فصل الكلمة عن السرائر
لعل أكبر أخطاء حركة الإصلاح في القرن الـ 16 كان فصل العروة الوثقى بين كلمة الله الخاصة بالتعليم، والسرائر. كانت هناك حاجة ماسة للتعليم لا ينكرها أي مؤرخ عندما تحول القداس اللاتيني إلى فرض يؤدَّى باللغة اللاتينية، وكانت الأسفار لا تُقرأ إلَّا باللغة اللاتينية. هناك إشارات إلى ترجمة إنجليزية لإنجيل يوحنا قام بها المؤرخ الإنجليزي Bede حوالي 735 ولكنها فُقِدت.
كان البابا أنوسنت الثاني قد أصدر مرسوماً بابوياً بمنع ترجمة الكتاب المقدس بسبب سوء استعماله في 1199 ولكن أول ترجمة إلى اللغة الإنجليزية كانت في 1383 ومُنعت بقرار من مجمع الأساقفة الذي عقد في اوكسفورد في 1408. ولكن كانت أول ترجمة نالت الانتشار هي ترجمة لوثر إلى اللغة الألمانية في 1521 وأعقب تلك الترجمة ترجمة Tydale إلى الإنجليزية في 1526 ثم توالت الترجمات.
فتحت ترجمات الكتاب المقدس إلى لغات الشعوب الأوربية الطريق إلى التعليم، ولكن التعليم جعل محور كل شيء هو الكتاب تحت شعار حركة الإصلاح Sola Scriptura أي الكتاب المقدس وحده، واعقبها Sola Fide الإيمان وحده. وضرب هذا الشعار حصاراً حول التاريخ الكنسي القديم وكتابات الآباء، بل ولما شنت الحركة حرباً على الرهبنة والنسك على أنها دعوة للخلاص بالأعمال ضد الخلاص بالإيمان أي التبرير بالإيمان وحده – لاحظ أن هذا الشعار، التبرير بالإيمان هو خطأ جاء من سوء أو عدم فهم قراءة رسالة رومية لأن الرسول بولس يضع الصيغة في صيغة المبني للمجهول “إذ قد تبررنا بالإيمان” (رو 5 : 1)؛ لأن حتى العبارة “يُبرر مَن هو بالإيمان” (رو 3 : 26) أعقبها: “لأن الله واحد هو الذي يبرر بالإيمان ..” (رو 3 : 30) التبرير ليس بالإيمان، أي ليس مصدره الإيمان، بل الله، والإيمان هو الوسيلة لنوال التبرير.
أفاقت حركة الإصلاح في ألمانيا، وأرسل علماء جامعة Tubingen وفداً إلى بطريرك القسطنطينية أرميا الثاني (1576-1581) بقائمة من الأسئلة عن عقائد الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية أجاب عليها البطريرك مع أساتذة اللاهوت نُشرت باليونانية والإنجليزية، والألمانية تحت عنوان Augsburg Confession ولكن كانت الأحوال السياسية المضطربة في العالم كله لم تسمح باستمرار الحوار.
يجب الاعتراف بفضل جامعات أوروبا في مراجعة وتدقيق ودراسة التاريخ؛ لأن القرن التاسع عشر مع بداية العشرين شهد اكتشاف الكنيسة الأولى والتي أُطلق عليها اسم Early Church وهي العصر الرسولي الممتد من صعود الرب حتى نهاية الثالث، وبعد ذلك Ancient Church وهي الفترة بعد الثالث حتى مجمع خلقيدونية 451 ولكن جاء النصف الثاني من القرن العشرين لكي يقول إن هذا الفصل هو تعسف في فهم التيار الخاص بالحياة المسيحية المتواصل الذي لم تفصل بينه فواصل زمنية. جاء ذلك أولاً باكتشاف تاريخ قوانين الإيمان، ثم الصلوات القديمة الخاصة بالمعمودية والعشاء الرباني التي سُجِّلت في التقليد الرسولي حوالي 226 مع الشذرات التي جُمعت من كتابات الآباء والبرديات والنقوش القديمة وكتب المؤرخين المسيحيين، ونشرت في ثلاثة مجلدات بعنوان: Worship in the Early Church لمؤرخ معاصر هو Lawrence J. Johnson.
كشفت هذه الدراسات عن ثلاث حقائق أساسية ثابتة عبر خمسة قرون، وظلت كذلك حتى العصر الحديث في الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية فقط. والكنائس الأرثوذكسية هي القبطية – السريانية – الأرمنية – اليونانية، وما تفرع منها بعد ذلك في روسيا والبلقان. هذه الكنائس لها أساسات واحدة رغم الانقسام في 451 الذي نرجو أن نرى له حلاً في أيامنا؛ لأن مديح الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الذي يقول عن معاناة هذه الكنيسة “خرجتِ خروج الشجعان”، والشجاعة هي في قبول الآخر المتفق معنا في كل شيء ما عدا المجمع في 451 لأن طقس تكريس الأيقونات أُخذ برمته من الطقس البيزنطي لا سيما الدهن بالميرون حسبما تشهد وثائق التاريخ.
الحقيقة الأولى:
– قانون الإيمان الواحد.
– الحياة الليتورجية الواحدة وذات السنة الليتورجية.
– قبول الآباء معلمي الكنيسة الجامعة حتى القرن الخامس.
الحقيقة الثانية:
– ذات لاهوت السرائر.
الحقيقة الثالثة:
– ذات الحياة الروحية والنسكية.
ورغم اختلافات طفيفة تاريخية في السنة الليتورجية، إلَّا أن أهم مكونات هذه السنة هي الأعياد السيدية، كلها واحدة بلا خلاف، مع ملاحظة أننا نعيِّد عيد القيامة مع كل الكنائس الأرثوذكسية التي لم تغيِّر التقويم.
ما هو التعليم اللاهوتي الكامن في هذه الحقائق؟
أولاً: وهو الأساس المسيحي لعلاقة الشركة بين الثالوث والإنسانية.
– استعلان الآب كأقنوم في تجسد الابن وانسكاب الروح علينا بواسطة الابن.
– شركتنا الكيانية في الابن كوسيط – رئيس كهنة – شفيع – ذبيحة – الابن الوحيد – المصلوب والحي إلى الأبد والمستعلَن بالروح القدس شركة كيانية.
ثانياً: الابن له المجد في كيانه الإلهي المتجسد جعل الكلمة استعلان الشركة وبلغة العصر الوسيط والعصر الحديث وحَّد الكلمة بالسرائر. بالطبع علينا أن نفهم أن الولادة في المعمودية ليست طقساً فقط، ولا هي لحظة ولادة جديدة، بل هي علاقة التبني – الشركة في بنوة الابن؛ لأن هذا هو عطاء الوسيط بين الله والإنسان. والمعمودية لا تنتهي بالخروج من الماء، بل تبقى فينا عملاً إلهياً دائماً إلى الأبد، وهو حلول الرب يسوع المسيح فينا بالروح القدس. وعلى أساس البنوة نفهم كلمة الله، فهي ليست خطاباً، بل شرحاً لما يتم فينا من نمو. وهنا يجب أن نحذر من الأمور التي تعطل النمو، وهي بالتحديد، الانحراف عن علاقة البنوة إلى الاهتمام بالأمور الوقتية.
ثالثاً: ووحدانية الكلمة والسرائر تظهر بشكل أكبر وأوضح في القداسات؛ لأن القداسات تقوم على ثلاثة قواعد أساسية وهي:
1- استعلان الابن كفادي ومخلص تراه من أول صلاة الصلح حتى تسبحة الشاروبيم (قدوس قدوس …).
2- دعوة الابن لنا في العشاء الرباني التي تبدأ من استعلان التدبير إلى “خذوا كلوا – خذوا اشربوا”؛ لأن هذه هي دعوة الابن لكل الكنيسة. وقبول هذه الدعوة: “آمين بموتك يا رب نبشر وبقيامتك المقدسة” ونحن نبشر من؟ نحن نقبل البشارة بالحي المصلوب لأجلنا.
3- استدعاء الروح القدس. وعندما يكتب أحد الأخوة بأن د. سامح موريس يقول إن ما يقدمه هو “جسد المسيح الحقيقي”، لم يذكر الأخ أن الجسد الحقيقي لا يقدَّم بالكلمة ولا حتى بالنداء: “خذوا كلوا”؛ لأن الرب بفمه الإلهي قال: “أنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد. روح الحق تعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم” (يوحنا 14 : 16-17). واستدعاء الروح القدس هو:
* على المؤمنين.
* على الخبز والخمر.
وهو بعد الاعتراف بالتدبير.
عندما فصلت أشكال العبادة الغربية استدعاء الروح القدس في القداسات واكتفت بكلمات الرب يسوع في علية صهيون. بدأ الشرخ في شكل بدائي، وهو فصل الكلمة عن السرائر، ثم وصل إلى كماله في عصر الإصلاح. حاول يوحنا كالفن تجاوز هذا باستدعاء الروح القدس في قداس جنيف، ولكن هذا حُذف بعد وفاته؛ لأن أحد قوى حركة الإصلاح، هو حكم الفرد الواحد على الكتاب المقدس واللاهوت، وهو دائماً حكم قاصر فاقد للأساس التاريخي؛ لأن التاريخ حفظ التدبير.
وحدانية الكلمة والرب في سر الإفخارستيا:
الإيمان بأن الرب يعطينا حياته، أي جسده ودمه هو الذي يمنعنا من الانحدار نحو هاوية العصر الوسيط، والتي سبق الإشارة اليها عدة مرات، وهي بالتحديد:
* تحول الرب الشخص والأقنوم إلى فكرة في العقل.
* تحول السرائر إلى مصطلحات وكلمات لا تقدم الشركة الشخصية وكلاهما عبارة عن هوة عميقة تجعل الصلوات والتسبيح:
– مجرد وصف لعلاقة خارجية تراه في مئات الترانيم الحديثة، حتى تلك التي دخلت في كتب تراتيل أرثوذكسية. وعندما تصف أي ترنيمة الثالوث، دون أي إشارة إلى علاقتنا الأبدية وشركتنا في حياة الثالوث، فإن هذه الترنيمة تلقي بنا في مستنقع اللاوعي.
والعبادة الوصفية التي تتناول أوصاف الله، وقد سمعت د. سامح موريس على إحدى الفضائيات يتكلم عن صفات الله الأدبية في وجود بعض الأخوة، وقلت لهم هذا كلام يهودي محض؛ لأن الوصف الإلهي هو تعظيم يهوه، ولكن في العهد الجديد ما أُعلن من صفات الله مثل القداسة، فهو لأجل تقديس المؤمنين. الله محبة؛ لأن محبة الله تنسكب في قلوبنا بالروح القدس (رو 5 : 5). الله هو الحكمة؛ لأن الصليب هو حكمة الله التي يرفضها العالم (1كو 1: 18، 21، 23)، ونحن ننال هذه الحكمة – ولا توجد صفة في الثالوث لا نشترك فيها. وأذكر أن الأستاذ اليهودي الديانة الذي جاء لحضور إحدى محاضرات الجذور اليهودية للعبادة المسيحية سألني عن صفة “ضابط الكل” وابتسم؛ لأنه توقع أننا لا نشترك فيها، فقلت له إن ضابط الكل هي صفة الله في الأواشي: “وأيضاً فلنسأل الله ضابط الكل أبو ربنا والهنا ومخلصنا يسوع المسيح. نسأل ونطلب من صلاحك يا محب البشر …”، والمحبة والصلاح هما هنا عن الآب وعن الابن أيضاً، وبعد أن نطلب، فإن الطلبة أو الأوشية تؤكد لنا أن ما نطلبه هو في دائرة التدبير التي نحن شركاء فيها. بالطبع، نحن لا نضبط أي شيء، ولكن ما سوف يُستعلن في اليوم الأخير هو خضوع الخلقة الجديدة للإنسان الجديدة الذي خلقه يسوع المسيح من جديد (راجع بدقة عب 2 : 5) عن العالم الآتي الذي لم يخضع للملائكة، بل لنا.
وحدانية الأقنوم الذي لا ينقسم إلى لاهوت وناسوت:
المسيح الرب هو إلهٌ وإنسان، وبدقة أكثر، هو الإله المتجسد الله الظاهر في الجسد (1تيمو 3 : 16). ولذلك، كل قراءة لأسفار العهد الجديد يجب أن تُفهم على هذا الأساس الأبدي. وعلى سبيل المثال لا الحصر، كل ما قاله الأنبياء عن الغضب ودينونة الخطاة في العهد القديم، هو محصورٌ في إطار العهد الأول، أي القديم الذي مضى وشاخ وأصبح قريباً من الاضمحلال (عب 8 : 13). أما في العهد الجديد، فإن الآب لا يغضب على أعضاء جسد ابنه، المؤمنين به (أفسس 5 : 29). ونسوق مثالاً آخر أكثر وقعاً، لا نسمعه، وهي كلمات الرب على الصليب: “يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون”، فنحن، أي البشر، قتلنا وصلبنا، ولكن المحبة التي تواجه الموت على أيدي الإنسانية التي جاء المحب لخلاصها لا تطلب إلَّا الغفران، رغم العداء الشديد من جانبنا، ولذلك يعبِّر القداس الغريغوري عن هذه الحقيقية: “يا الله الابن الوحيد الذي في حضن الآب. الذي حلَّ عداوة البشر”، فهل بعد تفوق المحبة الإلهية على خطايا الإنسان بما لا يسمح بمقارنة، أن نزيِّف اللاهوت، ونتكلم عن نظريات الفداء والكفارة، ودفع الثمن؟!!
جاء لكي ينقذنا – صلبناه،
ومع ذلك لم تسقط محبته لنا. (يتبع)
دكتور
جورج حبيب بباوي
تعليق واحد
In summary, with the modern European enlightenment man became the center of the Universe and the measure of everything and the children of God became the followers of Wards of God. As if Emmanuel (God with us and in us) is asked to go back to heaven so man can rule creation. The formal is a repeat of the first fall of Genesis, the latter is the denial of the incarnation (the spirit behind both is the same spirit of “submission”), it made Christianity a religion, and the children of light became the people of the books. A Christian became empty and without the Living water or the life and light of God.