رداً على مجلة الكرازة – العدد 27 – 28 – 4 يوليو 2014
كتب أستاذنا الكبير، والرجل النبيل د. موريس تاوضروس مقالاً يحاول فيه أن يُلصق تعليم الكنيسة الغربية الكاثوليكية بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ونحن نقصد تعليم الاستحالة الجوهرية Transbstantiation. والاستحالة الجوهرية مصطلح لاتيني اعتمد على فلسفة أرسطو التي تميِّز بين الجوهر والعَرَض، وهو التعليم الذي قبلته كنيسة روما في مجمع اللاتران الرابع في 1215، وقد سبق هذا التعليم كتابات رومانية، ثم عادت الكنيسة الكاثوليكية لتأكيد ذات التعليم في مجمع ترانت في 1551 في الجلسة 13 ضد تعليم حركة الإصلاح.
غياب تاريخ العقيدة المسيحية
ما يُحزن قلبي هو ما يُنشر في مصر في غياب كامل للخلفية التاريخية، وبالذات ذلك الفرع من العلوم اللاهوتية الذي يتصدر دراسة اللاهوت في أي معهد أو جامعة محترمة، وهو History of Christian Doctrine وقد صدرت دراسات جيدة جداً لا تحتوي على أي اتجاه مذهبي باللغات الأوربية الحديثة. وقال لي صديق إن د. حنا الحضري أصدر دراسة عربية لتاريخ العقيدة، ولكني لم أطلع عليها.
والعودة إلى تاريخ العقيدة ضروري؛ لأن بعض الإجابات العقائدية كانت رداً على أسئلة ومشاكل رعائية، وأخرى أثارها الهراطقة، فهي أي هذه الإجابات لم تنشأ من فراغ، بل لها تاريخ معروف يجعلنا قادرين على فهم:
أولاً: المصطلحات اللاهوتية التي سبقت عملية الحوار.
ثانياً: ما نشأ من مصطلحات لاهوتية بسبب هرطقة أو سؤال.
لكن انعدام الجانب التاريخي يؤدي إلى الوقوع في فراغ يسير فيه الكاتب بلا هدى معتمداً على الحس والمعرفة، وقد يكون هذا جيداً، ولكن فقدان الجانب التاريخي يجعل أي بحث بلا أساس حقيقي.
مرحلة السبي البابلي
أطلق المطران يوحنا زيزيولاس هذه التسمية على الكتابات اليونانية التي استعانت بالنظام اللاهوتي الكاثوليكي الذي عرفه علماء اليونان بعد ترجمة الخلاصة اللاهوتية للعالم الكاثوليكي توما الإكويني مثل Dyobounites بل وأيضاً Androutsos وغيرهما من علماء القرن التاسع عشر، وأول العشرين، إلى أن جاء عصر التحرر من السبي البابلي من كتابات المعاصرين لنا مثل Christos Yannaras – P. Nellas وغيرهما من الذين أعادوا تراث الآباء الشرقيين، وأصرُّوا على استعادة كتابات الآباء باسم الرؤيا الجديدة Neo – Patristic وهو تعبير عن الأبحاث المعاصرة لنا التي نُشِرت في الـ 50 سنة الأخيرة.
بالطبع، ترجمة المصطلح اللاتيني إلى اليونانية ليست مسألة شاقة. وتاريخياً، كان أول مَن استخدم المصطلح في ثوبه اليوناني هو بطريرك القسطنطينية المعروف Scholarius جورجيوس، وكان أحد الذين اشتركوا في مجمع فلورنسا 1439، وصار بطريركاً في 1453 وله عظة بعنوان “الجسد السرائري لربنا يسوع المسيح”، نُشرت في مجموعة الآباء اليونانيين 109 عامود 351 – 374 وهو أول مَن استخدم تعبير “μετουσίωσις” حيث يقول: “لأن تحول μεταβολή الجوهر ούσις إلى جوهر جسد الرب ودمه مع بقاء الأعراض συμβεβηκότα للخبز والخمر، إذ تبقى أعراض الخبز والخمر بلا تغيير” (عامود 351).
وعن بطريرك القسطنطينية نشر غبريال ساويروس، وهو أسقف أُقيم على المدينة القديمة فيلادلفيا في تركيا 1577 شرحاً للقداس البيزنطي، واستخدم في هذا الشرح ذات المصطلح السابق، وهو دفاعٌ عن السجود أثناء القداس الإلهي نُشِر بعد ذلك مترجَماَ إلى اللاتينية 1671 في طبعة حققها O. Richard Simon.
لكن قبل مرحلة السبي البابلي، يجب العودة إلى روما، وبالذات الصراع الفكري اللاهوتي مع Berngar من Tours وكان تلميذاً لـ Fulbert وكلاهما درس مقالة Ratramn بعنوان “جسد ودم الرب”. كان Berngar ولد في سنة 1000 ودرس في كاتدرائية Touros وصار رئيس شمامسة في 1040وهو الذي بدأ به الجدال وانتهى إلى تعبير الاستحالة الجوهرية.
كانت البداية هي عبارة Berngar بأن هناك اعتقاد عام خاطئ بأن “الجسد الذي يقدَّم يومياً على المذبح ليس الجسد الحقيقي، ولا الدم الحقيقي، بل هو شبه ومثال” (الرسالة الأولى، مجموعة الآباء اللاتين، مجلد 163، عامود 1289)، مما دعى الأسقف Hugh أسقف Langres أن يكتب إليه باعتباره صديقاً وتلميذاً درس معه في نفس الكاتدرائية: “إن طبيعة وجوهر الخبز والخمر تتغير؛ لأن إنكار هذا يعني أن جسد المسيح ودمه هو في العقل فقط كفكرة (وهو نفس تعليم الإنجيليين حتى الآن)”. ولكن Berngar كتب رسالة إلى Lanfrace في 1050 وقد صار بعد ذلك رئيس أساقفة كانتربري، محاولاً اقتباس عبارات من أمبروسيوس وأُغسطينوس جمعها كاتب إيرلندي مشهور باسم يوحنا Scot وعُرِف باسم Scotus Erigena ولكن البابا لاون التاسع، وقد وصل الحوار إليه في نفس السنة، عقد مجمعاً في روما وأصدر فيه قراراً بحرمان Berngar وتوالت الحرمانات بعد 1050 في مجامع مكانية خارج روما في Vercelli وآخر في باريس، وثالث في Tours ورأس المجمع Hildebrand الذي صار بعد ذلك البابا غريغوريوس الثاني، وحضر Berngar المجمع، فقد حرصت كنيسة روما منذ إنشائها على ألَّا يُحاكَم أي شخص غيابياً، وأنكر Berngar ما نُسِبَ إليه، وأن الخبز والخمر بعد التقديس هما جسد ودم المسيح الحقيقيان (السرد حسب التاريخ للمؤرخ Witmund في مجموعة الآباء اللاتين 149 عامود 1487)، ولكن كانت هناك هواجس لم تُقنع السلطات الكنسية.
فعقد البابا نيقولا الثاني في 1059 مجمعاً في روما حضره Berngar وفيه وقَّع على وثيقة خطية تقول: “أنا Berngar خادم كنيسة القديس موريس في Augers اعترف بالإيمان الحق الكاثوليكي الرسولي وأحرم كل هرطقة، وبالذات تلك التي جلبت عليَّ سمعة سيئة … أؤكد أن الجسد الحقيقي ودم ربنا يسوع المسيح والذي تعاينه الحواس Sensualirer ليس فقط مجرد سر Sacrament بل حقيقة تمسك بها أيدي الكهنة، وتؤكل بواسطة أسنان المؤمنين” (الآباء اللاتين، مجلد 150: 409 – 411).
ولكن لا نعرف تاريخياً لماذا لم يقف الجدال عند هذا الحد، إذ عُقد مجمع آخر 1063 في مدينة Rouen لمحاربة تعليم Berngar وتم في هذا المجمع بالذات صياغة فتحت الباب أمام تبني تعليم الاستحالة الجوهرية، وهذا هو نص قرار المجمع:
“نؤمن بكل القلب ونعترف بالفم أن الخبز الذي يوضع على مائدة الرب هو خبزٌ للتقديس، وأنه بعد التقديس يتحول بقوة فائقة إلهية إلى ذات طبيعة وجوهر الجسد، وهو ليس جسداً آخر، بل هو نفس الجسد الذي حُبِلَ به بالروح القدس، وولد من مريم العذراء، وأنه هو لأجلنا ولأجل خلاصنا جُلِد وعُلِّقَ على الصليب، ودُفِنَ في القبر وقام في اليوم الثالث من الأموات، وأنه يجلس عن يمين الله الآب. ونفس ما ذكرناه الخمر الذي يُخلَط بالماء ويُوضَع في الكأس يُقدَّس ويتحول إلى الدم الذي سال من الجنب الجريح عندما طعنه الجندي بالحربة من أجل فداء العالم” (تاريخ المجامع Hardouin مجلد 4: 1141 – 1142).
وكان آخر قرار هو الذي صدر في المجمع الذي عُقد في روما 1079 تحت رئاسة البابا غريغوريوس السابع ووقع فيه Berngar على آخر صيغة إيمان، ورد فيها نصاً:
“أنا Berngar بكل قلبي واعترف بلساني أن الخبز والخمر اللذان يوضعان على المذبح في السر وبالصلوات المقدسة وبكلمات الفادي تتحول جوهرياً إلى جسده الحقيقي الواهب الحياة، وإلى دم ربنا يسوع المسيح” (تاريخ المجامع Hardouin مجلد 4: 1583).
ومع أن علماء اللاهوت تحفَّظوا على تعبير الاستحالة الجوهرية بعد ذلك، واكتفوا بالإشارة إلى تحول الخبز والخمر، لكن فلسفة أرسطو صارت أحد مكونات اللاهوت النظري Systematic ومع ذلك لم يتراجع البعد السري Mystical إلى أن عُقد مجمع اللاتران في 1215 تحت رئاسة البابا أنوسنت الثالث، وصاغ المجمع هذه الصيغة التي استقرت بعد ذلك كتعليم رسمي في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية:
“في هذه الكنيسة، المسيح نفسه هو الكاهن والذبيحة، وجسده ودمه حقاً في سر المذبح تحت أعراض الخبز والخمر، الخبز تحول جوهرياً إلى جسد الرب والخمر إلى دمه بقوة الله” (المرجع السابق مجلد 7: 15 – 18).
تعليم آباء الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية
لم تذكر مصادر القون الثلاثة الأولى شيئاً عن تحول الخبز والخمر، وذلك لسببين:
الأول: ندرة ما كُتِبَ عن سر الشكر.
الثاني: لم تكن الكنيسة تعلن التعليم الخاص بالأسرار ، وهو ما عُرِف بـ “التسليم السري”، حتى لا يتحول إلى مادة للهجوم على الإيمان.
وحتى الآباء المدافعون مثل الشهيد يوستينوس، ذكر العشاء الرباني بشكل عام دون أن يدخل في التفاصيل.
جاءت شذرات عابرة في الرسائل الفصحية للقديس أثناسيوس الرسولي دون تفاصيل أو حتى أي شرح، وعلى سبيل المثال لا الحصر:
“نحن لا نأتي إلى عيد أرضي -يا أحبائي- بل عيد سمائي وأبدي، ولا نحتفل به في ظلال ولكن بالحقيقة. لقد امتلأ اليهود من لحم الغنم غير العاقلة عندما يحتفلون بالعيد (عيد الفصح)، ودهنوا قوائم الباب بالدم لعبور الملاك المهلك، ولكننا نحن الآن نأكل اللوغوس الذي من الآب، وقوائم قلوبنا تُختَم بدم العهد الجديد معترفين بنعمة المخلص التي أعطاها لنا” (رسالة 4: 1).
“نحن نأكل من طعام الحياة ونعطش دائماً، وتفرح نفوسنا دائماً كما من ينبوع، بدمه الثمين” (رسالة 5: 1).
“لنستعد لكي نقترب من الحمل الإلهي، ونلمس الطعام السمائي” (رسالة 5: 5).
أمَّا في تعليم الموعوظين للقديس كيرلس الأورشليمي([1]):
“الخبز والخمر في الإفخارستيا قبل استدعاء الثالوث القدوس المسجود له هما خبز وخمر بسيط λιτός ولكن بعد الاستدعاء، يصبح جسد المسيح والخمر دم المسيح” (عظة 19: 7).
ويقول في العظة 21: 3:
“احترسوا من أن تظنوا أن زيت الميرون هو زيت عادي ψίλον لأنه كما أن خبز الشكر بعد استدعاء الروح القدس لم يعد خبزاً عادياً λιτός بل جسد المسيح، ويصير عطية نعمة المسيح بحلول الروح القدس عليه صالحاً لأن يعطي إلوهيته …”.
وحتى التعبير اليوناني الذي استخدمه القديس غريغوريوس النيسي لا يؤدي إلى الاستحالة الجوهرية، حيث يقول:
“لأن الروح يقدس جسد الذي يعتمد، وكذلك مياه المعمودية … والخبز قبل التقديس هو خبزٌ عادي، ولكن بالتقديس السرائري يصبح كما ندعوه نحن أيضاً جسد المسيح … هذه القوة غير المنظورة والنعمة التي فيها تحوله μεταμορφωθεις إلى ما هو أعظم” (الآباء اليونانيين، مجلد 46: 584).
وأيضاً القديس كيرلس السكندري في شرح إنجيل يوحنا 3: 5 يتحدث عن تحول الماء في المعمودية لأن الروح القدس حول الماء إلى قوة إلهية، واستخدم كلمة αναστοιχείούται.
أمَّا السكين العقلية أو النطقية، وهي الكلمات التي وردت في صلواتنا القبطية، يقول عنها غريغوريوس النيزينزي في الرسالة 171 إلى أمفلوخيوس:
“لا تهمل الصلاة والتشفع لأجلنا لأنك بالكلمة تستدعي اللوغوس، وبسكين غير دموية تقسم جسد الرب وتوزع دمه؛ لأن صوتك هو هذه السكين”.
وإذا عدنا إلى معلم المسكونة الحقيقي القديس كيرلس عمود الدين في شرح إنجيل لوقا 22: 19، النص اليوناني، مجلد 72: 912، نجده يقول:
“كان ضرورياً لنا أن يكون (المسيح) فينا بالروح القدس بتدبير إلهي كي ما تمتزج أجسادنا بجسده المقدس ودمه الكريم الذي نتناوله في البركة المعطية الحياة في الخبز والخمر، ولكي لا نُصاب بالرعب والشلل بسبب رؤيتنا جسد ودم على المائدة المقدسة في الكنائس يتنازل الله إلى ضعفنا ويرسل قوة الحياة إلى (الخبز والخمر) ويحولهما μεθίστησιν إلى قوة ενεργεία جسده الخاص لكي نتناوله كواهبٍ للحياة، ولكي يعطي لنا جسدُ الحياة، حياةً، ويبقى فينا بذرةٌ واهبة الحياة”.
وفي نصٍّ فريد عن العشاء السري (مجلد 72: 1028 – 1029) يقول القديس كيرلس:
“إذا كان جسد الله يعطى لنا، وهو هنا الإله الحق والمسيح والرب وليس مجرد ψιλός إنسان أو ملاك كما يدَّعي (الهراطقة) أو واحد من الأرواح المخلوقة. وأيضاً إذا كان ما نشربه هو دم الله فهو ليس فقط مجرد إله، بل أحد الثالوث المسجود له وابن الله نه الكلمة المتجسد …”.
لماذا نرفض تعليم الاستحالة الجوهرية، ونتمسك بالاستحالة السرية؟
1- يبدو بشكل سطحي أن التمييز بين الجوهر والعَرَض هو تعليم بريء غير ضار، ولكن الحقيقة هي غير ذلك؛ لأن الجوهر فلسفياً هو ما يكوَّن الوجود أو الحياة. وجوهر الإنسان هو النطق – العقل – الإرادة – الفهم، وليس الجسد، ولا شكل الجسد مثل طول القامة أو لون الجلد أو أية خصائص جسدية.
والإيمان بالتجسد لا يقبل أن يقع رب الحياة تحت هذا التقسيم الأرسطوطاليسي، فليس في المسيح جوهرٌ وعَرَض، بل هو الإله واهب الحياة. عندما تجلَّى على جبل طابور كانت ملابسه تسطع بنورٍ يفوق نور الشمس -هذا عند أرسطو عَرَض- وعندما تفل على الأرض وصنع من التفل طيناً وطلى عيني الأعمى، أبصر الأعمى -هذا عند أرسطو عَرَض. والجروح التي ظلت في جسده بعد القيامة ليست “عَرَضاً”، بل نحن نقول في صلواتنا: “لكي نضيء بشكلك المحيي” (القداس الكيرلسي). ولقد رفضت التقوى الأرثوذكسية أن تصف جسد المسيح بكلمة “جزء”، بل وصفته بـ “جوهرة”، وهي ليست من “الجوهر”، بل تعني بها ما هو ثمين، ولذلك نقول إن أصغر جوهرة هي جسد الرب، وكل نقطة من الكأس بعد التقديس هي دم المسيح.
2- الأجساد البشرية كلها مزيَّفة. فقد زيَّفها الموت، ودخلت عليها قوة الخطية، ولم يعد في التاريخ البشري جسداً حقيقياً إلَّا جسد يسوع: “جسدي مأكلٌ حق، ودمي مشربٌ حق”. والحق هنا لا يمكن أن ينقسم إلى جوهر وعَرَض، لأن جسدنا الترابي هذا – في أطول نص في العهد الجديد شغل 1 كور 15 كله، يتحول إلى جسد سمائي روحاني، وهو لا يفنى؛ لأن كل الأعراض الجسدية: الطول والوزن …إلخ حسب أرسطو، تتحول بسرٍّ لا ندركه الآن، فلا يفنى الجسد. وما يزرع قوة القيامة التي فينا هو سر الشكر حسب النطق الإلهي: “وأنا أقيمه في اليوم الأخير”. ولذلك -حسب الترجمة القبطية للصلاة الربانية- الإفخارستيا هي “خبزنا الذي للغد”؛ لأن الغد هو القيامة، وهو صدى لأقدم شرح للصلاة الربانية للعلَّامة أوريجينوس.
3- لم يكن الرب يسوع يحيا حياةً حسب الجوهر، ولها صفات عَرَضية؛ لأن حتى المرأة نازفة الدم، لما لمست هُدبَ ثوبه، “شُفِيَت”؛ لأن قول الرب “قوة خرجت مني” صارخٌ في الآذان أن حياةً واحدة لا تنقسم فلسفياً، وبالتالي لا يقسَّم السر نفسه، سر اتحادنا بالمسيح.
4- وتشديد الآباء على أن الخبز والخمر بعد استدعاء الروح القدس، ليسا مثل أي خبز أو خمر، بل صارا جسد الرب ودمه، يؤكد لنا أن التحول يبدأ أولاً في المعمودية والميرون؛ لأننا في صلاتنا نطلب تحول الموعوظين إلى أبناء النور، أبناء الحق، ويسأل الكاهن: “حولهم – ابدلهم”. فالانتقال إلى ملكوت الله، هو تلك الرؤيا المستيكية التي يتم فيها تحول المياه إلى قوة خالقة تلد الإنسان، وتقدس الميرون، وتنقل الخبز والخمر حسب استدعاء الروح القدس في القداسات الأرثوذكسية التي حرصت على استخدام تعبير: “ليصيرا”. وحسب النص اليوناني بعد استدعاء الروح القدس
“καί ποίησον τόν μέν άρτον, τίμιον εώμα τού χριστού σου
واجعل هذا الخبز جسد مسيحنا”.
5- ولعل غياب تعبير “الاستحالة الجوهرية” من القداسات الأرثوذكسية، يجعلنا ندقق في ألَّا نعلِّم بشيء لا وجود له في التسيم الكنسي؛ لأن فاعلية حلول الروح القدس –حسب صلواتنا القبطية- هي: “اظهره قدساً لقديسيك”؛ لأن ما يُستعلَن في الإفخارستيا هو جسد الرب، وليس حساباً عقلياً أو تحليلاً فلسفياً. ولم يكن أرسطو في العلية ليلة تأسيس السر لكي يحكم على العطية الإلهية بأنها حسب الجوهر، وشكلها عَرَضي. ولعل في عبارة الرب يسوع نفسه: “أنا هو خبز الحياة” (يو 6: 35، 48، 51)، و “الخبز الذي أنا عطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم” (يو 6: 51)، نقول لعل في هذه العبارة القول الفصل.
فلا ثنائية بين الخبز والخمر، وبين المسيح رب الحياة. وخبز الحياة هو يسوع، كما أن يسوع هو خبز الحياة، وعلينا أن نحذر الانقسام الفكري؛ لأنه يضعف محبتا للعطية الإلهية.
أرجو أن نتحرى الدقة التاريخية.
دكتور
جورج حبيب بباوي
([1]) استخدم القديس كيرلس الأورشليمي تعبير μεταβέβληται في العظة 23: 7 “لأن ما يقدسه الروح القدس حقاً يُقدَّس ويتحول”.
10 تعليقات
ألف شكر
أنا قرات المقالة مرة و سوف اقرأها تانى و تالت
يا دكتور جورج
الأستحالة سرية Mystical انا موافق و فاهم لأنها (1) غير مرئية و (2) إلهية
و لكن اجد أن التفسير الذى اصلة ارسطوطاليسى – و أنا فهمت أن حضرتك معترض على نشأة المفهوم من جهه و على تقسيم جسد المسيح إلى عرض و جوهر – مناسب فى شرح الإستحاله و لكن شكل الخبز و الخمر و طعمهما لا يتغير و لكن انا تشتتت هل تقصد أن مفهوم الكالوثيك بكلمة جوهر هو الشكل فالشكل لا يتغير إذا هم يقصدون مفعول التناول الروحى بسبب الإستحاله؟! هم يقولوا ما أراه ” تحت أعراض الخبز والخمر، الخبز تحول جوهرياً إلى جسد الرب والخمر إلى دمه بقوة الله” و هذا ما أدركة بعينى (1) الأعراض موجودة و (2) الإستحالة تامة
إذا لماذا نكتفى بالقول سرية؟
لا أفهم هذا الإقتباس
والإيمان بالتجسد لا يقبل أن يقع رب الحياة تحت هذا التقسيم الأرسطوطاليسي، فليس في المسيح جوهرٌ وعَرَض
و
لأجساد البشرية كلها مزيَّفة. فقد زيَّفها الموت، ودخلت عليها قوة الخطية، ولم يعد في التاريخ البشري جسداً حقيقياً إلَّا جسد يسوع
اتمنى أن تنقل المصطلحات اليونانى و تكتب بجواها أدق مقابلات أنجلش و نطق اليونانى بالأنجلش أقصد مثل ثيوطوكوس – برتومارتيروس
شكرا
آسف على اللعبكة الفكرية Chaotic Thought
الموضوع ابسط من كدا …ببساطة الرب امرنا قائﻻ: خذوا كلوا هذا هو جسدى ..خذوا اشربوا هذا هو دمى …واحنا بننفذ الامر بحب وايمان ..اما هذه المقارنات التاريخه ..ومجامع …واسماء .. وتواريخ فهذا يدخلنا فى متاهات ودوائر مغلقة ..جورج خضر بيقول ان ” الايمان اكتشاف شخصى”
وهذا ينطبق على ايماننا بما نأكله فى اﻻفخارستيا
Nadia my best friend,
There is the fire of love that does not allow us to be mentally lazy,
but to explore our history to learn how to discern deep truth.
George
خلفية مفهوم الاستحالة الجوهرية
يكمن افتراض خلف مفهوم التحول الجوهري (transubstanthiation )
مؤداه أن المسيح شخص يتم استدعاؤه – من قبل الكنيسة – في صورة الخبز والخمر ، ثم يتم التهامه بواسطة المؤمنين ، في ذات الصورة نفسها . ويترتب على هذا كشف عن مضمون كارثي ذي وجهين :
1- الوجه الأول هو ” آخرية المسيح ” بالنسبة للكنيسة ، أو قل الازدواجية بين المسيح والكنيسة ، أي أن المسيح صار كيانا مستقلا – ممثلا في الجسم الأسراري الظاهر على المائدة – يتم التعاطي ماديا معه من قبل المؤمنين الممارسين للإفخارستيا ، والذين هم كيان آخر مستقل يمثل الكنيسة.
2- الوجه الثاني هو انهيار ” رمزية الأكل الإفخارستي “، وبالتالي قتل للسر إذ قد اختزل الحدث في المضمون الساذج للأكل المادي ، واختزلت الشركة في مجرد شركة مادية تحققها عملية بيولوجية .
وأما صحيح الإيمان فهو أن المسيح شخص يستوعب الكنيسة في كيانه ( جسده ) ، وفيما تمارس الكنيسة إفخارستيتها فهي في الواقع تحقق وجودها الشخصي بظهورها كجسد للمسيح ، أي يتم ” مسحنتها ” ( إذا جاز التعبير ) بمعنى أن يتأسس لها وجود مستوعب بوجود شخص المسيح ذاته ، وأيضا بينما تمارس الكنيسة إفخارستيتها يحدث أن شخص المسيح يتعاظم ويتضخم ويتمدد ويمتلئ بانضمام أفراد الكنيسة كأعضاء جدد إلى كيانه . هكذا لا يوجد أي نوع من الازدواجية بين الكنيسة والمسيح، ولا وجود مستقل للكنيسة بدون المسيح ، ولا وجود مستقل لشخص المسيح ( الكامل ) بدون الكنيسة ، إذ بدون الكنيسة يظل كيان المسيح مجرد رأس هو الرب يسوع القائم من الموت .
وهكذا – أيضا – تمتلئ رمزية الأكل الإفخارستي ، إذ يتم شبع أعضاء الكنيسة باشتراكهم في الخبز الحي النازل من السماء . هكذا تأكل الكنيسة طعام الخلود بتكميلها لكيان المسيح رئيس الحياة ومصدرها .
المسيح شخص لا يتحول إلى عالمنا ثانية بل نتحول إليه ككنيسة تمثل كل أعضاء كيانه المنضمين إليه كرأس .
وقال لي صديق إن د. حنا الحضري أصدر دراسة عربية لتاريخ العقيدة، ولكني لم أطلع عليها.
أهه الروابط يا دكتور جورج هدية
http://www.islameyat.com/post_details.php?id=1867&cat=23&scat=30&
أعتقد أن أسلوبة مش هيعجبك فى مقدمة الدار للجزء الرابع و بعض ما قاله
الجزء الأول من العهد القديم حتى القرن الثالث
الجزء الثانى من ابوليناريوس حتى نسطور
الجزء الثالث يخص كيرلس السكندلرى
الجزء الرابع ما بعد خلقيدونية
لدى المجلدات الأربعة هدية كانت عند زوج أختى و أنا أستوليت عليها Hahaha
لكن انعدام الجانب التاريخي يؤدي إلى الوقوع في فراغ يسير فيه الكاتب بلا هدى معتمداً على الحس والمعرفة، وقد يكون هذا جيداً، ولكن فقدان الجانب التاريخي يجعل أي بحث بلا أساس حقيقي.
تعليق شخصى
هذا ما سوف أراعيه فى البحث اللاهوتى و سالجأ إلى تفسيرات الآباء لأنهم شهادة تاريخية أن العقيدة و الطقس المدافع عنها كانت موجودة و مؤكدة
إلى أن جاء عصر التحرر من السبي البابلي من كتابات المعاصرين لنا مثل Christos Yannaras – P. Nellas وغيرهما من الذين أعادوا تراث الآباء الشرقيين، وأصرُّوا على استعادة كتابات الآباء باسم الرؤيا الجديدة Neo – Patristic وهو تعبير عن الأبحاث المعاصرة لنا التي نُشِرت في الـ 50 سنة الأخيرة.
Androutsos
Christos Yannaras – P. Nellas
لا أعرف عنهم شىء إلا بعد ما عرفت اسمائهم هنا
هل يمكن لنا الحصول على النسخ الإنجليوية لم تمت ترجمته منهم بأى طريقة ليس للنشر على الويب
و هل اليونانيون خلقدينيون مثل الأرمن و الروم الأرثوذوكس؟ (للمعرفة فقط)
“إن طبيعة وجوهر الخبز والخمر تتغير؛ لأن إنكار هذا يعني أن جسد المسيح ودمه هو في العقل فقط كفكرة (وهو نفس تعليم الإنجيليين حتى الآن)”
سؤال
هل المقصود بهذا أنه ذكرى و أن يوحنا 6 لا يقبل حرفيا؟ يعنى البروتستانت علشان معرفتهم أن شكل Form و طعم Taste الخبز و الخمر لا تتغير يقولوا انه مجازى لا حرفى معتمدين على الحواس Senses
طبيعة وجوهر
هل يقصد ب الطبيعة أم الجوهر المواد المكونه للقربانه
ومع أن علماء اللاهوت تحفَّظوا على تعبير الاستحالة الجوهرية بعد ذلك، واكتفوا بالإشارة إلى تحول الخبز والخمر، لكن فلسفة أرسطو صارت أحد مكونات اللاهوت النظري Systematic
سؤال
هل تقصد هنا مكونات اللاهوت النظرى الكاثوليكى فقط أم الغربى بما فيه الإصلاح أيضا؟
أنا قرأت فى كتاب بروتستانتى مهاجم على الإفخارستيا أونلانين على النت أن الولد اللى كاتب بيهاجم النقطة دى عموما على فكرة الإستحالة الجوهرية
مفهوم الاستحالة الجوهرية يهدم استحقاق سر التجسد
في مشهد التأسيس الإفخارستي الشهير – عشية صلبه – يقول الرب لتلاميذه كلمات لا تأخذ من طرفنا العناية الكافية ، فعندما يقول : ” خذوا ” ، و” كلوا ” ، و” اشربوا ” فهو بأي حال من الأحوال لا يختزل كيانه في خبز وخمر، ولو كان الأمر اختزالا في شيء ظاهر لكان الأكثر منطقية وورودا أن يكون هذا الشيء جسده الظاهر بينهم ، وإذ ذاك كنا قد أصبحنا من أكلة لحوم البشر!
أيضا لا بختزل الرب المدعوين إلى وليمته في شخوص الأحد عشر تلميذا الذين تنالوا الخبز والخمر- بعد خروج يهوذا – وإلا يفقد السر مضمونه كأساس تحقيق وجود الكنيسة في كل الزمان والمكان ، وليس في تلك اللحظة تحديدا ، وفي ذلك المكان تحديدا .
وعليه يجدر القول بأنه لم يكن مشهد التأسيس الإفخارستي مجرد لحظة تاريخية في سياق معين مورس فيها طقس ما بحضور نخبة ما ، ولكنه كان كشفا لواقع سر التجسد ذاته من خلال صانع الوليمة ذاته الرب يسوع المسيح . فعندما يقول الرب لتلاميذه : “خذوا ، كلوا، هذا هو جسدي ” و” اشربوا هذا هو دمي ” و ” اصنعوا ( أثمروا = اصنعوا منتجا ) هذا لذكري “، فإنه كان يشير بلفظة الإشارة ( هذا ) إلى جسده الكامل الممتلئ بالكنيسة ، أي أنه كان يشير إلى حدث تحقق وجود الكنيسة كاستحقاق لامتداد سر التجسد فيها . فالكلمة بتجسده حينما اتخذ لذاته جسدا إنسانيا بالاتحاد الأقنومي بين الله والإنسان فإنه قد أله هذا الجسد واهبا إياه مجد الخلود ، وليس هذا فقط بل من خلال هذا التدبير صار هذا الجسد مصدرا ورأسا لخلود الجميع ( الكنيسة ) ، أي الشركة في الطبيعة الإلهية ، لسبب بسيط هو أن هذا الجسد هو ” جسد الكلمة الخاص وكل من يشترك بالعضوية فيه فإنه ينال بالنعمة مجد الشركة في حياة ووجود الكلمة ذاته.
إذن كان الرب يشير إلى جسد مترام وممتد في الزمان والمكان ، جسد مزمع أن يتكمل قي حركة إفخارستية هادرة تنطلق بعد كمال التدبير من صلب وقيامة وعنصرة .
في الإنسان يسوع أكلت الطبيعة البشرية وشبعت وصارت مصدر شبع الجميع بالطعام الباقي ، طعام الخلود ، وفي المشهد التأسيسي يطلق لهم البشرى : ” كما أكلت ، كلوا ، وكما شربت اشربوا ” و ” أنتم لن تستطيعوا فعل هذا إلا إذا انضممتم إلي وصرتم جسدا واحدا معي ، فأنا كرأس أحقق وجودكم كأعضاء ، فيتحقق كمال غاية سر تجسدي ، فيكم ” .
فتدبير التجسد لم ينته بمجرد صعود الرب ولا حتى بيوم العنصرة بل هو حدث ممتد يستهدف الكنيسة أينما (وحينما ) وجد فرد من أفرادها إلى أن يكتمل بناؤها كجسد للرب ، ويحدث هذا في حركة باطنية مستيكية يحققها الروح القدس يطلق عليها ” الإفخارستيا “.
لا يمكن لخبز وخمر في هذا العالم أن يتقدسا متحولين إلى كيان منعزل ومستقل للرب ليتم تناولهما ماديا ( بيولوجيا ) – من قبل افراد المؤسسة الكنسية الزمانيين المستقلين عن الرب – مما يترتب تلقائيا – لهذا التناول – الشركة والثبات الأبدي في جسد الرب . أما حقيقة الأمر فإن ما يحدث في الأنافورا ليس مجرد تقديس الخبز والخمر بل تقديس الكنيسة المدعوة ككيان للرب حينما تنطلق من واقعها المادي البيولوجي الذي لا يتحقق إلا بالأكل البيولوجي نحو وجود جديد روحاني في المسيح الذي قال عن نفسه أنه هو الطعام الباقي الخبز النازل من السماء .
لابد أن تنطلق الكنيسة من واقعها في هذا العالم ، واقع الخبز والخمر الماديين ، ولكنها لأنها تنطلق فهي بكل تأكيد مبارحة ومفارقة لنقطة انطلاقها لتستقر في مبتغاها المسيح الرب ، وعليه ينبغي لنا أن ندرك أن حركة التقديس ليست تستهدف مجرد الحلول والسكنى في الخبز والخمر بل تستهدف تحرر أصحاب الخبز والخمر ، أي الكنيسة ، من واقعهم المحتاج إلى التقديس والامتلاء ، ليتحرروا بشركتهم في حرية مجد أولاد الله المعطاة مستيكيا للمختارين كشركاء في الخبز الحي والطعام الباقي المسيح الرب .
الذي يتقدس حقيقة هو فعل الأكل ، وتقديسه يعني امتلاء رمزيته ، فالأصل الرمزي الذي تشير إليه طبيعتنا هو أن من يأكل لا يموت ، ولكننا في الواقع نأكل ونموت أيضا ، ولكن فقط في المسيح نأكل لنحيا إلى الأبد ، فهو المأكل الحق والمشرب الحق .
ماذا يعني إذن مفهوم الاستحالة الجوهرية ؟ في الواقع لا يعني إلا بقاء ” المقدس ” ( الخبز والخمر ) منعزلا عن البشر حتى ولوا تعاطوا معه بالأكل البيولوجي المادي ، لأن الأكل المادي لما هو مقدس لا يصنع شركة في قداسة المقدس بل في مادته الظاهرة ، وتبقى الفجوة اللانهائية بين المقدس ( كمقدس ) وبين من هو مفتقد للتقديس أي الإنسان . وإذا أردنا أن نرد الأمر إلى أصله وهو التجسد لوجدنا صورة مشوهة بطريقة مدهشة وهي صورة الكلمة المتجسد الذي يحل في الليتورجية الإفخارستية كرأس معزول تفصله عن الكنيسة فجوة لا يمكن عبورها ، فالاستحالة الجوهرية تصنع ” انقطاعية ” بين المسيح والكنيسة بإخراجها لفعل التجسد الممتد في الإفخارستيا من المعادلة.
إن ” السر “– بالتعريف – يعني أننا ننظر كما في مرآه ، ففيما يحل الروح القدس ليحول الخبز والخمر إلى جسد الرب ودمه فإن العطية الكبرى هي تحول وعي الكنيسة بظهورها في كيان المسيح ذاته ، كمكمل عضوي ينهي عزلته عنها كمجرد رأس محتمل لها فيتحقق بذلك سريان استحقاق سر التجسد إلى أن يتكمل بتكميل الكنيسة.
مفهوم الاستحالة الجوهرية ردة عن كهنوت المسيح
في حدث أبدي ، انطلقت ليتورجية التقدمة . وفي ذات الحدث تمت سيامة الرب رئيسا للكهنة جاعلا ذاته منبعا لحياة البشر. أما موضوع التقدمة فهو كيانه الإنساني الذي أظهر جدة الإنسانية المنتصرة على الموت . كيانه الإنساني هذا ، هو هكذا بفضل الاتحاد الأقنومي بين لاهوت الكلمة وناسوته منذ أول لحظة للتجسد . ظهر الكلمة بتجسده إنسانا كاملا منتصرا على الألم والموت ، ولكن على الصليب ، إذ اضطلع الرب بخدمة تقدمة ذاته وأعلن النصرة بالقيامة، فحينئذ قد دشن زمن استثمار تجسده ، في البشر .
لذلك نجد أن المعنى العملي التطبيقي لصيرورة الرب رئيسا للكهنة – عند الرسول بولس – هو صيرورته رأسا للكنيسة . فكهنوت المسيح يعني تجلي هبة الحياة التي نالها جسد الرب – بفضل كونه جسد الكلمة الخاص – في الكنيسة. ويكون معنى ذلك أيضا أن سيامته الكهنوتية تعني تدشين كيانه كحجر زاوية للكنيسة .
بالتجسد صار الابن إنسانا، وبموت الصليب المحيي صار الابن المتجسد بكرا بين إخوة كثيرين .
بالتجسد تكرست الحياة لجسد الكلمة الخاص ، وبكهنوت المسيح تكرست الحياة للذين يشتركون في جسد الكلمة الخاص ، بالنعمة . بالتجسد صار الابن الوحيد إنسانا كاملا ، وبتكميله كرئيس للكهنة – بقبوله الآلام والموت طائعا ومريدا- صار البشر مكملين فيه ، أي باشتراكهم في حياته ، ” فالذي وضع قليلا عن الملائكة ، يسوع، نراه مكللا بالمجد والكرامة، من أجل ألم الموت لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد. لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد ، أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام. لأن المقدس والمقدسين جميعهم من واحد، فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم إخوة، قائلا: ” أخبر باسمك إخوتي، وفي وسط الكنيسة أسبحك “( عب 2: 9- 12 ) .
لذلك فقد نجح كهنوت المسيح في ما قد فشل فيه الكهنوت العتيق . في الأخير لدينا كاهن معين يقدم خدمة مادية جسدية لأجل نفسه ولأجل مجموعة معينة من البشر ، هذا فضلا عن أنه مضطر أن يكرر ذات الخدمة مرارا ، وفي النهاية هو يمارس ظلا للحقيقة ، هو في ذاته طقسا ميتا غير قادر أن يهب الحياة.
المسيح الرب رئيس كهنة وليس مجرد كاهن ، فكهنوته هو كهنوت أبدي ، وأبدية كهنوته هي ما تجعله رئيسا للكهنة إذ أنه بتقدمة ذاته مرة واحدة قد جعل كل المعينين للخلاص يقدمون ذواتهم ، فيه ، فيشتركون في كهنوته جاعلا منهم كهنة تحت رئاسته الأبدية للكهنوت ، حتى أن وجود الكنيسة ذاته كبناء مؤسس على حجر زاوية رئاسته للكهنوت هو التعبير الأبدي عن مفهوم الكهنوت .
كانت ذبيحة العهد القديم ذبيحة ميتة، لم تكمل أحدا ، ولم تكن موضوعا لمسرة الله . كانت تقدم – في يأس – مرارا كثيرة دون جدوى ، لكن حينما اضطلع رئيس كهنة العهد الجديد بعمله الكهنوتي فقد قدم ذبيحة واحدة لمرة واحدة وإلى الأبد . وهو حينما أقام ليتورجيته هذه لم يقدم ذبيحة غيره بل قدم ذبيحة ذاته . وحينما تقدم كذبيحة محرقة فهو لم يتقدم ليهلك هلاك الموت بل قد اجتاز الموت منتصرا ومعلنا نصرته بالقيامة ، فهو ما كان له أن ” يمسك من الموت” بفضل الاتجاد الأقنومي بين إنسانيته ولاهوته. وهو حينما اجتاز موت البشر لم يكن بمثابة بديل عقابي عن البشر ، بل قد اجتاز موت البشر لحساب البشر. وهو حينما أصعد ذاته كتقدمة مقبولة لدى الآب وكموضوع لمسرته ، فهو قد دشن باكورة تقدمة الجميع فيه فيلتحقون بقربانه الواحد الحي إلى الأبد الكائن في رئيس الكهنة الواحد، الجالس عن يمين الله ،” فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع مرة واحدة.”( عب10: 10 )
وقد فشلت ذبائح الكهنوت العتيق في تكفير الخطايا ، فالقضية تخص طبيعة البشر الفاسدة التي لم يستطع غير رئيس كهنة العهد الجديد أن يشفيها من داء الموت . وهو حينما قدم ذاته كذبيحة – غالبا الموت ومكرسا ذاته كباكورة لحياة الجميع فيه – فهو قد جعل من ذاته كفارة لخطايا الجميع ، إذ فيه يتغطى عري موت الجميع ، بحياته .
بتجسد الكلمة قد اكتست وتغطت إنسانيته بمجد حياة الكلمة ، إذ هو الإله والإنسان بآن واحد ، وحينما سيم الرب رئيسا للكهنة على الخشبة ، واجتاز الموت منتصرا ، فقد وهب كسوة مجد الحياة للذين يشتركون فيه صائرا كفارة لخطايا الجميع .
وإذا كان تكفير الخطايا هو التسربل بمجد الحياة في المسيح رئيس الكهنة والكفارة بآن واحد ، فإن ” الخطية هي حالة التعري من شركة الألوهة ، التعري من شركة الروح ، تلك الحالة التي يتم الخلاص منها في المسيح يسوع .
لذلك فلم يستطع دم الذبائح الحيوانية القديمة أن يكفر خطايا الشعب لأنه دم ميت لا حياة فيه ، أما دم المسيح فلأنه دم ذلك الكائن في اتحاد أقنومي مع الكلمة فهو دم حي ومحيي إلى الأبد ، وحينما يعطى كشركة للذين ينضمون إلى ذبيحة رئيس كهنة العهد الجديد فهو يعطى لمغفرة ( تغطية ) الخطايا ، إذ بالشركة في المسيح رئيس الكهنة يتغطى عري ” موت ” الطبيعة البشرية بحياة المسيح التي تفيض عليهم في دمه المسفوك لأجلهم .
هذا هو حمل الله الذي بلا عيب ، الذي اجتاز موتنا وهو رب الحياة ، وحمل عارنا وهو رب المجد.
الحمل والكاهن والمذبح والسكين ، بل والنار أيضا ،اجتمع الكل في واحد . صار الكاهن ذبيحة ،فصارت الذبيحة حياة للجميع، فصار الجميع كهنة يستمدون كهنوتهم من رأسهم ، الذي جمعهم في قربان واحد هو ذاته. وبالقربان الواحد تستعلن إلى الأبد مسرة الآب ، إذ قد صار الجميع أبناءا له باشتراكهم في جسد ابنه ، رئيس الكهنة ” المسيح يسوع ربنا .
كيف لنا أن نتشح بالتقوى وبالتواضع من نحو هذه الليتورجية الكونية التي انطلقت منذ اكتمال تدبير التجسد ،أي بالصليب والقيامة والصعود ؟ ماذا يليق بنا ككنيسة من نحو هذا القداس الكوني الممتد منذ ظهور الرب في عالمنا وحتى كمال ظهور الكنيسة فيه بنهاية العالم ؟ أليست ليتورجيتنا وأنافورتنا في هذا العالم مجرد منطلق للتواصل مع الليتورجية الواحدة والقداس الواحد والمذبح الواحد والكاهن الواحد الذي هو ذاته رئيس الكهنة الذي أصعد ذاته كباكورة للتقدمة المقبولة ، تلك التفدمة المتبوعة بهدير متدفق من تقدمات أعضاء الكنيسة الصائرين فيه مجمعا للكهنة تحت رئاسته .
المسيح كرئيس للكهنة حاضر منذ ذلك الزمان وحتى نهاية الكون يصنع ليتورجيته الواحدة التي تجتذب الجميع .
والآن ماذا لو اختزلت القضية في أن كاهنا في عالمنا الآن يستطيع أن يستدعي الروح القدس ليقدس الخبز والخمر فيتحولا إلى جسد الرب ودمه في حدث منعزل تماما عن أفراد الكنيسة الذين ينحصر دورهم في مجرد التعامل المادي مع هذا المأكل والمشرب المقدسين ، فيتقدمون ليأكلوا وليشربوا بغية أن يتقدسوا ولينالوا مغفرة الخطايا تلقائيا بمجرد الأكل والشرب ، ألا يعد هذا نكوصا وردة إلى الكهنوت العتيق الذي أبطله الرب بتدبير تجسده وبذبيحة نفسه وبقيامته وصعوده ؟ ألم يكن جوهر الكهنوت العتيق هو مجرد التواصل المادي مع الذبائح الحيوانية لتكفير ومغفرة الخطايا ؟
إن المعضلة في مفهوم الاستحالة الجوهرية هي في فهم السر على أنه مجرد إيجاد جزيرة مقدسة منعزلة وسط بحر العالم المفتقد للقداسة ، مع تخيل إمكانية العبور التلقائي للمنتمين لهذا العالم نحو هذه الجزيرة المقدسة بالرغم من أن واقع الأمر هو أنه لا إمكانية لوجود جزر قداسة منعزلة هنا في العالم ، فالمقدس والمقدسون مرتحلون ومغادرون لعالمنا ، وحركة التقديس والقداسة صاعدة بالكنيسة في الروح القدس إلى حيث الابن المتجسد الجالس عن يمين الآب ، وليس الأمر بأي حال استقرارا للقداسة في عالمنا ، وعندما أطلق الرب البشرى لكنيسته المغتربة في هذا العالم قائلا : ” إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي و إلهكم ” ، فقد كان يرصد هذا الحدث الكهنوتي الكوني العملاق الممتد – في زمن حاضر مستمر – من إصعاده لباكورة هي ذاته – كرئيس للكهنة – مرورا بإصعاد جميع أعضاء الكنيسة وحتى اكتمال إصعاد الجميع . هذه هي الليتورجية والأنافورا الحقيقية الواحدة التي يبتغي المسيحيون الانضمام إليها حينما ينطلقون من مختلف الزمان والمكان وفي كنائسهم المختلفة وفي تشرذمهم وفي غربتهم ، فيتواصلون مع حدث واحد ينطلق من رئيس الكهنة الوحيد الذي يصعد قي ذاته كنيسة واحدة .
الاستحالة الجوهرية كثقافة أسرارية
يخطئ من يظن أن الاستحالة الجوهرية – لمن يعتقد بها – مجرد مفهوم يخص الإفخارستيا فقط فهي مفهوم يعبر عن موقف ورؤية ثقافية حيال كل الأسرار السبعة ، إذ تفترض هذه الثقافة أن السر الكنسي هو مجرد طقس التجسيد المادي للقداسة والمقدس ، ففي السر الكنسي – وفقا لأصحاب الاستحالة الجوهرية – يتم اقتناص القداسة وتسكينها وأسرها في المادي الظاهر بدلا من تحرير الإنسان من عبودية المادي الظاهري إلى حرية الروحاني الباطني . وفقا لهؤلاء يحل الروح القدس في علامة ظاهرة لينتهي الأمر بمجرد تعامل أفراد الكنيسة ظاهريا أيضا مع هذه العلامة وكأن القداسة تنتقل ميكانيكيا من الروح القدس الحال والساكن في العلامة إلى أفراد الكنيسة الممارسين للطقس الأسراري .
الاستحالة الجوهرية ثقافة يمكن رصد أصداءها بخصوص الستة أسرار الأخرى ، كالاتي :
1- بخصوص المعمودية يعتقد أصحاب الاستحالة الجوهرية بأنه بمجرد التغطيس في ماء المعمودية المقدس فإن حدثا دراماتيكيا تلقائيا يتم للشخص الذي تم تعميده وهو ولادته من فوق وصيرورته ابنا لله ، خليقة جديدة تصطبغ بصبغة المسيح ، ولكن تحدث الصدمة إذ أننا أمام نص للرسول يوحنا في رسالته الأولى يفيد بأن ” المولود من الله لا يفعل الخطية ، ولا يستطيع أن يخطئ ” ، بينما كل الذين اعتمدوا يستطيعون أن يخطئوا ، فيحدث التحايل بالقول بأن ” التوبة معمودية ثانية ” على أساس أن المعمودية لا تعاد مرة ثانية . وفيما يحاول هؤلاء تبرير جهلهم بهذه الطريقة فهم يرتكبون جرما بإقرارهم بأن معمودية المسيح يمكن إجهاضها . نسى هولاء أو تناسوا أن معمودية المسيح هي حدث الشركة في بنوة الابن المتجسد بالنعمة أي التبني وهي حدث يستوعب زمن غربتنا في هذا العالم ، حدث يتم تراكميا ، أجنة تتشكل وتتصور يوما بعد يوم بقدر ما يتصور المسيح فينا ، فنحن أعضاؤه ، وحينما تكتمل خلقتنا نولد للحياة الأبدية فيكون المسيح فينا بكرا بين إخوة كثيرين .
أما إتمام” طقس ” المعمودية فيكرس ويحقق “ الدعوة “، و” الإمكانية “( بقوة الروح القدس ) ، للولادة من فوق ، دعوة التبني. والدعوة أمر يحتمل الرفض بنفس القدر الذي يحتمل القبول ، وكل الذين يقبلون الدعوة يعطيهم الروح سلطانا أن يصيروا أبناء الله بالشركة في ابنه المتجسد .
فقط في المسيح ، في الملكوت ، في حياة الدهر الآتي ، تظهر الكنيسة وقد امتلأت فيها رمزبة طقس التغطيس في جرن المعمودية بالشركة في موت الرب وقيامته ، فيستعلن فيها سر المسيح ليظهر كل أعضاؤها وقد اصطبغوا بصبغة رأس وجودهم الجديد الرب يسوع المسيح .
2- بخصوص المسحة يعتقد أصحاب الاستحالة الجوهرية بأنه بمجرد دهان الجسم بزيت الميرون زيت المسحة فإن الفرد الإنساني يصير هيكلا للروح القدس فيصير وجوده ثايتا بفضل المسحة والختم الذي للروح . للأسف نفس التوجه البائس والسعي المستميت من أجل حصار القداسة والمقدس في جزر منعزلة ، وقد نسى هؤلاء أو تناسوا أو عن جهل لم يدركوا أنه لا مسحة في عزلة ولا عزلة في المسحة ، فالممسوح والممسوحين جميعهم من واحد لأن ” المقدس والمقدسين جميعهم من واحد “( عب2 : 11 ) وما يوم العنصرة – حينما كان الجميع مجتمعين بنفس واحدة – إلا برهان حاسم أمام عيني كل ذي بصر وبصيرة.
شخص المسيح ، الذي هو الممسوح الأعظم ، هو وطن المسحة وكل من استوطنه مسح بفضل فيض المسحة المنساب من رأس الجسد إلى جميع الأعضاء . وسر المسحة لايكشف عن مسحة فردية او تقوى فردية أو قداسة فردية بل يظهر هيكلا واحدا للرب مسحت كل لبناته بالروح المنسكب من حجر الزاوية الرب يسوع . وفقط في المسيح ، في الملكوت تظهر الكنيسة مقدسة ممسوحة هيكلا واحدا هو جسد الكلمة المستوعب للكنيسة والذي يسكنه إلى الأبد الروح القدس . وفقط في المسيح يثبت وجود الجميع كخليقة جديدة ، هيكلا أبديا راسخا مبنيا على صخرة هي الكلمة المتجسد الرب يسوع المسيح . 3- وبخصوص سر التوبة يتجلى الوجه الآخر لثقافة أصحاب الاستحالة الجوهرية، فلأنهم يتبنون التجسيد المادي للقداسة والمقدس في جزر منعزلة فهم يتبنون ذات النظرة الاختزالية من ناحية مفهوم الخطية ، فهي عندهم مجرد سلوك بشري مرفوض دينيا ( على خلفية ناموسية عتيقة ) وعليه قمجرد الندم واعتزام العودة عن الخطية والإقرار بها أمام الكاهن ، يعني أن صكا بالحل والتبرئة والمغفرة قد صار حقا متاحا . ولم يدرك هؤلاء – عن جهل – أن الخطية ليست مجرد سلوك بشري ينبغي العودة عنه بل هي حالة عزلة الطبيعة البشرية عن الشركة في الطبيعة الإلهية الأمر المؤدي للهلاك الأبدي ، ومن ثم فإن ماينبغي العودة عنه هو هذه الحالة ، وما ينبغي العودة إليه هو النموذج الأول الذي جبل الإنسان ليكون إياه أي المسيح . وفقط في الملكوت ، في المسيح يبدو الجميع وقد أدركوا وفهموا واعترفوا انهم كانوا في العالم في هذه الطبيعة الفاسدة المحكوم عليه بالموت وقد عادوا إلى النموذج الأصلي المسيح الرب ذلك الذي حينما تسربلوا به فإن عري طبيعتهم قد تغطى ، وهم حينما لبسوا المسيح فقد لبسوا شخصا هو الكفارة الحقيقية فنالوا مغفرة الخطايا .
4- وبخصوص سر الشفاء فإن نفس توجه الاختزالية المقيتة يتم تبنيه ، فكما يتم اختزال مفهوم الخطية في السلوك المرفوض ( ناموسيا ) فإته يتم اختزال الوجود الإنساني – بصفة عامة – في صيغة الوجود في هذا العالم ، ولما كان هذا الوجود مهددا دائما بالموت لاسيما بسبب المرض فإن مطلبا ملحا للتدخل المقدس لدرء خطر الموت والوقاية منه بطلب الشفاء من خلال زيت مسحة المرضى ، فيبدو الأمر كما لو أن مجرد الدهان بزيت القنديل ، المقدس كافيا لدفع الموت والوقاية منه بواسطة نوال الشفاء من العلة التي تلوح به . ولم يدرك أصحاب ثقافة الاستحالة الجوهرية – عن جهل – أن المرض الذي يعتور الطبيعة الإنسانية هو داء الموت نفسه ، فالإنسان فان وفاسد بالطبيعة ولا معنى ولا جدوى من مجرد التماس الشفاء لجسد هذا العالم، فهذا لايدفع حكم الموت الأبدي ، ولكن فقط في المسيح أي بالكينونة والعضوية فيه ، في الملكوت، تبدو الكنيسة متعافية وقد نال أعضاؤها الشفاء من داء الموت بالشركة في حياة الكلمة ذاته ،كأعضاء في جسده الخاص الذي اتخذه بالتجسد. من خلال هذا السياق فقط يحدث شفاء الطبيعة البشرية من داء الموت بل و الوقاية الأبدية منه ، فالوجود في المسيح هو سر الشفاء .
5- وبخصوص سر الكهنوت فأسوء ماتفضي إليه الاختزالية التي تكرسها ثقافة الاستحالة الجوهرية هو اختزال سر المسيح في ما يعرف بالسلطان الكهنوتي أو سلطان الحل والربط فتم اقتطاع المشهد الكهنوتي من جذره الذي هو الرب يسوع المسيح رئيس الكهنة الأعظم والأصل الوحيد لما يمكن أن يعتبر كهنوتا . لم يدرك أصحاب هذه الثقافة أن الرب يسوع الكلمة المتجسد حينما أتم التدبير بالصليب والقيامة والصعود فقد دشن من نفسه -كباكورة تقدمة البشر – رأسا ومصدرا وسببا لتقدمة الجميع الكهنوتية ، فهو كرئيس كهنة وله مايفدمه وهو ذبيحة نفسه ففيما هو متم لذلك فقد أعطى الذين يتحدون به أن يشتركوا في كهنوته صائرين كهنة تحت رئاسته مقدمين ذبائح أنفسهم كتقدمات مقبولة بالشركة في موته وقيامته ، وبالتالي بالصعود معه وفيه إلى يمين الآب . هكذا فقط في الملكوت الآتي تعتلن الكنيسة امتلاء سر الكهنوت ، سر المسيح .
6- أما بخصوص سر الزيجة فتبلغ المأساة ذروتها ، إذ لم تقتصر مغبة الاختزالية المقيتة التي تكرسها الاستحالة الجوهرية على تفريغ السر من مضمونه بل أتاحت مناخا مواتيا لظهور كوارث ومشاكل اجتماعية مدمرة . فحينما يعتقد أصحاب هذه الثقافة بأن سر الزيجة هو مجرد شرعنة العلاقة بين رجل وامراة وبأنه بمجرد حضور رجل وامرأة طقس الإكليل المقدس ورشمهما بالزيت المقدس فإن ذلك يضمن صيرورتهما جسدا واحدا وما جمعه الله لا يفرقه إنسان ، حينما يعتقدون بهذا فهم يدشنون علاقة زوجية غير قابلة للحل لنجد أنفسنا أمام حالات إنسانية يصل فيها الصراع وعدم الرغبة في مواصلة رحلة الزواج إلى إمكانية أن يقتل أحدمهما الآخر ، فهل هذا هو ما قد جمعه الله ؟
يحدث هذا بالرغم من أن الزيجة هي السر الوحيد – ضمن الأسرار السبعة – الذي يوجد بخصوصه نص كتابي واضح وصريح يدرء عنه هذه الاختزالية المقيتة صانعا تمييزا واضحا بين العلامة الظاهرة للسر – التي لاينبغي التماهي معها كأفق ومبتغى للسر – وبين جوهر السر الذي هو المسيح ذاته ، وعلاقته بالكنيسة ، فيرفع علاقة الحب الزيجي إلى حيث االعمق والملء ، فحينما يتحدث الرسول بولس عن علاقة الزواج التي نخبرها نجده يختطفنا في لحظة مباغتة إلى عمق السر قائلا :” هذا السر عظيم ، ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة ” ( أف5: 32) .
فقط في المسيح ، في الملكوت ، يتجلى سر الزيجة ، إذ تعرب الكنيسة عن شبقها المعرفي الأبدي نحو الآب بالشركة في ابنه المتجسد يسوع المسيح في الروح القدس . الكنيسة آنذاك عروس رائعة الجمال تتقبل في رضا عطية الخلقة الجديدة من عريسها ورأسها الرب يسوع المسيح ، مستعلنة إلى الأبد ملء سر الزيجة ، سر المسيح .
الاستحالة الجوهرية والحلقة المفقودة
لي دراسة على هذا الموقع بعنوان ” الجوهر الواحد للأسرار السبعة ” ، بتاريخ ( 23- 11- 2011 ) ، وما أردت أن أصل إليه في هذا الطرح هو أن للأسرار السبعة جوهر واحد هو شخص المسيح الرب المستوعب لكنيسته في كيانه ، فالسر الكنسي هو سر المسيح أي سر ظهور الكنيسة في المسيح في حياة الدهر الآتي ، وسر المسيح سر واحد وبولوجه يصير الجميع واحدا في جسد الرب الواحد . فالسر بطبيعته – وبالتعريف- يوحد المتشرذمين ويجبر المفتتين إلى واحد ، والغريب أنه بدلا من هذه النظرة للأسرار كموحدة للكنيسة فإننا نجد من يجاهد لاهثا ومستميتا في سبيل تفتيت الأسرار نفسها واختزالها في موضوعات طقسية مختلفة ومتنوعة تتم في مناسبات ليتورجية متنوعة بدون وجود رابط عضوي بينها .
ولأن السر الكنسي هو سر المسيح فهو سر كامل ، فالأمر أشبه بالأواني المستطرقة التي درسناها قي الطفولة ، بمعنى أن امتلاء سر ما من الأسرار السبعة يعني امتلاء باقي الأسرار، فمثلا لا ولادة من فوق ( بالمعمودية ) أي التبني إلا لأولئك الذين صارت لهم شركة إفخارستية في جسد الرب أي شركاء في جسد الابن ، أي التبني أيضا . ولا امتلاء بالروح القدس كهيكل لله ، أي المسحة ،إلا لأولئك الذين صاروا أعضاء في جسد الرب الذي هو هيكل الله الواحد الجامع للكل ، أي إذا صاروا إفخارستيين . وهكذا نستطيع أن نفهم أن استعلان امتلاء سر ما هو استعلان لامتلاء كل الأسرار لأن أي سر لا يستعلن إلا جوهرا واحدا هو المسيح وكنيسته الكائنة فيه . ونستطيع في عبارة مكثفة أن نقول بأن ما يليق بالأسرار هو أن امتلاء أي من الأسرار هو امتلاء لكل الاسرار لأن الكل ، المسيح الرب ، هو جوهر كل سر من الأسرار ، وبعبارة أكثر تكثيفا وأكثر إلهاما نقول بأن امتلاء الواحد يعني امتلاء الكل لأن الكل هو جوهر كل واحد .
وعليه نقول بأن الجوهر الواحد للأسرار ، المسيح الرب ، هو الحلقة المفقودة في الفكر الأسراري ، الأمر الذي يفرغ السر من مضمونه مما يكرس ثقافة الاستحالة الجوهرية من خلال ثلاث خطوات متصلة :
1- العزل التاريخي لشخص المسيح
تنبع إشكالية الاستحالة الجوهرية من نبع آسن بائس وهو تصور أن المسيح مجرد شخصية تاريخية فهو – وفقا لهذا التصور – شخص الرب يسوع التاريخي ، الكلمة المتجسد الذي أكمل تدبير الخلاص بالصليب والقيامة والصعود لينتهي هنا حدث التجسد ليصبح مجرد حدث تاريخي ترصده الأناجيل وليترك هذا الشخص التاريخي لكنيسته تراثا معرفيا لاهوتيا روحيا رائعا في غيبة تامة للوعي بأي رابط او علاقة عضوية بين الشخص ( المسيح ) وبين أفراد الكنيسة المتشرذمين .
2- مأسسة الكنيسة
العزل التاريخي للمسيح لا يثمر إلا العزل المؤسسي للكنيسة . يختزل مفهوم الكنيسة في مؤسسة ذات هيراركية معينة لطبقة الإكليروس تلك الطبقة التي لا يسبح في مياهها إلا مايعرف بالسلطان الكهنوتي .
وأما هذه الانقطاعية ( discontinuity ( أو هذه الفجوة بين المسيح والكنيسة والمنتهية بمأسسة الكنيسة فتعكس مفهوما بائسا للكنيسة . فكنيسة لا ترى ذاتها إلا مجرد مؤسسة زمنية في هذا العالم قد أضاعت مالم تره عين من مجد هو مجد المسيح ذاته . فالمسيح ليس مجرد شخص تاريخي بل هو الشخص الذي ظهر في لحظة من لحظات التاريخ ليفترش كل التاريخ ، فلم ينته حدث التجسد بمجرد صعود الرب بل مايزال استحقاق تدبير التجسد ساريا في الكون حتى نهايته . مايزال كيان المسيح الرب يتضخم باستيعاب أعضاء جسده الذين هم في ذات الوقت محسوبون على الكنيسة ، وفيما يمتلئ كيان المسيح الآن بأعضاء جسده فإن تحقق وجود الكنيسة يكون أكثر اقترابا من كماله ، فاكتمال كيان المسيح هو اكتمال الكنيسة ، وامتلاء سر المسيح هو التجلي الكامل للكنيسة .
3- طقسنة الأسرار ( ritualisation )
ماذا تبقى لكنيسة عزلت مسيحها في التاريخ وعزلت نفسها في المؤسسة الزمنية ؟ ماذا تبقى لكنيسة فصلت رأسها عن جسدها ؟
الواقع يؤكد أنه لا يوجد شيء سوى تبني ثقافة الاستحالة الجوهرية التي تقتنص المقدس وتحاصر القداسة وتختزل المنظومة المعرفية الإنجيلية في جزر طقسية منعزلة ومتشرذمة ومشتتة في الزمان والمكان .
حقا يتم استدعاء الروح القدس في الليتورجية الأسرارية ولكن ليست الغاية هي حصا ر الروح في الزمان والمكان وإخضاعه لمنفعة أبناء هذا الزمان والمكان ، فقد غاب عن أصحاب هذه الثقافة أن الروح القدس قد هب منطلقا من لحظة تاريخية معينة هي يوم الخمسين وما يزال هبوبه مدويا في مسار يستوعب الكون كله ، فيه يحقق وجود الكنيسة ، فيه يصور المسيح في المختارين لتكميل كيان المسيح . قد غاب عنهم أن الكنيسة ، بني العلي ، تأتي الآن في ابن الإنسان الآتي في سحاب السماء الذي هوالروح القدس .
طقسنة السر الكنسي باختزاله في مجرد طقس ليتورجي مع إحداث التماهي بين جوهر السر وعلامته هي الثمرة المرة والسامة في نفس الوقت التي نبتت في تربة ثقافة الاستحالة الجوهرية ، والمفعول السام لهذه الثمرة هو تفريغ السر من جوهره الذي هو المسيح المستوعب لكنيسته ، والذي هو الكنيسة المالئة لمسيحها .
اولآ :نشكر الدكتور جورج علي إذابته للجليد وتحريك الكثير من العقول والقلوب نحو الاهتمام بهذه الدراسات .— ثانيآ : نشكر الأخ مجدي داود ونرجو منه بأن يشير علينا بالمراجع التي يأخذ عنها والتي يبدو عليها شامية اللفظ والمصطلح….