المشكلة الأولى هي تصدي البحث اللغوي لسر المسيح:
يكاد تجسد رب المجد يصرخ ألماً صارخاً في وعينا أنه لم يكن فكرةً تعبِّر عنها الكلمات مهما كانت، بل حقيقة اتحاد أبدي تشهد له الكلمات: “الكلمة صار جسداً”. وعندما حاول بعضُ أذكياءٍ عبر تاريخ المسيحية، فهم سر المسيح، عثروا وسقطوا لسببين:
الأول: هو إخضاع ما هو غير مألوف لما هو مألوف. السرُّ غيرُ مألوفٍ، وغيرُ عاديٍّ، ولا يمكن أن يحاصره ما هو مألوفٌ وعاديٌّ من إيقاع الحياة كما تعبِّر عنه اللغة.
فالولادةُ مثلاً، تعني فعلاً في الواقع الإنساني، هو انفصال المولود عن الأم، وتعني دائماً أن الأب سابق في عمره عن ابنه. هكذا فهم أريوس -ولم يكن غبياً- سر ولادة الابن الأزلية، وهو بذلك يكون قد نقل الولادة المألوفة إلى ما هو غير مألوفٍ وعادي، أي إلى الثالوث، فسقط في أشهر بدعة عرفتها المسيحية، لا زال تلاميذه يجولون العالم باسم جديد هو “شهود يهوه”.
الثاني: هو محاصرة السرِّ نفسه المعلَن في علاقة جديدة تختلف عن أي علاقة أخرى نعرفها من وعي الحياة الإنسانية. وهو حصارٌ يفرضه العقل بالعودة إلى أصل الكلمات في أي لغةٍ نشاء. وبقاءُ البحث في دائرة استعمال الكلمات -مهما كانت- لكي تصبح الكلمات أو المصطلحات قيداً حديدياً، لا سيما إذا تمت محاصرة فكرة من الأفكار في إطار البحث اللغوي.
كان أنوميوس -وله بدعة خرجت من رحم الأريوسية- هو أول من قال إن اختلاف الأسماء يعني اختلاف الطبائع، وطبَّق هذا على الثالوث، مثل أريوس، فصار الآبُ اسماً يختلف لغوياً، عن اسم الابن، وبالتالي تختلف طبيعة الآب عن طبيعة الابن.
فكرةٌ سهلة القبول، ولكنها حاصرت الثالوث في العلاقة الزمانية التي تعبِّر عنها اللغة، حيث الأب ليس أبَاً إلَّا في حالة واحدة، هي ولادة ابن له. أما على مستوى الثالوث، فإذا كان الله الآب هو الآب أزلياً، فهو لا يمكن أن يكون آباً إلَّا بالابن الأزلي.
خلاصة رد أثناسيوس الرسولي وباسيليوس الكبير: إن ما هو كائن في الواقع والحياة، يسبق اللفظ.
الترجمات العربية المعاصرة:
جاءت سرعة النشر في العصر الحديث بنقلٍ هائلٍ للمعلومات في زمن قصير. على أن سرعة النشر هذه لا تعفينا من رصانة البحث، بل هي بالأولى تفرضها علينا. وحتماً، النقل من اليونانية أو العبرانية أو غيرها إلى لغتنا العربية، يجب أن يخضع للفحص الدقيق في ضوء ما يأتي:
أولاً: في نور ما استقر من ثوابت تعبِّر عنها العقيدة.
ثانياً: في الكشف عن ضعف التحليل اللغوي، إذا كان هذا في النهاية لا يخدم الثوابت لدينا، خصوصاً في عقيدتنا في الثالوث والتجسد والروح القدس والسرائر.
ثالثاً: العودة دائماً إلى ما هو مستقر وثابت في التسليم الكنسي، وبحث كافة المصطلحات اللاهوتية في كل مراجع الآباء، وليس في سطر أو سطرين، أو في عبارة واحدة مهما كانت، طالما أن الهدف هو تأكيد العلاقة الجديدة غير المألوفة وغير الخاضعة لما هو مألوف؛ لأن الثلاثة في واحد، والواحد في ثلاثة، ليس موضوعاً له ما يقابله في العالم المادي كله يمكن أن نقارنه بالثالوث.
هذه التحذيرات الثلاثة تقود إلى بحث الكلمة اليونانية Perichoresis فقد أخطأ كل من J. Moltmann – La Cugna – L. Boff بل وزاد في الخطأ Boxter Kruger الذي خلق برنامجاً لاهوتياً باسم Perichoresis واسع الانتشار، وكانت علة خطأ كل هؤلاء، أنهم عادوا إلى اليونانية الكلاسيكية لترجمة المصطلح على أنه رقصٌ كونيٌّ للثالوث.
ويبدو وجه الخطأ التاريخي في الآتي:
أولاً: هذا المصطلح استخدمه القديس غريغوريوس النزينزي للاتحاد اللاهوتي بالناسوت، ولم يستخدم للثالوث إلَّا بعد تعديلات كثيرة عند مكسيموس المعترف، ثم بوفرة عند يوحنا الدمشقي.
ثانياً: إن أول مرة يظهر فيها هذا المصطلح كانت في رسالة النزينزي إلى كلودنيوس القس ضد أبوليناريوس حيث يشرح عبارة الرسول بولس: “الإنسان الثاني الرب من السماء” مؤكداً أن إنسانية الرب ليست من جوهر إلهي، بل هي مثل إنسانية كل البشر، ويقول: إن يسوع يحل فينا روحياً بالروح القدس. وعند الكلام عن اتحاد الطبيعتين يقول: “الاسماء تمتزج معاً مثل الطبيعتين، وتنساب Perichoro كل طبيعة في الأخرى حسب قانون الاتحاد” (مقالة 101: فقرة 4). وهذا ليس رقصاً، بل هو اتحاد الطبيعتين في حركة الاتحاد، ولذلك تُرجم الفعل اليوناني إلى Flowing بمعنى تنساب أو تتدفق، أي أن كل طبيعة تنساب أو تُسكب أو تتدفق في الطبيعة الأخرى. ولذلك جاءت ترجمة L. Prestige أدق على أن حركة الاتحاد هي Passing reciprocally أو Interchange with (مقالة في مجلد الدراسات اللاهوتية عدد 29-1928 – ص 242 بعنوان Perichoreo and Perichoresis in the Fathers).
ورغم محاولات تقديم استعارات وتشبيهات لا بأس بها لشرح حركة الاتحاد، إلَّا أن ما غاب عن كل هذه المحاولات هو:
1- إن هذا الاتحاد هو اتحادٌ شخصيٌ، أي أقنومي لا يخضع لأي تأويل مهما كان صدقه.
2- إن حلول كل طبيعة في الأخرى هو حركة المحبة الإلهية التي تجعل الإنسانية التي أخذها المخلص من والدة الإله تنساب أو تتحرك، ليس حركةً ذاتيةً، أي حركة طبيعية، بل حسب عبارة النزينزي نفسه: “حسب قانون الاتحاد”، وهو اتحاد أُقنومي يجعل غريغوريوس يستعمل كلمة “امتزاج” كتعبير عن قبول حقيقي للإنسانية بواسطة الله الكلمة وقبول الإنسانية ألوهية الكلمة بنفس الحرية والمحبة.
3- إن الإرادة الانسانية لم يُبعدها الله الكلمة بسبب الاتحاد، بل كما حُدِّدت الصياغة اللاهوتية بعد ذلك: إرادة واحدة من إرادتين، إرادة إلهية – إنسانية؛ لأن العمل الإلهي هو عملٌ إلهيٌّ – إنسانيٌّ، أو حسب التعبير الذي ساد في القرن الخامس: لأن الاتحاد لم يلغِ الفروق الكيانية بين الطبيعتين (القديس كيرلس الاسكندري الرسالة الرابعة ضد نسطور – المقالة الثانية ضد نسطور مجلد 75: 1292).
الموت والحياة، والحياة والموت:
في المقالة (18) يتحدث غريغوريوس عن نياحة والده، وعن الموت والحياة. والموت والحياة كلاهما مختلفٌ عن الآخر، ويقول: “الحياة والموت -كما نسميهما- كلُّ منهما مختلف عن الآخر، إلَّا أنهما Perichorei كلٌّ في الآخر” (فقرة 42). وحسب الترجمة الإنجليزية هما “Resolved“، أي يقرر الآخر؛ لأن بقية العبارة: “الحياة والموت -كما نسميهما- كلُّ منهما مختلف عن الآخر، إلَّا أنهما يقرران معاً كلٌّ الآخر في كيف يخلق كلٌّ الآخر”. فالحياة في الموت كما أن الموت في الحياة. هذا ليس لغزاً فلسفياً؛ لأن الأم التي تلد للحياة، تلد أيضاً للموت، ولذلك تخترق الحياةُ الموتَ، ليس لأنها ترقص، بل لأنها تختلط بالموت، أو إن شئنا الدقة Interpenetrate لكي تولد الحياة الجديدة.
التجسد الإلهي واتحاد الطبيعتين:
تُعد المقالة (30) التي كتبها القديس غريغوريوس النزينزي، كلها وبالذات الفقرة 6: 1 من أهم الفقرات التي تعبِّر عن ديناميكية تجسد ابن الله وليس سكونية Static تجسد الكلمة، لسببٍ واضح، وهو أنه شخصٌ حيٌّ متَّحدٌ بالآب وبالروح القدس كإله، ويفتح ذات الاتحاد في أقنومه للإنسانية الغريبة كيانياً وروحياً عن الابن نفسه، وعن الروح القدس، وهكذا يكتب غريغوريوس:
“من صفات صورة العبد (التي قبلها الرب) أنه يتنازل (أي العبد) إلى رفاقه العبيد، وحقاً تنازَل وأخذ (صورة) رفاقه العبيد الغريبة عنه لكي يحمل كل ما يخصني، بل يحملني أنا في ذاته لكي يبيد في كيانه كل ما هو شرير، كما تبيد النار الشمع، أو كما تُبدد الشمس ضباب الأرض؛ حتى ما أشترك أنا في طبيعته بالامتزاج بها. لهذا هو يكرم طاعة عمله (الذي عمله عندما تجسد) ويبرهن على ذلك بالمثال الذي أقامه عندما تألم ..” (30: 6-1).
إذن، ما هو شرير قد أُبيد، والشركة تحدث على مستوى كياني عندما تمتزج حياة الله الكلمة المتجسد بحياة غريغوريوس؛ لأن المسيح يحمل كل ما يخص غريغوريوس، أي الطبيعة الانسانية، ولكن غريغوريوس لا يتكلم عن فكرةٍ، بل غريغوريوس كشخص، وهكذا يعبِّر الفعل يمزج Perichoreo عن تلك الحركة الديناميكية التي يبيد فيها الابن الكلمة، الشر.
نهاية الدهور – الله الكل في الكل (1كو 15: 28):
نهاية الدهور، أي عندما يسلِّم الابنُ المُلكَ لله الآب، وهو “زمن رد كل شيء إلى ما كان سابقاً”([1]) ويشرح أسد كبادوكية عبارة الرسول: “الله سيكون الكل في الكل في زمان إعادة كل شيء (أو رد كل شيء إلى ما كان عليه) هذا لا يعني أن الآب سيكون وحده هو الله، بل والابن سوف يمتزج به مثل امتزاج شعلة النار التي أُخذت من الآتون حيناً، ثم أُعيدت إلى الآتون” (مقالة 30: 6-2). ومرةً ثانيةً، قدَّمت الترجمة الانجليزية الكلمة resolve لتشرح ما هو المقصود بحركة Perichoresis رغم أن أسد كبادوكية استخدم الفعل وليس الاسم؛ لأن كل استخدام للفعل يؤكد عدم سكونية العلاقة بين الآب والابن، وعودة الشعلة إلى الآتون، يعني وحدانية الجوهر.
الجوهر الواحد للثالوث:
في المقالة (31) وفي الفقرة (14) يقدم غريغوريوس شرحاً لجوهر الثالوث، فيقول: “الألوهة -كما يجب أن نتكلم- لا تنقسم إلى ثلاثة أقانيم متباعدة. بل يوجد نورٌ واحد يمتزج بالكل ،كما لو كان نورُ ثلاثِ شموسٍ متَّحدةٍ كلٍّ بالأُخريين”. وهنا لابد من العودة إلى الكلمة اللاتينية الأصل Coinherence حيث يبدأ هنا استخدام التعبير في علاقة أقانيم الثالوث بعد أن كان خاصاً بالتجسد.
بقية الفقرة هامة جداً: “نؤمن بإله واحد؛ لأن الألوهة واحدة، وكل ما يصدر عن الألوهة، يُوصَف بالواحد، رغم أننا نؤمن بثلاثة أقانيم؛ لأن كل أقنوم ليس أقل ولا أزيد من الاقنومين الآخرين؛ إذ لا يوجد واحد قبل ولا بعد الأقنومين؛ لأن الأقانيم ليست منقسمة إرادياً ولا منفصلة (بالقوة الذاتية) لأي منهم ..”.
خلاصة وتقييم:
لعل الحافز الأساسي لكتابة هذا المقال هو ترجمة الكلمة اليونانية Perichoresis إلى “احتواء”، وهو ما لا نوافق عليه للأسباب الآتية:
أولاً: لأن الفعل الذي ورد على لسان الرب يسوع نفسه هو فعل (يحل): “أنا في الآب والآب فيَّ”. وأيضاً: “الآب الحال فيَّ هو يعمل الأعمال التي أعملها أنا”. والعبارة الأخيرة تؤكد وحدانية الإرادة، رغم وجود إرادة خاصة بالآب، وإرادة خاصة بالابن، إلَّا أن الإرادة هي إرادة “مثلثة”، إرادة واحدة لكل أقنوم، وإرادة مثلثة وواحدة للثالوث.
خطورة الاحتواء تبدو في أنه ينفي ديناميكية حرية وحركة المحبة. لأن اللاهوت يعمل بواسطة الناسوت، وهو ليس عملاً آلياً تنعدم فيه الإرادة والمحبة الإنسانية، أو أنها تحتوى، بل تتحد بالإرادة الإلهية وتصبح إرادة واحدة من إرادتين.
ثانياً: إن احتمال خطأ الترجمات العربية وارد عند الكل، وهذا ليس تشنيعاً أو تشهيراً بأحد، كما يفعل واحد من الإكليروس، بل لأننا نحاول خلق كلمات عربية لِما ساد في اللغة اليونانية، وهي بكل تأكيد -كما كشفت الدراسات المعاصرة- لم تكن اللغة اليونانية الكلاسيكية، بل كانت لغة الترجمة اليونانية المعروفة باسم السبعينية، وهي تطور هام في اللغة اليونانية يجب أن يؤخذ بكل اعتبار واهتمام، لا سيما عند مراجعة مصطلحات العهد الجديد والآباء معاً لاكتشاف الفروق بين الاستعمال القديم والاستعمال الجديد الذي وُلِدَ في داخل صراع الكنيسة الجامعة مع الهراطقة.
أخيراً: إن تجسد ابن الله، والثالوث، ليسا من موضوعات الفلسفة الكلاسيكية اليونانية، بل هو استعلان غير مألوف، ويجب أن يبقى في إطار سر المسيح المعلن:
أ- في الأسفار.
ب- وفي العلاقة الجديدة التي جاء بها الوسيط الرب يسوع المسيح، والشفيع روح الآب الذي يقودنا إلى معرفة الرب (1كو 12: 3).
قبسٌ من القديس غريغوريوس اللاهوتي
أُصلِّي في الابن الرأس والوسيط
يحركني روح يسوع إلى خلاصي ومصيري، يسوع
أُصلِّي بالروح إلى ربي ومخلصي
يحركني من محدوديتي، وبه أدخل حضن الآب
أُصلِّي للآب في الوسيط والكاهن العظيم
يطهِّرني من جهلي ويعطي ليَ نقاوةَ الرؤيا
في يسوع أنا في الروح، وفي الروح أنا في الآب
وفي الآب قدَّسني المخلِّصُ
***
يا لِسرِّ يسوع الفائق الذي لا مثيل له
تعطي الاستنارة يا يسوع لكي نأتي
ذراعيك التي امتدت على الصليب
ممتدة في كل حين
تنقلني من موت فكري إلى نور حياتك
ترفعني من هوة الأنا إلى الامتلاء من روحك
تقدمني للآب قرباناً مختوماً بذبحك
يري فيَّ الروح القدس، رسمك يا فاديَّ
بل أتحرك في الحياة الالهية
من الآب بالابن في الروح
ومن الروح في الابن
إلى الآب
آخذ التقديس من الروح
الفداء من الابن
المصير الأبدي من الآب
آخذ في، ومن
لكي أبقى مع حركة
المحبة للحلول المتبادَل.
دكتور
جورج حبيب بباوي
([1]) ليس هذا هو الخلاص الشامل Universalism كما يُشاع، بل هو تجديد الخلقة الذي ليس له شرح كامل منظم لأنه غير مُعلن، بل هو رد كل شيء أو restitution.
3 تعليقات
ماهية ” الاحتواء ” ، وفقا لمصطلح ” prichoresis “
ماكنت لأبتدع جديدا عندما تبنيت مفهوم ” الاحتواء المتبادل ” – وليس الحلول ( التواجد ) المتبادل – كترجمة للمصطلح الآبائي الأصيل الذي يكشف حقيقة العلاقة بين شخوص الثالوث القدوس . فالمفاجأة هي أن المفهوم راسخ وواضح قبل ظهور المصطلح في صيغة الاسم في كتابات القديس مكسيموس المعترف ، وحتى قبل ظهوره في صيغة الفعل على يد القديس غريغوريوس النيزينزي . المفهوم موجود في كتابات جيل الرواد العظماء من الآباء ، ووجوده في هذا الجيل كان مؤسسا ، وبانيا ، ومثمرا – فيما بعد – للظهور المتدرج للمصطلح على يد القديسين المذكورين .
لدينا على الأقل مرجعان يمثلان جيل الرواد من الآباء ، وقد تناولا بوضوح – ينافس وضوح الشمس في وقت الظهيرة – مفهوم الاحتواء ( نصا و حرفا ) . وبالطبع لم يأت ذكر للمصطلح ، فهو لم يكن قد نحت بعد ، ولكن في عبارات شديدة الوضوح في كتاباتهما ، نجد تعريفا جامعا مانعا ، له .
يأتي حديث ” الاحتواء ” – عند مرجعيتينا – في سياق عام هو مايمثله هذا المفهوم من معضلة عويصة أمام خبرتنا البشرية ، النسبية ، أي الزمكانية ( خبرة الزمان والمكان ) . فكيف يمكن للعقل البشري أن يدرك مضمون قول الرب : ” أنا في الآب والآب في ” . كيف للآب أن يحتوي الابن بينما – في ذات الحدث السرمدي – يحتوي الابن الآب ، مع اليقين بأن الآب يظل آبا والابن يظل ابنا .
1- القديس أثناسيوس الرسولي
فيما يواجه القديس أثناسيوس انحراف فكر ( وكفر ) الآريوسيين تجاه شخص الابن فهو يؤكد ويبلور مفهوم الاحتواء المتبادل ، ذلك المفهوم الذي شوهوه بفكرهم المنحرف ؛ فهم لأنهم ينكرون مساواة الابن بالآب ، فمن المنطقي أن ينكروا الاحتواء المتبادل بينهما ، ويتم اختزال الأمر عندهم في مجرد علاقة أشبه بعلاقة النعمة التي تجمع الله بالبشر . ويحاجج أثناسيوس أيضا بأن العلاقة الثالوثية ليست علاقة ” امتلاء متبادل ” ، كأن يفرغ الشخص ذاته في الآخر ليملأه ، لأن الشخص كامل وتام في ذاته ، وعليه فالعلاقة التي فيها يعطي الشخص كل كيانه للآخر لكي يتم احتواؤه فيه – دون أن يفقد كيانه الكامل الدائم ، بينما هو ذاته يتقبل كل كيان الأول محتويا إياه – دون أن يفقده كيانه الكامل الدائم – مثل هذه العلاقة هي عين علاقة الاحتواء المتبادل .
يكتب أثناسيوس عن – وضد – الآريوسيين ، فيقول :
” فإنهم بدأوا يحرفون كلمات الرب : ” أنا في الآب والآب في ( يو 14 : 10 ) ، قائلين ” كيف يمكن أن يحتوي الواحد الآخر والآخر يحتوى في الأول ؟ أو كيف يمكن أن يحتوي الآب الذي هو أعظم ، في الابن الذي هو أقل منه ؟ أو أي غرابة أن يكون الابن في الآب ، طالما أنه مكتوب عنا نحن أيضا ” به نحيا ونتحرك ونوجد “( أع 17 : 28 )…. ولكن حيث أنهم قد حاولوا تشويه هذه الآية لخدمة هرطقتهم فقد أصبح من الضروري أن نفند ضلالتهم ،… لأنه عندما يقول ” أنا في الآب والآب في ” فهذا لا يعني كما يظن هؤلاء أن الواحد يفرغ ذاته في الآخر ليملأ الواحد منهما الآخر … حتى أن الابن يملأ فراغ الآب ، والآب فراغ الابن ، وكأن كلا منهما ليس تاما ولا كاملا في ذاته … ولذلك فإن هذا القول ، هو أكثر من الكفر لأن الآب هو تام وكامل ، والابن كذلك هو ملء اللاهوت … وأيضا لا يوجد الابن في الآب بالمعنى الذي فى الآية ” فيه نحيا ونتحرك ونوجد ” ، لأن الابن لكونه من ينبوع الآب ، فهو الحياة ، الذي به تحيا وتقوم كل الأشياء ، لأن الحياة لا تحيا من حياة ( أخرى ) ، وإلا فهي لا تكون عندئذ حياة . فالابن هو الذي يعطى الحياة لكل الأشياء “( المقالة الثالثة ضد الآريوسيين 23 :1 ) .
أيضا يرسي أثناسيوس أن مايحفظ الاحتواء المتبادل هو واحدية الجوهر الإلهي ، فكل شخص له ذات الجوهر الذي للآخر ، وهكذا يظل كل شخص ، ذاته على الدوام ، ولا تحدث علاقة الاحتواء المتبادل أي تفتيت أو تجزئة للجوهر لأن الشخص كامل ، أي يعتلن الألوهة الكاملة ، أي يشخصن الألوهة الكاملة . وفي هذا يقول : ” ولكن في اللاهوت فليس الأمر على هذا النحو . لأن الله ليس مثل الانسان ، وجوهره لا يتجزأ . ومن أجل ذلك فانه لم يتجزأ لكي يلد الابن حتى يصير أبا لآخر، لأنه هو نفسه لم يكن من أب ، وكذلك فالابن ليس جزءا من الآب ، ولذلك فهو لم يلد كما ولد ( بضم الواو ) هو نفسه ، بل هو صورة كلية للكامل وهو إشعاعه . وفي اللاهوت فقط ، فإن الآب هو أب بالمعنى الأصيل والابن هو ابن بالمعنى الأصيل . وبالنسبة لهما يكون صحيحا أن الآب هو أب على الدوام . والابن هو ابن على الدوام . وكما أن الآب لن يكون ابنا أبدا كذلك أيضا لن يصير الابن أبا مطلقا . وكما أن الآب لم يكف أبدا عن أن يكون الآب الوحيد ، هكذا . فلن يكف الابن أبدا عن أن يكون الابن الوحيد .” ( الرسائل الى سرابيون 1 : 16 ) .
2 – القديس هيلاري أسقف بواتييه ( 300-367 ) Hilary of Poitiers
قديسنا الملقب بأثناسيوس الغرب – والذي خاض دفاعا مستميتا عن القديس أثناسيوس الرسولي المعاصر له ، على خلفية الصراع مع الآريوسيين – يعد من أعظم اللاهوتيين من جيل الآباء الذين كتبوا – بل تخصصوا – في الثالوث القدوس . والقديس هيلاري له اثنا عشر كتابا في الثالوث كتبت في المنفى باللغة اللاتينية بعنوان ” de trinitate ” ، وفي الكتاب الثالث ( الفقرة الأولى ) ينطلق هيلاري من نفس منطلق أثناسيوس بخصوص المعضلة عصية الإدراك أمام الذهن البشري ، أي معضلة مفهوم الاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث ، معضلة فهم ” أنا في الآب والآب في ” ، فيقول :
It seems impossible that one object should be both within and without another, or that ( since it is laid down that the Beings of whom we are treating, though They do not dwell apart, retain their eparate existence and condition) these Beings can reciprocally contain One Another, so that One should permanently envelope, and also be permanently enveloped by, the Other , whom yet He envelopes. This is a problem which the wit of man will never solve, nor will human research ever find an analogy for this condition of Divine existence. But what man cannot understand, God can be.
( Fathers of the Church > On the Trinity (Hilary of Poitiers) > Book III website : )
والعبارة الاكثر وضوحا في النص هي ما تشير إلى أن شخوص الثالوث ” يحتوى كل منهم الآخر بالتبادل ، وبالتالي كل واحد منهم هو على الدوام يحيط الآخر وأيضا يحاط ( يحتوى ) من الآخر ، الذى مازال هو يحتويه “.
( العبارة – نصا – من ” الايمان بالثالوث ” ، مكتبة باناريون ، طبعة أولى ، نوفمبر 2007 ، هامش ص 317 )
الاحتواء ، العلاقة المستحيلة
بالرغم من أن الاحتواء المتبادل مسألة تبدو مستحيلة الإدراك أمام العقل البشري ، مسألة لا مثيل لها في عالمنا الزمكاني ، إلا أن القديسين أثناسيوس وهيلاري لم يستسلما للمستحيل ، ولم يقتنعا بأن وجود بحر المستحيل العقلي يشكل مانعا لحركتنا نحو الوصول إلى شاطئه ، مع القناعة بأن العبور إلى الحقيقة حدث يتخطى مجرد المعرفة اللاهوتية ” العقلية “، لسبب منطقي هو أن مفردات اللغة البشرية هي انعكاس لخبرات وجودهم النسبي الموقوت وأما التعبير البشري عن العلاقة الثالوثية – في أقصى درجة ممكنة له – يتطلب لغة أخرى تنتمي لزمن آخر هو الأبدية – بالرغم من ذلك فقد اضطلع القديسان الملهمان بالروح القدس ببلورة ثلاثية الحد الأدنى الحاكم للمسألة ، وهي :
1- كل شخص هو الألوهة الكاملة لأن جوهر كل شخص هو ذات الجوهر الواحد الذي للآخر .
2- كل شخص يظل ذاته على الدوام ولا يتحول – أو يتجزأ – إلى آخر .
3- كل شخص يحتوي الآخر بينما هو محتوا منه .
نستطيع إذن ، أن ننطلق في محاولة الفهم – ما أمكن – من أساس صخري صاغه الآباء ليؤطر لحدود المسألة ، فنستطيع القول بأن كل شخص من شخوص الثالوث ، فيما يحتوي – ويحتوى من – الشخصين الآخرين ، فهو كيان يستعلن الألوهة الكاملة لأن جوهره هو ذات الجوهر الواحد الذي للشخصين الآخرين . وكل شخص من شخوص الثالوث ، فيما يحتوي – ويحتوى من – الشخصين الآخرين ، فهو كيان دائم ديمومة السرمدية ، يحتفظ بهويته الشخصية غير قابل للتجزئة – أو التغير – إلى أي شخص من الشخصين الآخرين .
ماهية الاحتواء
إذا كان التعقيد الظاهر في المسألة يبدو أحيانا أمرا لابد منه – في سياق تثبيت الحد الأدنى الذي يدحض أي احتمال للانحراف أو حتى للهرطقة – فإن مجهودا ذا وجهين – قد يجعل الأمر ليس بهذه القسوة – لابد من أدائه :
1- الوجه السلبي
التخلص من الانطباعات النسبية عن ” الاحتواء ، الإحاطة ، يحيط ، ويحتوي “، أمر واجب كأساس للغوص في المفهوم الصحيح للكلمات. الانطباع الذي لدينا – وفقا لخبرتنا البشرية بمثل هذه الكلمات – هو مايشير إلى أن شيئا أو كيانا ما يحيط بشيء آخر – ماديا أو حتى معنويا – بينما يظل المحيط محيطا والمحاط محاطا . بالطبع هذا أمر لايتفق مع تعريف صحيح بالله ، فالأخير كيان متحرر بصفة مطلقة من قيد الزمان والمكان ولا يمكن أن يحيط به أمر أو شيء من خارجه ، فخارجه هو العدم ذاته .
إن مشكلة مفهوم الاحتواء – كعلاقة متبادلة بين شخوص الثالوث – أمام أذهاننا هي في تقوقعنا في المدلول المادي للكلمة ، وبالطبع نحن ليس لدينا كلمة أخرى غير ذات مدلول مادي من الممكن استخدامها في هذا السياق ، ولذلك فقد وجب علينا أن نتحرر من الظاهر المادي فنتلبس ذهنا روحيا يستطيع أن يسبح في كل ما يليق بالوجود الإلهي ، رافضين وطاردين لكل مدلول مادي للكلمة من أذهاننا .
2- الوجه الإيجابي
القضية ليست تجريدا من أجل التجريد ، فأنت لن تستطيع أن تتصدى لما يخص الوجود الإلهي ، في المطلق ، أي خارج إطار مفهوم النعمة ، مالم يبد الأمر كعمل فلسفي تجريدي ، وهو ليس كذلك بالطبع ، ولكن هذا مايبدو عليه حديث اللاهوت عندما نتطرق إلى علاقة الاحتواء المتبادل بين شخوص الثالوث القدوس ، ولا فكاك من ظهور الأمر هكذا . وفقط عندما يدعى البشر لدخول هذا العالم السرمدي الذي للثالوث القدوس، فيدخلونه صائرين أبناءا للآب بالشركة في جسد ابنه في الروح القدس ، فحينئذ تتاح لهم فرصة المعرفة الحقيقية التي” هي الحياة الأبدية “( يو 17 ) . فالملكوت هو الفرصة الوحيدة لمعرفة الثالوث ، لأنه باختصار الفرصة الوحيدة للولوج النعموي إلى شركة الثالوث ، أما ” الآن فإننا ننظر في مرآة ، في لغز “( 1كو13 : 12 ) ، ولكن هذا لايتناقض مع كون أنه ينبغي أن يتوفر في صورة المرآة ، هذه ، الحد الأدنى من الملامح الذي يستطيع أن يمثل بكل صدق الصيغة المعرفية التي يجب أن تراها أذهاننا – بالطريقة التي ترى بها أذهاننا – لحقيقة الثالوث ، أما الاستسلام لتبني صورة مشوهة فهذا يعني – واقعيا – الاستسلام للانحراف العقيدي ، وربما للهرطقة . وأما استحالة إدراكنا لأعماق حقيقة شركة الثالوث – في هذا العالم – لا يعني بأي حال من الأحوال إخماد الفتيلة المدخنة التي لأذهاننا ، تلك التي من المزمع إشعالها في الروح القدس ، فتضيء أبديتنا . ولكن إن ماتت فتيلتنا فمن أين لنا بأبديتنا ؟!
نعود إلى اللغز ، إلى المرآة ، لغز الاحتواء المتبادل ، في مرآة أذهاننا ، فنسأل : كيف يمكن أن تتبدل المواقع – في ذات الحدث الواحد – فيصبح المحيط محاطا ، بينما هو محيط ، ويصبح المحاط محيطا، بينما هو محاط ؟ .
لفك طلاسم الأحجية بات من الواجب علينا أن نبذل جهدا مضنيا لإيجاد تعريف لمفهوم الاحتواء الذي تكشفه شركة الثالوث ، والذي من المتعين أن يكشف تمايزا لانهائيا عن ذلك المفهوم الانطباعي للكلمة الذي تفرضه علينا طبيعة أذهاننا الزمكانية . والمدخل الأمثل لذلك هو التعامل مع المفهوم من خلال توصيفه كعلاقة ، وإذ ذاك نستطيع أن ندرك خصوصية العلاقة في تفردها وتمايزها عن أي علاقة أخرى بصفة عامة ، أي بالنسبة لخبرتنا بأي علاقة في الكون .
وأفضل منطلق للبحث عن تعريف لله هو ماقد عرف الله به ذاته قديما حينما أخبر موسى ( في خروج 3 ) بهذا الاسم ” أهية الذي أهية “، ” أنا الكائن بذاتي “، وقد احتفل قديسنا هيلاري بهذا التعريف الإلهي واعتبر أن أنسب تعريف لله هو التعريف به من منظور وجوده .
إذن ،
شخص الآب هو الله ، لأن الله موجود من ذاته .
شخص الابن هو الله ، لأن الله موجود بذاته .
شخص الروح القدس هو الله ، لأن الله موجود في ذاته .
ذاته هي ” منه به فيه “، أي ” من الآب بالابن في الروح القدس “.
الذي من الآب هو الذي بالابن هو الذي في الروح القدس هو الذات الإلهية .
الآب الذي يستعلن الذات الإلهية ، كمصدر ، يحتوي الابن ( المستعلن للذات ، كملء ) ، ويحتوي الروح ( المستعلن للذات ،كفيض ).
فالمصدرية التي للآب تحتوي الملئية ( من الملء ) التي للابن وتحتوي الفيضية ( من الفيض ) التي للروح .
الذي يجعل كيانا ، يحتوي الكيان الذي يحتويه – مع بقاء الكيانين متمايزين ، غير متماهيين – هو انتماء كليهما لذات الجوهر والطبيعة الواحدة .
مثل هذه العلاقة الكاملة لامثيل لها بين الموجودات ماعدا الوجود الإلهي ، حيث يمثل ” الاحتواء المتبادل ” التوصيف الوحيد للعلاقة الثالوثية . هكذا يكشف مفهوم ” الهوموأووسيوس ( homoousios ) ” أن العلاقة بين شخوص الثالوث هي نمط عجيب لايمكن توصيفه بمصطلح غير “ العلاقة الذاتية ” .
الأساس في العلاقة الذاتية هو أن الشخص يشخصن ( يؤقنم ) الذات ( الجوهر ) ، فالذات ليست طبيعة محايدة بين الأقانيم ولكنها على الدوام هي مشخصنة بمبادرة من شخص يحتوي – ويحتوى من – الشخصين الآخرين .
وإذا كنا قد حررنا أذهاننا بالفعل من انطباعاتنا البدائية الساذجة عن معنى ” الاحتواء ” فيجب أن أن ندرك أننا لسنا بصدد مفهوم مادي استاتيكي بل على العكس ، الاحتوائية في الثالوث هي مفهوم يتماهى مع حدث إنتاج الوجود الإلهي ، فالاحتواء بين شخوص الثالوث هو الاختراق الوجودي السرمدي .
أن يحتوي الآب ابنه الوحيد ، أمر يعني ان الله هو الكيان الحي الوحيد الذي يوجد ( بكسر الجيم ) ذاته ، ومصدريته متأصلة فيه أزليا بنفس قدر تأصل ملئه ، النابع من تلك المصدرية . هنا قد تم احتواء البنوة من قبل الأبوة ، أي احتواء الموجد للموجود ولكن ماذا لو قلنا إن الله هو الكيان الحي الوحيد الموجود بذاته ، ألا يعني ذلك احتواء البنوة للأبوة ، أي احتواء الموجود للموجد ؟
الله دائما هو الله ليس لأنه جوهر الله الحي بل لأنه دائما الشخص المتضمن للشخصين الآخرين ، فلا يوجد الجوهر عاريا مطلقا .
الله هو الله فعلا لأنه شخص الآب المتضمن – والمحتوي ل – الابن والروح .
الله هو الله فعلا لأنه شخص الابن المتضمن – والمحتوي ل – الآب والروح .
الله هو الله فعلا لأنه شخص الروح القدس المتضمن – والمحتوي ل – الآب والابن لأنه روح الآب وروح الابن .
ولكي لاتضيعنا الكلمات لابد أن نقر بتماهي مفهوم ” الاحتواء ” مع مفهوم ” الضمنية ” ، فليس هناك معنى لكلمات الرب ” أنا في الآب والآب في ” غير ” الآب يحتويني وأنا أحتوي الآب” ؛ فعندما يوجد شخص ما في شخص آخر فهذا يعني بالضرورة وبالتعريف أن هذا الأول يحتوي ذلك الآخر .
خلاصة
الاحتواء هو الفعل الإيجابي الديناميكي المبادر الذي يجعل الشخص يتخطى ويتجاوز ذاته مشخصنا إياها ، وفيما يصنع ذلك فهو يتضمن الشخصين الآخرين . وإرادة الوجود ، الحرة ، التي للشخص، تسبق الوجود ذاته سبقا وظيفيا هويتيا ( من الهوية ) ( إذا جاز التعبير ) ، ولا يمكن أن يليق بالله إلا أنه وجود شخصي. هكذا يكشف مفهوم الاحتواء المتبادل أن العلاقة بين شخوص الثالوث القدوس هي العلاقة التي تكشف” ذاتية الوجود الإلهي ” . وأما الاحتواء فهو الحدث المتجدد سرمديا لإنتاج الوجود الإلهي .
د جورج حبيب
الاستاذ مجدى داود
سلام فى الرب يسوع و الروح
قرأت المقالين عن الاحتواء المتبادل اللذان كتبهما الدكتور جورج و كذا التعليقان اللذان(بالمناسبة هما مقالتان و ليس تعليقان) كتبهما الاستاذ مجدى داود و كذا رجعت لبعض ما كتبه الاستاذ مجدى على مدونته و على موقع سيرافيم ساروفسكى و اذا سمحا الاستاذان بتعليق من جانبى :
تعلمت من القديس اثناسيوس ان كل عقيدة ليس لها اثر مباشر او غير مباشر على حياة البشر فهى لا ترقى الى مرتبة العقيدة و ايضا ان كل عقيدة فى المسيحية مما تفوه بها المسيح له المجد تنعكس بالضرورة على حياة البشر فالكلام الذى تفوه به روح و حياة و للدكتور جورج مجموعة من المحاضرات حول المجد المذخر للانسانية الجديدة فى المسيح بالروح القدس و هى دليل على ما اقول؟
اقول ان الطريقة التى تم تنناول بها الموضوع فيها كثير من التجريد و الفلسفة و علم اللغة و هى امور اعتقد ان ثالثها مهم و اولها و ثانيها ليسا كذلك
ان كانت ابوة الاب تدخل حيز البشرية حيث منه تدعى كل ابوة(ابي ربنا يسوع المسيح الذي منه تسمى كل عشيرة في السموات وعلى الارض)
ان كان الاعلان عن ان الله شخص و انه مثلث الاقانيم واحد الجوهر تجد لها صدى حقيقى يرتجى فى العلاقات البشرية و يجد تحقيقه المباشر (بحسب الاب يوحنا زيزلانوس فى كتاب الوجود شركة ) فى الكنيسة و فى علاقة الزوجية
اجد هنا ان اى فكرة عن الثالوث مهما كانت معقدة تجد لها اثرا مباشر او غير مباشر فى حياتنا البشرية حتى لو على سبيل الترجى و الترقى و التجلى و النمو المستمر للانسان الباطن فى المسيح يسوع
هل يمكن تطبيق الاحتواء المتبادل على العلاقات البشرية؟ هل فى احتضان المرشد الروحى للخاطئ صورة من الاحتواء ؟ هل فى محبة الرجل للمراة صورة اخرى ؟ لا اعرف و لكنى اعرف ان كل علاقة فى الثالوث (من المفترض ) لها بعدا انسانيا يتناسب طرديا مع استجابتنا لكوننا مخلوقون على صورة الله و كوننا اقتبلنا فى المعمودية صورة ابنه وطبيعته و حل فينا نفس الروح الذى لالب وة الابن
ارجو ان تشارلاكا فى الحوار بالتصحيح اذا كنت مخطئا او التعليق على ما كتبت …..الرب معكم
الأخ الحبيب / إيهاب جورج
أشكرك على مساهمتك وعلى طرحك المنطقي .
أتفق معك في أن مدخل آباء الإسكندرية في شرح الثالوث كان الانطلاق من أرضية النعمة ، ولعل خير دليل على ذلك هو عبارة أثناسيوس الشهيرة ” النعمة واحدة من الآب بالابن في الروح القدس “. ولكن ماينبغي العودة إليه لتفهم لماذا تبنى الآباء هذا المنحى هو السياق التاريخي لهذا الشرح الذي يتبنى ذلك المنطلق .
لقد فرض صراع الآباء مع الهرطقات الكبرى لاسيما الآريوسية والنسطورية سياقا ملزما لمنطلق شرح الثالوث ، فعندما يصبح لاهوت الكلمة المتجسد موضوعا للطعن فلابد أن تحدث إزاحة – في طريقة شرح الثالوث – من منطقة المطلق الذي يخص الوجود الإلهي ذاته إلى منطقة النعمة التي استعلن فيها حضور الثالوث في الخليقة . ويصبح من الأولويات القصوى دحض شبهة أن النعمة المستعلنة في تدبير التجسد قد نالت من كمال ألوهية الكلمة الذي له ذات الجوهر الواحد الذي للآب. ويصبح أيضا كأولوية قصوى إجلاء حقيقة شخص الرب يسوع المسيح الكائن في اتحاد إقنومي بين إنسانيته وألوهيته . لم يجد آباء الإسكندرية – المرسخون لقواعد الإيمان – أريحية في سياق شرحهم للثالوث بل كان معظم إنتاجهم إنتاج أزمة وصراع وحرب مع الهراطقة في إطار الخريستولوجيا ولم يتسن لهم سياق الكتابة الهادئة في الثيئولوجيا وبالتالي لم يتسن لهم تبني منطلقا آخرا لشرح الثالوث .
ولكن – وآه مما بعد لكن – الاكتفاء بشرح الثالوث انطلاقا من النعمة أو من الخريستولوجيا أمر شديد الخطورة على عقيدة الثالوث ذاتها ؛ فليس أدل على ذلك من القول بأن ” كل عقيدة ليس لها تأثير على البشر، ليست عقيدة ” والمأساة هنا أن العقيدة أصبحت أسيرة للبشر وربما أصبحت منتوجا بشريا . هل احتاج الثالوث القدوس للبشر لكي يتحقق وجوده ،” كعقيدة ” ؟
الثالوث هو حقيقة وجود الله ، وليس مجرد عقيدة . والثالوث وجود يتجاوز ويتخطى الخليقة والنعمة والخريستولوجيا وكل وجود آخر . ولابد من بذل المجهود اللاهوتي المستميت من أجل محاولة الاقتراب قدر المستطاع من تصور ذهني بشري عن وجود الله في المطلق ، أي خارج أي شيء آخر غير ذاته .
والواقع إن شرحا صحيحا ودقيقا للثالوث خارجا عن إطار النعمة هو الوسيلة الوحيدة الصحيحة لشرح مفهوم النعمة ذاته . وشرح صحيح ودقيق للثالوث خارجا عن إطار الخريستولوجيا هو الوسيلة الوحيدة الصحيحة للتعاطي مع المفاهيم الخريستولوجية . النعمة تفهم من خلال الثالوث وليس الثالوث من خلال النعمة ، والخريستولوجيا تدرك من خلال الثالوث وليس الثالوث من خلال الخريستولوجيا . الأصل هو الثالوث وأما أي شيء آخر فهو مجرد ظل وصورة .
وأما الصبغة الفلسفية والتجريدية فهي حتمية لا فكاك منها في الحديث عن الثالوث في المطلق ، أي خارجا عن إطار النعمة ؛ فالوجود الإلهي المستقل عن الخليقة لا يمكن أن تتعاطى معه أذهاننا إلا في إطار تجريدي فلسفي ، ولكن على كل حال هذا مجهود واجب واجتهاد لابد منه وإلا غرقنا في ذواتنا كصورة للثالوث وتجاهلنا الأصل الكائن سرمديا ، من ذاته وبذاته وفي ذاته ، دون أدنى احتياج لاعتقادنا به .