مشكلة هذا الجيل أنه فقد الرؤيا الليتورجية، وهي أننا في خدمة الثالوث القدوس لنا (القداس الإلهي)، نحن ندخل حياة الدهر الآتي التي لا موت فيها. هذه الرؤيا ليست شيئاً يُستهان به، بل هي رؤيا شاملة يسبقها الصوم؛ لأننا لا نأكل خيرات الأرض الصالحة في شوقٍ وانتظار لخبز الحياة الأبدية، الإفخارستيا. وهذا هو سبب الصوم قبل التناول، ولست أعرف سبباً آخر له. والصوم هنا ليس قانوناً ولا فرضاً، بل هو تعليم موجَّه وموجِّه للقلب لكي يترك بحرية ومحبة، ويختار ما هو أبدي في حدود استطاعة كل فرد حسب الظروف الصحية والسن، بل والقدرة على الامتناع عن الطعام.
أعود إلى مسألة “التحفِّي”، أي الدخول إلى الهيكل بقدمين حافيتين؛ لأن هذا هو التسليم الكنسي الذي عرف أننا في حضرة الثالوث بصورة أكثر كمالاً من تلك التي حدثت لموسى عندما قيل له اخلع نعليك؛ لأن الأرض التي تقبل حلول الله لا تقبل أن يكون في الإنسان شيءٌ ميِّتٌ، وهو جلد النعل – هذا هو شرح القديس كيرلس عمود الدين.
هل هذا ينطبق على الملابس المصنوعة من الصوف والحقائب .. الخ؟ هنا ندخل نفق “الفتاوى”؛ لأن التعبير الرمزي “للتحفِّي” هو تحول الوعي الإنساني من الحياة العادية إلى الحياة السمائية، تلك التي نعبر عنها في صلاة الساعة الثالثة: “إذا ما وقفنا في هيكلك المقدس فنحن نحسب مع الواقفين في السماء”. الموضوع هنا ليس من قبيل الإلزام والقانون، بل هو ارتفاع العقل والقلب والوعي إلى ما هو أعظم، هو اختيار المحبة النارية التي تطلب ما هو فوق. “ارفعوا قلوبكم”، أي إلى ما هو سمائي، أو حسب قول رسول الرب: “أجلسنا معه في السماويات”.
بالطبع، تجنُّب الفتاوى والفروض ضروري لمن يحيا حسب “حرية الروح”، وإلزام المحبة النارية ليس مثل إلزام الشريعة؛ لأن المحبة تلزم من يطلب ما هو أعظم، وهو هنا الشركة في الحياة الإلهية.
أمَّا فرضُ أزياء وملابس من نوعٍ معين بقوة الشريعة، فهذا غريب تماماً على المسيحية وعلى الأرثوذكسية بشكلٍ خاص، بل حتى فرض الصوم الانقطاعي قبل التناول هو ضد حرية المحبة، وحرية المحبة ليست هي الفوضى والانحلال.
لا أخفي جزعي على جيلٍ لم يستلم الحياة الأرثوذكسية، وهو لذلك، يعُدُّ ضحيةً سهلةً لكل فتاوى الاكليروس، وسقوط هذا الجيل في شباك الفتاوى هو أخطر ما يصيب الحياة المسيحية الأرثوذكسية.
التسليم الكنسي يدعونا إلى سلوك المحبة التي تولد فينا بالروح القدس (رو 5: 5) وهو ما يجعل غاية كل ما نقوم به من طقوس هو اكتشاف الحضور الإلهي للثالوث؛ لأننا نبدأ الخدمة: “مجداً وإكراماً إكراماً ومجداً للثالوث القدوس”، أي المجد والإكرام الخاص بالثالوث القدوس، وهو المجد المستعلَن في تقديم الابن لذاته لنا في سر الشكر.
عندما نفقد هذه الرؤيا الإيمانية التي تغرسها العقيدة، تتحول الطقوس إلى قيد غامض غير مفهوم.
يبقى أن نقول إن دخول الهياكل بالأحذية هو ممارسة إخوتنا في الإيمان السريان والأرمن والروم، وتفرُّد الطقس القبطي يجب أن يُفهم بعيداً عن تأثير الإسلام؛ لأن يوحنا كاسيان زار الأديرة في القرن الرابع قبل دخول الإسلام مصر بحوالي 200 سنة، وسجَّل دخول الهيكل بدون نعال أو أحذية كممارسة لآباء الاسقيط.
أخاف من التطرف لغياب التعليم عن المحبة الثالوثية التي تضبط الحرية ولا تسمح بالتهور؛ لأن التهور هو انفلات العبد من سلاسل العبودية، أما الحرية فهي التي تشحذ المحبة وتجعلها تميِّز بين القيد أو السلسلة الوافدة من الشريعة، وبين الرموز والعلامات التي تكشف لنا عن حضور الله الثالوث لكي يشاركنا في حياته.
أُرحِّبُ بأي تعليق مهما كان؛ لأن السؤال والتعليق يؤكد لنا ضرورة السير في الاتجاه الصحيح، ولا خوفَ في المحبة ولا رفضَ للحوار.
مع محبتي الخاصة للأخت نادية سليدس تكريماً لأستاذنا سمعان سليدس الأستاذ السابق بالكلية الإكليريكية الذي تعلمنا الكثير من كتابه “الصلاة على المنتقلين”.
د. جورج حبيب بباوي