أزمة وجود قبل أن تكون مشكلة أخلاقية

أتابع من هنا -أرض المهجر- ما ينشر في مصر، وأرى أن مصابيح كثيرةً أنارت حقبةً من تاريخنا؛ دراسات وتراجم ومؤلفات صارت مثل نهرٍ يتدفق بالحياة هي أنوار الجيل المعاصر والآتي. ويبدو أن ذلك أقلق من اعتاد التقوُّت على الفتات الساقط من مائدة أسيادهم، دونما فحصٍ أو مراجعة، فقد اعتقدوا أن في ذلك سلامهم وسلامتهم!

وهكذا تكشف أفعالهم عن شرخٍ هائل أصاب وجودهم، فهم فئة ترفض الحياة، وتكتفي بالصراخ بكل ما لديها من كراهيةٍ حمقاء: تعليم مخالف – هرطقة. وكنا قد قلنا منذ ثلاثين عامًا إن عبارة “الله موجود، أو ربنا موجود” عبارة خاطئة لاهوتيًّا، رغم تواترها في الثقافة الشعبية، ليس فقط لأن لفظة “موجود” هي اسم مفعول، بل لأن الوجود هو لنا والكينونة هي لله: الله خالق، وكل ما عداه مخلوقٌ/موجود. ولكن يبدو أن ترجمة فانديك صارت قرآن المتخلفين عقليًّا الذين يعجزون عن قراءة أسفار الكتاب المقدس بلغة الكنيسة؛ اللغة القبطية. وهو عجزٌ جعل هؤلاء المشاغبين الذين يدفعهم ويدفع لهم مطرانٌ هو بدوره لم ينل أي تعلم لاهوتي ولا يعرف التاريخ ولم يدرس الأسفار بلغتها الأصلية ولا مرجعية له إلا العمامة التي يسندها الميكروفون، أقول إن هذا العجز جعل هؤلاء بدورهم يتهمون غيرهم بغير علم ولا سند إلا وسائل التواصل الاجتماعي التي تتيح لهم الطنطنة بغير ضابط ولا رابط.

ولذلك تجدهم يستندون إلى نص العبرانيين الوارد في ترجمة فانديك باللغة العربية في إثبات صحة العبارة المشار إليها بعاليه، وهو نصٌّ لا علاقة له بالأصل، وهو ما يتضح من خلال النص القبطي، لغة مصر والكنيسة أم الشهداء:

 

والترجمة العربية الصحيحة هي: “يؤمن بأنه كائن: He is”، وليس موجود.

أقول إن ما نمر به هو أزمة وجود، لأن واعظًا مشهورًا وأسقفًا عامًا يقسِّم شعب الكنيسة إلى “هم ونحن”، ويدس كلاهما ما شاءا من تدليس.

تسفر هذه الأزمة عن وجهها في أن فئةً تريد أن تعيش على أحداث ومقالات السنوات الماضية، وتقطع نفسها ليس فقط من النسيج القبطي، بل ومن النسيج الوطني أيضًا. ينفقون الأموال على التماثيل، وكأن توحيد شعب مصر ولا أقول الأقباط فقط هو تراث ماضٍ لا علاقة له بالواقع. ينبشون قبور الموتى لنوال البركة ولا ينشرون ما تركه هؤلاء من تعليم عن الحياة. لا ينفقون شيئًا لطبع تراثنا ويشيدون القبور بسخاء غريب.

هي أزمة وجود تتبدى في تكوين جماعات مسلحة بالكراهية والجهل والكذب والهجوم على الباحثين. وقد اغتصب هؤلاء الكذبة شرعية القضاء وأصدروا الأحكام الغيابية في مقالاتهم ومن وراء الميكروفونات.

يذكِّرني ذلك بدراسات الكاتب فرانز فانون الطبيب الذي عاصر الثورة الجزائرية ورأى كيف تحولت كراهية المستعمر إلى كراهية الجزائري للجزائري. وكان هؤلاء الذين سقطوا تحت الخوف من الآخر قد تحول خوفهم إلى كراهية وإلى الوجود الدفاعي الذي فقد الانتماء والغاية.

أزمتهم ليست أزمة أخلاقية، بل هي أزمة وجود، لأن تأخر قيام الدولة المدنية، ووقوع حوادث الإرهاب وقتل الأبرياء من المصريين صارت كما رأى فرانز فانون، هي العنف المقدس الذي يدفع الخائف والمُضطهَد إلى أقصى درجات العنف. ولعل اغتيال الأنبا أبيفانيوس يذكِّرنا بأن الذين صار وجودهم في الصدارة مهددًا يحاولون شق الصفوف علَّهم يحافظون على صدارةٍ هم فيها البارزون.

دكتور

جورج حبيب بباوي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة