1– أسألُ في دهشةٍ لا أجدُ لها تفسيراً، إلَّا محبتُكَ للخطاة: لماذا صُلِبتَ بين لصين؟
أراد الرومان واليهود تحقيرَكَ، ولكنك من وراء الزمان، وحسب التدبير الأزلي، كنتَ ترقبُ ذلك اليوم، واخترتَ أن تدبِّرَ خلاص العالم، وأن تموت بين أحقر البشر؛ لأنك لأجل هؤلاء أتيتَ يا محب الإنسان الضائع والفاشل والزاني والزانية والقاتل والمجدِّف والمرائي، هؤلاء كانوا هناك في عصابة الرومان واليهود.
وغفرت للذين جدَّفوا عليك وصلبوك. ولكنك عندما طلبت الغفران من الآب؛ أعلنت أنك الوسيط والمُصالِح: “يا ابتاه أغفر لهم”؛ لأنهم بجهلٍ صنعوا تدبير الشرِّ الذي تحول إلى تدبير خلاصٍ للإنسانية.
2- تحدَّثتَ عن “حَملِ الصليبِ” قبل أن تُصلبَ، وكنت تراه قبل تجسدكَ. كان الألم الروحي أعظم من آلام الجسد. سبقه رفضُ الذين جئتَ لأجلهم “خراف بيت اسرائيل” الذين جئت لكي تعطي لهم “خبز البنين”. ومن داخل جماعتك ذاتها، هرب واحدٌ عريانٌ خوفاً، وباعكَ آخر، وأنكرك أكثرهم حماسةً، ذلك المندفع بطرس الذي لعنكَ، وهو يراك تحاكَم؛ لأنه كان غارقاً في وهم القوة، تلك التي سمع عنها في شمشون وداود، ولم يميِّز القوة الخالقة الحانية التي تقبل الألم، وتدخل عرين الموت لكي تقتل الموت.
3- لم أعرف آلام دق المسامير في الجسد، ولكني وعرفت آلام المرض الطويل. لكن ألم المسامير لم يمنعك من أن ترى أُمَكَ الحنون، وأن تتركها في رعاية “التلميذ الذي تحبه”. لم يغلق الألمُ قلبكَ ولم يحاصرك.
حقاً يا يسوع، لم تعش لنفسك. أنت ابن الإنسان الوحيد الذي لم يعش لنفسه.
4- في تدبير الخلاص لم تخجل من أن تقول: “أنا عطشان”. ولم تحاول أن تخفي خوفك وجزعك في البستان. كان الموتُ ضد طبعك، فقد صرعتَ الموتَ عند قبر لعازر، وطردته من ابن الأرملة، كان حنانك أقوى من الموت.
ولكنك الآن أردتَ أن تسير في “وادي ظل الموت”، وأن ترى ظلام الحياة، وأنت الحياة .. هذا ضدك .. كنت كمن قَبِلَ طعاماً لا يُحبه، فأصابه بوجعٍ هائلٍ .. وهكذا سال عَرَقُكَ في البستان.
تسأل ذلك السؤال الذي تردد في المزامير: “لماذا”؟ لماذا تتآمر الشعوب (مز 2: 1)؟ ولماذا يختفي الرب صانع العجائب في يوم الضيق (مز 10: 1-2)؟ ولكن بعدها يصرخ داود في ذات المزمور: قُم يارب (10: 12 وما بعده).
في الهيكل كانوا ينشدون مزمور (13) “حتى متى يارب تحجب وجهك”، وهو صراخ المساكين. “إلى متى يرتفع عدوي عليَّ، أنظر واستجب لي يا رب إلهي. أنر عيني لئلا أنام نوم الموت” (13: 2-3)، ولكن المزمور ينتهي بالفرح: “أغنِّي للرب لأنه أحسن إليَّ” (مز 13: 6). ويرنم داود مزمور خلاص، يوم أنقذته يا رب من يد شاول: “اكتنفتي حبال الموت وسيول الهلاك أفزعتني. حبال الهاوية حاقت بي. أشراك الموت انتشبت بي” (مز 18: 4-5)، ولكن المزمور يبدأ “أُحبك يا رب يا قوتي. الرب صخرتي وحصني ومنقذي إلهي صخرتي به أحتمي”. وفي صرخةٍ أخرى (مزمور 26) يصرخ داود “أقضِ لي يا رب بكمالي”، ثم “افدني وارحمني” (26: 1-11).
لماذا صرخت وقلت: إلهي إلهي لماذا تركتني؟
قبل ذلك علينا أن نفهم مشاعر القلب المحاصَر بالهموم وبالأحزان، والوحيد، ومع ذلك فهو يخاطب الله “أقول لله صخرتي”، ولكنه يقول بعدها مباشرةً: “لماذا نسيتني” (42: 9)؟
لمن تركتني؟
في العبرانية أداة الاستفهام التي تبدأ بها تلك الصرخة، هي مثل العربية: “ل م هـ” (لمه – أي “لمن”، وليس “لماذا” كما هي في العربية). وأداة الاستفهام “لماذا” وردت (لمه) في تك 25: 32 – تك 32: 29 – تك 33: 15 – أيوب 9: 29 – أرميا 6: 20 – أرميا 20: 18 – عاموس 5: 18.
“لمه” تعني “لمن تركتني”؛ لأن الفعل “ص و ب خ” هو سؤال عن الرعاية: لمن تركتني يرعاني، كما في (تك 39: 6 – أيوب 39: 11 – أو مثل ارميا 49: 11) “أترك أيتامك أنا أحييهم، أراملك عليَّ يتوكلن”، وهو سؤال الرب للنبي أرميا.
لمن تُرك المسيحُ على الصليب؟ وهو سؤالٌ ورد في افتتاحية مزمور 22، ومن خلال المزامير يجب أن نفهم أن الذي يصرخ يقول:
“إلهي في النهار أدعو فلا تستجيب.
في الليل أدعو فلا هدوء لي”.
فهل تركه الله؟
أبداً. لأنه بعد ذلك يقول: “أنت القدوس الجالس بين تسبيحات إسرائيل. عليك اتكل آباؤنا فنجيتهم”.
ماذا يحدث حول الصليب؟ الاستهزاء والشتائم، ثم سخرية الواقفين: “اتكلَ على الرب فلينجيه. لينقذه لأنه سُرَّ به” (مز 22: 3-8).
ولكن بعد هذا الوصف الدرامي لما يحدث من استهزاء وسخرية، يقول المزمور: “لأنه لم يحتقر ولم يرذل مسكنة المسكين. ولم يحجب وجهه عنه، بل عند صراخه إليه استمع” (22: 24). وبقية المزمور هي عن استعلان الرب في المصلوب والمحتَقَر “قدامه يجثو كل من ينحدر إلى التراب …الذرية تتعبد له يخبر عن الرب الجيل الآتي” (مز 22: 3-31).
لمن تُرِكَ المصلوبُ اليوم؟
لرعاةٍ لا يخدمون الإنجيل، بل يسعون وراء السلطة والمال .. لكل مَن تحول من راعٍ إلى جزارٍ يذبح الأبرياء .. للقتلة الذين يقتلون مَن يختلف معهم على حقٍ معلَنٍ في الأسفار، ويظل القاتل يلبس ملابس مزيَّنةٍ بالصلبان.
لا زلتَ تصرخُ يا يسوع ذات الصرخة، عندما يقدَّم جسدكَ ودمكَ لمن لا يعرف المحبة ولا الغفران، ولمن يكذب ويدلِّس ويمسك بالكأس ويقول “إن هذا هو دمك الذي يعطى لمغفرة الخطايا”.
ألم تكن هذه الصرخة الآتية من مزامير إسرائيل هي صرختك النبوية؛ لأنك نبيٌّ وملكٌ وكاهنٌ، وكنتَ ترى “أحاطت بي كلاب، جماعة من الأشرار اكتنفتنين ثقبوا يدي ورجلي” (22: 16)؟
اليوم يقف معك على الجلجثة في وادي النيل الذين فقدوا بيوتهم، والذين قُتلوا في الشوارع، وهُتِكت أعراضهم، واحترقت كنائسهم. لا زالت الجلجثة تطل علينا. ولا زال قبر الكراهية يفتح فمه، ولكنك أيها المصلوب في شوارعنا، وفي قرى مصر ومدنها، وفي الأحاديث حيث يجدِّفُ عليك الذين يكرهون المحبةَ، ويشتمون الصليب، وهو موت البريء وعلامة الغفران.
لقد أصبحنا نقرأ أحداث الخميس والجمعة في تاريخنا المعاصر، ولكن رجاء القيامة آتٍ؛ لأن الجلجثة لم تكن النهاية؛ لأن المحبة هي الحياة التي لا تموت، وإن صُلبت فهي تقوم حيةً.
د. جورج حبيب بباوي
ابريل 2014