استعادة الوعي الأرثوذكسي بالسرائر، صارت ضرورة قصوى
كتب أحد آباء الإسقيط رسالة شخصية يقول فيها:
“رجاء يا دكتور جورج عدم الاستسلام للتعبيرات الشاذة عن ما هو أمامنا وما يدخل في أسماعنا وقد لا نفهمه بل نؤمن به فنفرح وتتغذى أرواحنا. جسد المسيح ودمه الأقدسين يؤكلان بالإيمان بل ويدخلان -حسب أبونا متى المسكين- لا في بطننا الجسدي، بل في بطننا الروحي، ولا شأن لعقلنا في هذه اللحظات الخارجة عن أدوات ووسائط العالم الأرضي.
فكلمة “استحالة” لم ترد في أي صلاة ليتورجية، ليس عن جهل، بل عن اكتفاء بصلاة “انقلهما”، وهي صلاة موجَّهة لله ليحقق وعده (في إنجيل يوحنا 6)، وليس لعقولنا لنفهم “كيف؟”، فلم يرد المسيح على سؤال اليهود: “كيف” يعطينا هذا جسده لنأكله؟ وكذلك “اجعلهما” هي صلاة تعبِّر عن عمل الله الذي نؤمن به وننتظره، فتصير لنا حياة أبدية في المسيح؛ إذا أكلنا جسده وشربنا دمه الأقدسين. أمَّا الاستحالة والتحول، فهما ينفعان في علم الكيمياء الذي كنا ندرسه في المدرسة الثانوية، وكنا ننذهل من “تحول” و”استحالة” الحامض إلى شيء آخر إذا أُضيف اليه قلوي! ولكن ذلك لم يكن يحرك شيئاً في حياتنا ومصيرنا الأبدي” أهـ.
والأب الراهب الفاضل على حق فيما ذكر، لا سيما وأن كلمة “الاستحالة” لم ترد في أي صلاة ليتورجية، وكما قال -ليس عن جهل- بل اكتفاءً بصلاة “انقلهما”، وهي صلاة موجهة لله.
طبعاً، استعمال أي كلمة في التعبير عن “سر المسيح” لا يخلو من مجازفة. ولكن في مواجهة التعليم الغربي القائل بالاستحالة الجوهرية، كان من الضروري تحويل الوعي إلى الجانب السري. وصياغة “الاستحالة السرية” هي جانب دفاعي شُرِح بما ذكره القديس كيرلس الأورشليمي أن باستدعاء الروح القدس “يصبح” الخبز والخمر جسد ودم المسيح (عظة 3: 21).
والكلمات اليونانية التي ذكرناها في المقال الأول تصب في اتجاه واحد، وهو الوعي الجديد بالسرائر، ولكن لدينا قضية كبرى أكبر مما ذُكر في المقالتين، ويا ليت الأب الراهب الأسقيطي يسهم ولو بمقال واحد في دفع الوعي الذي تجمد وفقد الرؤيا اللاهوتية التي تغرسها الليتورجيات، بتمسُّكه بتعليم العصر الوسيط، ونقله دون تمييز أو تدقيق، الكثير من كتب الكاثوليك والانجيليين مثل عقيدة الفداء والكفارة في المقام الأول – صفات الله الأدبية – الاستحالة الجوهرية – رئاسة البابا لكنيسة جسد المسيح (استبعاد الرأس الحقيقي ربنا يسوع المسيح)، بل والاستغراق الشديد في تمجيد القديسة مريم والدة الإله في مدائح تحمل كلمات فرعونية – إسلامية مثل “يوم نصب الميزان” وغيرها، وهو ما لا مجال له هنا، فما هي القضية الكبرى التي أشير إليها هنا:
1- استرداد المصطلحات الكنسية اللاهوتية من الليتورجية ومن الآباء.
2- فتح باب الحوار على مصراعيه، ويكفي أننا لا نستطيع الحوار أو حتى الإشارة إلى حقائق الايمان دون أن تضربنا آلة الإعلام الكنسي بكل ما في الإعلام من حيل وأكاذيب وألفاظ يعف عنها اللسان والقلم، تكشف عن الانتماء الحقيقي للذين يكتبون؛ لأنهم يقلدون القنوات الفضائية التي تظن أن إثارة الجماهير هي الحل لأي قضية، أو اجابة مطلوبة على أي سؤال.
3- استرداد الوعي بدخولنا في شركة حقيقية كيانية مستعلَنة في الابن من الآب وتُعطى بالروح القدس، وهي التي تعبِّر عنها بداية القداس الإلهي: “مجداً وإكراماً للثالوث القدوس”، لكي يرتل الشعب بعدها تمجيد الآب، بعد نداء الشماس “واحد هو الآب القدوس .. الابن القدوس – الروح القدس القدوس، ولاحظ: (يا جميع الأمم سبحوا الرب)؛ لأن هذه الكلمات بالذات كانت تمثل انتصار الله على آلهة الشعوب، لذلك (ولتباركه كافة الشعوب)؛ لأنه يستعلَن بقوة. ولعله حان الوقت لأن ندرك ونفهم أن استخدام مقاطع من سفر المزامير في صلواتنا، لها أصل تاريخي وطقسي سابق على المسيحية، وكان دائماً يرتل في أناشيد الأعياد والمناسبات الطقسية؛ لأنه استعلان قوة ومجد الله.
الوعي والكلمات المناسبة:
الوعي تحركه الكلمات، ويتطور الوعي نامياً إلى أعلى أو ينحدر إلى أسفل بسبب الكلمات والمحتويات التي تدخل في تكوين الرؤيا العقلية الواعية. وعلى سبيل المثال عندما يقول أحدهم إن “الغفران مدفوع الثمن”، فالوعي هنا ينتقل إلى عالم التجارة والمعاملة بالمثل، بل يغيب تماماً عن الوعي كل إدراك إيجابي عن النعمة؛ لأن النعمة عطية بلا مقابل، وتُعطى لعدم الاستحقاق، ولذلك ينحدر الوعي والإدراك إلى الابتعاد تماماً عن الثالوث، وهكذا يدخل الوعي في دائرة الانحطاط الروحي. تماماً مثل فكرة أن دم المسيح دُفِعَ ثمناً لخطايا الإنسان. بل عندما يقول آخر ويكتب إن خطايانا هي سبب صلب الرب، فإن هذا القول إنما ينزع الجانب الالهي، وهو حرية البذل؛ لأن الرب صُلب بسبب محبته أولاً لا بسبب خطايانا. ومحبته هي التي جعلته يقدم ذاته، فالدافع هو المحبة وليس خطية الإنسان، وهو ما شرحه القديس أثناسيوس في تجسد الكلمة (فصول 4-6).
وطبعاً، الاستحالة الجوهرية، دخلت الصلوات القبطية الارثوذكسية في الطبعة الإنجليزية الأولى للقداس الذي قام بها نيافة الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف، ثم في إضافة نداء الشماس نقلاً عن الكنيسة القبطية الكاثوليكية: “بتحول هذا الخبز إلى جسدك المقدس يا رب نؤمن”. وعندما انتهرت شماساً -صدقوني بوداعة، اعترض الأب الكاهن وغضب الأخ الشماس، وكان الخولاجي المقدس في يديَّ، وقلت له: كيف تضيف عبارات ليست موجودة في الخولاجي؟ وطبعاً لم أسمع إجابة .. فقد صارت لدينا جسارة على العبث بالصلوات لأسباب وأجندة شخصية.
الكلمات تنقلنا إلى ما هو أعظم، إذا كان لدينا الوعي بأن “النقل” يتم في سر المعمودية، وفي طلب خادم السر بأن يكون من ينال سر المعمودية “ذبيحة مقبولة على المذبح الناطق السمائي بواسطة خدمة الملائكة”، وهو النص الذي ورد أصلاً في أوشية القرابين، وهو استجابة لطلب رسول المسيح: “قدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله خدمتكم (عبادتكم) العقلية”، مؤكِّداً بعد ذلك أن المقصود بالذبح هو “لا تشاكلوا هذا الدهر”، بل “تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة” (رو 12: 1-2).
لدينا مقال واحد يتيم عن تجلي الجسد بالروح القدس للأب صفرونيوس، ترجمه العالم العظيم الأنبا مكسيموس بالاشتراك معي، واندهشنا من عمق الوعي. وأعاد المقال ما ورد في رسائل القديس أنطونيوس الكبير عن توبة الجسد والروح معاً. فلا زال الجسد تحت حصار الشريعة الموسوية، ولم يدخل عدد غفير منا، أي من أبناء الكنيسة، نعمة العهد الجديد بسبب التعليم الذي يصاغ في فتاوى عن طهارة الجسد وطمث المرأة، وغيرها.
بدء الوعي المستيكي:
ولأن راهب الأسقيط أشار إلى الأب متى المسكين، فتلك مناسبة لنشير إلى أن آخر لقاء كان لنا معاً في عام 1988 وكان لديَّ سؤالٌ عن خبرته طوال هذه السنوات. وتم تسجيل الحديث على وعد بالحصول على نسخة منه، ولكن تعذَّر ذلك.
كان حديثاً مؤلماً له ولي؛ لأنه تعرَّض فيما ذكر لكيف حلَّت الطقوس محل العقيدة والإيمان، فصار إتمام الطقس أهم من الإيمان، وفصل الطقس عن استعلان عمل الروح القدس، إذ انحصر الاهتمام فيما يجب أن يقوم به خادم السرائر، وما يجب أن يقوله الشعب، دون أن يفهم أيهما الترتيب اللاهوتي الذي يسلِّمه الطقس.
ولعل شرح العصر الوسيط لعدد خبزات القربان، ولماذا هي 3 – 5 – 7 – 12 يكشف عن انهيار الجانب اللاهوتي. فقد استغرق هذا الشرح في تفاصيل ردها إلى الثالوث، أو إلى ذبائح العهد القديم للأبرار من البطاركة، أو إلى آخر ذلك المتداول في هذا الخصوص. ولكن الترتيب اللاهوتي يقول عكس ذلك؛ لأن كل ما حدث قديماً لم يكن هو السر، ولذلك، الاختيار هو خبزة واحدة أي قربانة واحدة، ويتم رشم باقي ما يقدَّم بالخمر، وبعلامة الصليب، تأكيداً على أن ما حدث قديماً هو ظلال الحقيقة التي استُعلِنَت في المسيح، في “الحمل الواحد” الذي يظل مخفياً حتى يأتي الرب ويكونه على المذبح عندما تُرفع اللفائف كلها عندما يقول الكاهن: “ووضع لنا هذا السر العظيم الذي للتقوى”.
أكتُبُ بكل صدق وأمانة، فقد حدث عندما كنت أحمل معي كتاب “منارة الأقداس”، وكتب أخرى عن الطقوس، أن نظر إليَّ القمص مينا المتوحد، وقال لي: “بلاش يابني الكتب اللي هتخليك أعمى”.
لذلك، ولغيره، فقد طلبت في خطاب شخصي من قداسة البابا تواضروس الثاني أن يفتح باب الحوار على صفحات مجلة الكرازة، ولو مرة كل شهر، وأن تسمح المجلة بنشر ما هو جيد ومطلوب. فقد كان ضرورياً أن تنشر الكرازة مقال الرد على أستاذنا د. موريس تواضروس، ولكني من “المطاريد” الذين لا يُسمح لهم بنشر مقال، حتى وإن كان رداً على ما يتعارض مع التقوى الأرثوذكسية، حتى وإن كان أحد الآباء الأساقفة قد أعطاني لقب “المعترف” بسبب اضطهادي من بعض الإكليروس من أجل الأرثوذكسية، ولكنني أحجمت عن استخدام اللقب حتى لا تثور الزوابع.
لقد كان انعدام الحوار هو سبب محاكمتي غيابياً، وكنت قد طلبت محاكمة علنية في وجود مطران دمياط، لعله يذوق طعم الأرثوذكسية الحقيقية بدلاً من سم العصر الوسيط، ولكنه كان يعرف ما الذي كان سوف يحدث له ولغيره، ليس لأنني قوي، ولكن لأن عشرين قرناً من التاريخ تشهد بما أقول، وبما هو مدوَّن ونُشِرَ، ولم يكن في أي يوم من الأيام رأياً شخصياً لي، ولذلك رفضوا علنية المحاكمة.
قال الأب متى المسكين أيضاً إن مطاردة النعمة باسم الناموس قديمة جداً، وهي أحد أسباب ضعف الحياة الروحية عندنا.
فالناموس أو الشريعة ترد الوعي إلى الممارسة، أي إلى ما يجب أن يفعله الإنسان، لا إلى ما يجب أن “يقبله” أو يأخذه. فالشريعة أو الناموس لا تعترف بالنعمة؛ لأن الناموس يحاكِم ويفرز الشر، بينما النعمة تبرر – هل يذكر القراء الهجوم العنيف على الأب متى المسكين بخصوص موضوع التبرير، ذلك الهجوم الذي نُشر في كتاب “بدع حديثة”؟ إن تكرار ما نشر عن هذا الموضوع عيبٌ يرفضه العقل والقلم معاً.
لكن ما سُلِّم إلينا بواسطة الشيوخ الذين كان لهم أكبر فضل في تعليمي، هو أن الوعي بالسرائر يبدأ بالصلاة –تماماً كما ذكر الأب الراهب. والصلاة ليست كلمات، بل هي انفتاح القلب والفهم على ما يحركه الروح القدس.
هل كان غريباً أن تهاجَم كتب العنصرة، والباركليت في حياة الناس؟
لم يكن ذلك غريباً؛ لأن منهج العصر الوسيط العقلي لا يعترف ولا يعطي للروح القدس مكانه الحقيقي في فعل الاستنارة، “ونقل” الكيان الانساني جسداً وروحاً إلى “الشكل المحيي” الجديد في الخلقة الجديدة.
هل كان غريباً أن يشن البعض هجوماً -يعرفه بعض رهبان دير القديس الأنبا مقار- على كتاب “الخلقة الجديدة” الطبعة الأولى؟
كان الكتابُ صدمةً للمنهج العقلي العصر أوسطي الكامن في الحياة النسكية، والذي تجاوزه شيوخ الأديرة في صمت؛ لأنه إذا جاز لنا أن نعلل، نقول إن شريعة الخلقة الجديدة تبدأ ليس بما يدركه العقل من كلمات؛ لأن التعليم بنصوص، هو منهج اليهودية والإسلام؛ لأن كلاهما مبنيٌّ على الشريعة، بل تبدأ الخلقة الجديدة بوعي الإنسان بما يفعله المسيح وبما يستعلَن، وهو يبدأ:
أولاً: بالشركة، وبالشركة، أي بالعلاقة الكيانية. ولو كتبت كلمة “الشركة” مليون مرة، فعلى القارئ أن يعذرني.
ثانياً: نحن “نشترك” ونفهم ما نشترك فيه من خلال الشركة، وما نفهمه هو ما هو مُستعلَن ليس بالكلمات، بل في سر المسيح، والسر ليس شيئاً خفياً بعيداً غامضاً، بل هو ما هو فوق مستوى الإدراك المنظور، هو رد الكلمة والعبارات إلى الشركة وليس إلى القواميس.
أخيراً:
أرجو من الأب الراهب أن يكتب، وأرجو من الأخوة سوستانيس، ومجدي داود والباقين، أن يكتبوا عن استرداد الوعي؛ لأن ما ذكرته هو قليل جداً.
لا أريد أن أعتذر عن كلمة “الاستحالة السرية”؛ لأننا لا نتكلم عن استحالة فقط، بل استحالة سرية مستيكية. وكل كلماتنا -مهما كانت- هي فقط اقترابٌ من السرائر، ويا ليت الجيل الذي عاصرته والذي يعاصرنا يمتنع عن الادعاء بالعصمة، وها هو تلميذ الرب يقول لنا: “لا تكونوا معلمين كثيرين يا أخوتي عالمين أننا نأخذ دينونةً أعظم لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعاً ..” (يعقوب 3: 1-2).
رجاء من القرَّاء الأحباء إعادة قراءة رسالة “الصليب ختم القيامة” للأب صفرونيوس – وهو منشور على موقع الدراسات القبطية واللاهوتية، وقد تم ترجمته عن القبطية بمعرفة الراحل الكريم الأنبا مكسيموس – وجورج حبيب بباوي.
دكتور
جورج حبيب بباوي
2 تعليقان
الأستاذ والدكتور والخادم اللاهوتي الليتروجى جو رج بباوى ..رمز الاستنارة والتنوير بدون تزييف .. سؤال بسيط لحضرتك .. ما الفائدة التي جنيتها من اضطهاد خفافيش الظلام لك … ما سر نجاحك في التصدي لهم دون أن ينالوا منك شيئا، سوى كشف عقولهم التي تثبت انهم أهل الكهف.
ثورة للإستنارة والوعى, ام ثورة إصلاحية للفساد
————————————————————-
أو .. الوعى الإرثوذكسى بين الإستنارة الحقيقية والتنوير الغربى ’1’
———————————————————————————-
وتلبية للنداء الكريم الذى قد وجهه د جورج لجميعنا, كقراء للموقع, وكمشاركة منا بمواصلة البحث والتنقيب, عن ما يُخرِج كنيستنا من أزمة نقصان الوعى والأستنارة الروحية, وفقدان الإفراز والتمييز.
نعرض بعضاً من نقاط كاشفة مساعدة, لإستعادة المفقود من الوعى الأرثوذكسى:
1- يجب علينا بداية التفرقة بإدراك تاريخى بين الإستنارة الروحية, المطلوب النهوض بها وتثبيتها, وبين التنوير الغربى الذى لم يبدأ فى القرن الثامن عشر كما هو معروف, بل قد بدأ بشرارته وبإشتعالاته الأولى الفكرية منذ القرن الرابع عشر على يد المصلحين البروتستانت, الذين لم يكونوا مفكرين وعباقرة زمانهم فقط, بل كانوا سياسين ناجحين أيضاً, انطمسوا بالسياسة حتى أذنيهم, وأستخدموها بكل أساليبها, لإنجاح الإصلاح والحفاظ عليه, حتى مشارف القرن الثامن عشر ليكتمل بناء التنوير, لتظهر لبته التنويرية الفكرية المريضة على حقيقتها وفظاعتها, وفحوى عقلها الخاوى, وهدفها المهلك, فَيعلن بكل فجور بإن الإنسان الكافر وحده هو سيد الكون, وباعث الحياة الحضارية الجديدة, لما وفر لها من سبل إقتصادية ومالية للتقدم, متخطياً قصد سر نشأتها الإلهى, متجاهلاً لصلاح الله فى خلقته للعالم.
وعلى هذا يكون الإصلاح البروتستانتى التنويرى, الذى أضاء الدنيا كلها نوراً وبهائاً وإيماناً, هو الأب الحقيقى والشرعى للكفر والإلحاد على وجه هذة الخليقة!!
وهذا ليس أختراعاً جديداً, بل هو مكر وخباثة الكنسيين الأوربيين, الذين قد فصلوا بين ثورة الإصلاح الكنسية فى القرن السادس عشر, وبين ثورة التنوير الكافرة فى القرن الثامن عشر وما تلاه, إلا أنك حينما تخلص البحث والتنقيب التاريخى, تجد بأنه هناك من إنسجام تام بين تلك الثورتين, حتى إنه من العدل والإنصاف التاريخى, إعتبارهما ثورة واحدة, تكمل إحداهما الأخرى, وانه من التضليل والكذب والإفتراء أن تفصلهما عن بعضهما, وخاصةً حينما يؤكد التاريخ السلوك الكافر للمصلحين انفسهم, بكل القيم الأولية الإنسانية, ولا نرغب الخوض فى هذة النقطة التاريخية الآن, لئلا يتشتت القارئ. وسيأتى الوقت والموضوع لنؤكد على السلوك الكافر -بكل مبادئ الإنسان الطبيعى- لمارتن لوثر نفسه!
2- يجب علينا ان نلحظ أيضاً كيف تخدع الدعوة البروتستانتة الناس, بمصطلحات فارغة المحتوى, لتظهر للناس وكأنها من القصد الإنجيلى, وهى مجرد خداع بَيّنْ, مدمر ومهلك, يبدو بسيطاً ولكنه أصل مصابنا فى العصر الحديث, فيمهد بهذا الكذب الطريق لتحطيم الحياة المسيحية فى أصولها وأساسها.
ولنأخذ مثالاً لذلك, وهو دعوة ’’الحرية الكاملة فى إطلاقها, على إنها دعوة المسيح لنا, فإن حرركم الإبن فبالحقيقة تصيرون أحراراً’’!!
فيخدعون الناس فى التأويل الخاطئ للتعبيرات الإنجيلية, فمصطلح ’’الحرية الكاملة أو المطلقة’’ مصطلح فارغ لا يحوى حق ولا منفعة للإنسان, ولا اى إمتداد تاريخى واقعى, فالحرية الكاملة وهم وسراب ولا وجود لها فى حياة البشر على كوكبنا!
فالدعوة البروتستانتية للتحرر الكامل من كل ما يكبل خلاص الإنسان -فى نظرها بحسب دعواها المجحفة للأنسان نفسه- إنما هى دعوة العدمية التى للخراب, فلا وجود للحرية الكاملة فى حياة البشر فى اى زمان من ازمنة التاريخ, ولا فى اى مكان, ولا فى اى بلد فى عالمنا الحاضر ولا الماضى. ولا فى إى أيدولوجية وجدت مهما كانت راقية ومتحضرة فى فكرها الدعوى. هذا محض وهم وأحلام اليقظة بالمدينة الفاضلة للحالمين, فهل من صحوةً للنائميين؟!!
3- لذا وجب علينا التدقيق فيما يعرض علينا من مصطلحات بأسم الإنجيل, لنختبرها أولاً بأستنارة الروح التى فينا, ليظهر فراغها على التو من نعمة قصد الله الآب لنا. وعلينا قبل ان ننشغل فى تمحيص المصطلحات اللاهوتية وفحواها الداخلية, إلقاء نظرة هليكوبترية أولاً عليها من أعلى, لنرى الهدف منها ونتائجها, قبل إن ننشغل بتمحيص جزيئاتها الدقيقة, حتى لا نتحوصل داخلها فنفقد رؤيتنا الخاصة, فلا نشعر إلى أين تذهب بنا!! فقد أوجدوها كمادة للنقاش اللهوى لتضليلنا, عن إكتشاف الهدف والمرفأ الخاطئ المراد توصيلنا إليه.
تحضرنى قصة رائعة على ما أتذكر لإيفان كريلوف الأديب الروسى الساخر ’’ رجل يحكى لصديقه عن زيارته الأخيرة لمتحف العلوم الطبيعية, وكيف رأى هناك الكثير من الحشرات الدقيقة والذباب الصغير جداً, والقمل والنمل, والكثير من الكائنات, دقيقة الحجم.
فسأله صديقه: هل رأيت الفيل الذى هناك؟!
فرد عليه متعجباً: لم ألحظ مطلقاً بأن هناك فيل!!! ’’
فلننتبه لئلا ننشغل بمتاهات التفصيلات اللاهوتية, التى أوجدوها لشغلنا عن الهدف الماكر المخادع, المنصوب لإصطيادنا نحن, ولأولادنا من بعدنا, لإثارة نقاش تفصيلى ماكر, يخفى من وراءه كِبْر وهَوْل الفخاخ المنصوبة لتحطيم تاريخنا.
4- ومن أجل تحقيق الوعى والإستنارة والإفراز, علينا كشعب عدم الإستجابة لنداء مناقشة متاهات التفاصيل, ولا نسمح لأحد أن يجرنا إلى حديث الأمور الصغيرة والدقيقة, فمبحث تلك التفاصيل من أختصاص المتخصصين بهموم البحث والتنقيب, فحديث التفاصيل هو أمر يخص الدراسة والدارسين وحدهم.
أما الإستنارة والوعى للشعب فهى تهتم بالأهداف وبنهاية الأمور وعوائدها وفوائدها, لئلا يسهل خداعنا إن انجرفنا لمناقشة التفاصيل.
مثال عملى يوضح الأمر, البائع الشاطر اللبق فى حديثه, الذى يعرض بضاعته عليك بسماجته المعهودة, إن استجبت لندائه وناقشت معه تفاصيل فوائد بضاعته الراكدة, ينتهى بك الأمر أن تشتريها بالرغم من عدم إحتياجك لها!
أما إن رفضت مناقشة التفاصيل معه, لإدراكك للهدف وهو عدم إحتياجك لبضاعته, تنجو بجيبك عمران, وأذنيك سليمة أيضاً!!
لذا يجب على الشعب إن أراد إستنارة ووعى حقيقى, عدم الدخول فى متاهات نقاش مع الإصلاحيين, بحسب ما تؤكده معاهدنا اللاهوتية التاريخية الدراسية, من فساد الهدف والقصد!!
فالنقاش اللاهوتى للمتخصصين فقط, اما الشعب فله الإجتماع حول الأهداف والمقاصد الحقيقية التى تبنى مستقبله, ومستقبل أولاده.
(يتبع)