوين الجديد هو صورة المسيح الحي الغالب والمصلوب معه “لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبهاً بموته” (في 3: 10)، وعلى هذا الدرب سار الآباء جميعاً، وهو درب القيامة التي لا تجعلنا نحتقر الزواج ولا نمجِّد البتولية على حساب الزواج، بل تجعلنا نرى الحياة الآتية: حياة الدهر الآتي، الآن، أي تلك التي نتلامس معها وتسري فينا “حساً روحياً” يمتد إلى أعماق الوعي والوجود كله.
* وفي التدبير نحن ندخل شركة الكنيسة الجامعة مع القديسين والرتب الملائكية، ومع هؤلاء نقف للتسبيح، تجمعنا الذبيحة الواحدة، أي ذبيحة سر الشكر التي تجمع أعضاء جسد الرب الواحد.
نعمة باقية مُعلَنة فينا جسداً وروحاً، وطبعاً هناك من يشذ ويسقط ويجلب على الكل الدينونة لأنه لم يحيا كما يجب، بل تحول إلى أصل مرارة” (عب 12: 15)، وجلب العار على الجسد كله.
لذلك قلت في المقدمة إن سوء الفهم له أكثر من مصدر واحد، وسوء القراءة يسبقه الشك: لماذا تظل العذراء بعد أن قال الانجيلي إنها مخطوبة، وكان هلفيديوس هو أول من فهم عبارة الانجيلي “قبل أن يجتمعا”، على أنها تعني أنها كانت زوجة؛ لأن الملاك قال ليوسف “خذ زوجتك” مما يعني حسب القراءة السطحية أن مريم المخطوبة صارت زوجةً بعد ذلك، وأنها عادت ليوسف كأي امرأة بعد الخطوبة.
شرح القديس جيروم:
بعد كلمات الملاك قام يوسف من النوم “وفعل كما أمره ملاك الرب وأخذ زوجته ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر”. يقول جيروم إنها “مخطوبة وأن الأسفار العبرانية كانت تسمي العذراء المخطوبة زوجة” (تث 22: 25)، ولذلك كان الاعتداء الجنسي على أي عذراء مخطوبة هو بمثابة اعتداء على زوجة (تث 22: 23 – 24). ثم يقول “ولكي لا تُرجَم (مريم) حسب شريعة موسى كزانية قبِلها يوسف” (الفقرة 3). ويضيف: “وفي أثناء الهروب إلى مصر كانت (مريم) ستجد العزاء في أن لها عائلاً لأنه من كان يصدِّق في ذلك الوقت بالذات أنها حبلى من الروح القدس وأن الملاك جبرائيل جاء وبشرها بقصد الله؟
ومن عبارة القديسة مريم عن حبلها كما وردت في الانجيل “كيف يحدث هذا وأنا لست أعرف رجلاً” يجب أن تشرح لنا معنى كلمات العذراء بعد ذلك “يا ابني لماذا تعاملنا بهذا الشكل؟ هوذا أنا وأبوك كنا نفتش عليك”. ويقول جيروم إن يوسف دُعي أباً لكي يحمي سمعة مريم، فهو لم يكن أباً للمخلص (فقرة 4) لأن يوسف كان يريد أن “يخرجها”، أي يرسلها لأهلها، ولكن الملاك جبرائيل أخبره بأن الذي في بطن العذراء هو من الروح القدس.
وماذا عن عبارة “لم يعرفها حتى ولدت”؟ يقدم القديس جيروم عدة اقتباسات من الاسفار المقدسة عن معنى “حتى”، ويقول: “تقول كلمة الله في التكوين (35: 4 س) إن النساء أعطين ليعقوب كل الآلهة الغريبة (تماثيل) التي كانت في أيديهن والأقراط التي في آذانهم، فطمرها يعقوب تحت البطمة في شكيم ولا زالت مدفونة حتى هذا اليوم” وفي خاتمة سفر التثنية “فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب .. ولم يعرف إنسان قبره حتى هذا اليوم” (تث 34: 6). ويجب أن نفهم أن عبارة “حتى هذا اليوم”، أي يوم كتابة سفر التثنية، سواء كنت تعتقد بأن موسى هو كاتب التوراة أم أن عزرا هو الذي جمع التوراة وحققها. وفي كلتا الحالين -وحسب النص- يجب أن نفهم أن عبارة “إلى هذا اليوم أو حتى هذا اليوم” تشير إلى زمان الكتابة أو نشر التوراة. وكم من سنوات عبرت وظلت الأوثان مدفونة تحت شجرة البطمة، وكذلك لا زال حتى هذا اليوم قبر موسى لم يُكتشف. ولا داعي للعناد بأن كلمة “حتى” تفيد أن الأوثان وجدت وأن قبر موسى اكتُشِف بعد كتابة التوراة.
هل عرف يوسف القديسة مريم كزوجة بعد ذلك؟ يجيب جيروم: إن الرجل الذي لم يعرف مريم بسبب بشارة الملاك وحضور الرعاة ثم المجوس وسمع من الرعاة أن المولود هو “المسيح الرب”، وكذلك “المجد لله في الأعالي ..”، ثم رأى كيف حمل سمعان الشيخ الطفل يسوع وبارك الله وقال “الآن يا رب اطلق عبدك بسلام .. لأن عيني قد أبصرتا خلاصك”. وعندما شاهد حنة النبية وسمع ما قالت يسأل جيروم: يا هلفيديوس هل أنت تريد منا أن نؤمن بأن يوسف بعد كل هذه الأمور الفائقة جداً كانت لديه الشجاعة لأن يمس هيكل الله والدة الإله حيث حلَّ الروح القدس؟ ألم تحفظ مريم كل هذه الأمور في قلبها. أنت لا يمكن يا هلفيديوس أن تنكر هذا على الأقل بسبب الخجل لأن لوقا يقول “وكان أبوه وأمه يتعجبان من هذه الأمور التي قيلت عنه” (فقرة 8).
أخوة الرب:
هل حبلت القديسة مريم من يوسف وأنجبت الذين دعاهم الإنجيل في أكثر من موضع أخوة الرب؟ يجيب جيروم: “كل بكر هو المولود الأول، ولكن ليس كل مولود أول هو البكر؛ لأننا نفهم أن البكر ليس فقط من جاء بعده أخوة، بل أيضاً من لا إخوة له لأن الرب يقول لهارون “كل من يفتح رحم لكل جسد يقدَّم للرب للإنسان والحيوان هو لك أما المولود البكر للإنسان فهو يفتدى والمولود الأول للحيوانات الطاهرة أنت تفديها”. كلمة الرب تحدد أن البكر هو كل من يفتح رحم. والادعاء بأن يعقوب ويوسي أخوة الرب (متى 12: 46 – يوحنا 2: 12 وغيرهما)، من مريم هو ادعاء هلفيديوس، ولكن حسب لوقا فإن مريم أم يعقوب (24: 10)، ويمكن من هذا أن نستنتج أنها أم “يوسي أيضاً لأن يعقوب الصغير هو غير يعقوب الكبير، لأن يعقوب الكبير هو يعقوب بن زبدي لأن مرقس يقول “مريم المجدلية ومريم أم يوسي” (مر 15: 47 – 16: 1) وهؤلاء كانوا عند الصليب، وعند دفن الرب أيضاً، ولكن مريم أم يسوع كانت هي أيضاً عند الصلب والدفن حسب يوحنا (يوحنا 19: 25). من هذا يبدو واضحاً أن هناك تلميذين كلاهما حمل الاسم يعقوب: يعقوب بن زبدي، ويعقوب بن حلفا، ولم يدعى يعقوب الصغير بن مريم في العهد الجديد. ويمكن أن نستنتج من هذا أن مريم أم يعقوب الصغير هي زوجة حلفا، وهي أخت مريم أم الرب (فقرة 14). لم ننقل كلمات القديس جيروم بل نقلنا الرد مختصراً.
الابن الوحيد للآب والابن الوحيد للقديسة مريم:
ختاماً أمام أيقونة الحياة الجديدة من الضروري أن نتذكر أن التعليم غير المتجسد في حياة البشر هو ليس تعليماً مسيحياً، بل فكراً عابراً لا أصل له في الكيان الإنساني. لقد جاء الرب يسوع ليس بفكر جديد، بل بحياة تلد الفكر، وبمحبة هي قوام الحياة، والحياة هي شركة في حياة الله الآب من خلال أو بواسطة الرب نفسه.
وحفظ البنوة كابن وحيد للآب، هو الذي حفظ الحياة الجديدة التي نالتها “الممتلئة نعمة” والتي اختبرت ولادة الله الكلمة لكي تعلو بالحبل وبالولادة وبواسطة “روح الله” الذي حلَّ عليها، أي تعلو على ما تطلبه الطبيعة البيولوجية لكي تصبح أيقونة الحياة الجديدة الناهضة من سقوط عدن إلى قيامة الحياة الجديدة التي كانت هي نفسها أول من ذاقها في اللحم والدم.
الذين ينكرون بتولية القديسة مريم يحولون دعوة الإنجيل إلى دعوة أخلاقية أرضية تخلو من السمو السمائي الإلهي الذي جاء به الرب وغرسه فينا نحن.
حاشية
المسيح له المجد –بالتجسد- صار الأخ البكر لكل إنسان، وهي نقطة هامة في تفنيد البدعة النسطورية عند القديس كيرلس الكبير (مقالة 3: 2 وشرح يوحنا 1: 9). ويقول القديس كيرلس السكندري: “لم يصعد المسيح ويقدم نفسه لله الآب كإله لأنه كان وهو دائماً يكون مع الآب .. ولكنه صعد كإنسان وهو عملٌ جديد وفائق ولا مثيل له لأن الكلمة منذ الأزل لم يكن له جسد بشري، ولكن عندما صعد يسمع هو ذاته كابن متجسد “اجلس عن يميني” (مزمور 110: 1) وينقل مجد البنوة υìοθεσìας لكل الجنس البشري من خلاله .. قد أُستعلن كإنسان لكي يُجلسنا معه مرةً أخرى على يمين الآب ..” (شرح إنجيل يوحنا 9 مجلد 2: 404).
د. جورج حبيب بباوي
يناير 2014
([1]) “قتلُ الموت” هو تعبير القديس أثناسيوس في تجسد الكلمة 27: 1 و28: 2 وورد أيضاً في قسمة القديس كيرلس الكبير: “يا مسيح الله الذي بموتك قتلت الموت الذي قتل الجميع. بقوتك أقم موت نفوسنا”. وعلى الرغم من أن صلاة هذه القسمة وُجدت باللغة العربية إلَّا أن عباراتها موجودة في كل كتابات القديس كيرلس لا سيما رسائل الفصح وشرح انجيل يوحنا. وضياع الأصل القبطي جعل الأستاذ يسى عبد المسيح يعيدها إلى اللغة القبطية بطلب من الأنبا مكاريوس مطران أسيوط وبابا الاسكندرية فيما بعد.
([2]) نحن كاثوليك ولكن لا نتبع روما لأننا نؤمن بكنيسة واحدة مقدسة كاثوليكية (جامعة) رسولية لكل الرسل، وليس لبطرس الرسول وحده.