خميس العهد هو ذلك الحدث الجليل الذي قلع من الوعي كلَّ صورةٍ مزيَّفةٍ عن العطاء والبذل وتقديم الذات “قرباناً”. لولاه ما كان لدينا الخدمة الإلهية، أي الليتورجيا.
وبدون هذا العطا غير المألوف والذي لا مثيل له في التاريخ، كنا سنصبح مجرد شاهدين ليوم الجلجلة، يوم الصلبوت، لا مشاركين فيه، فقد بدأ “سكب الدم”، وتقديم الجسد بواسطة يسوع، إذ لا يتجاسر أحدٌ أن يقدِّم دم الرب وجسده لآخر، ولكن الرب قدَّمه بنفسه وقال: “هذا هو جسدي … هذا هو دمي”.
أشرقت محبة يسوع بنورٍ غير مألوفٍ، ولا ينتمي إلى ما نعرفه عن الحياة، بل وعن المحبة. أحب يسوع فقدَّم ذاته بذاته، فلا يمكن لآخر أن يقدمه، عطاءٌ شخصي حقيقي.
لكن عقل الإنسان مزق الرؤيا، وحولها إلى صراع عقلي دخل حلبة العقيدة، وحاول العقل منذ القرن الحادي عشر أن يسجن عطاء الرب في مصطلحات عن التحول في الخبز والخمر، إذ لم يفهم المجادلون أنهم بالحوار حول تغيير الخبز والخمر قد ابتعدوا عن “شخص الواهب”، وأقاموا ثنائيةً عقليةً تفصل الواهب عن الهبة، بل ودخلت محبة الرب نفق التحليل الفلسفي عن الذكرى وعلاقة العلية بالجمعة العظيمة، وهكذا قسَّموا الرب إلى أحداثٍ تاريخيةٍ، وكان يسوع هو ضحية هذه الأحداث، لا صانعها، و”خالق كل الدهور”. بل جاء السؤال في مجمع أفسس 431م: هل قدم يسوع لاهوته أم ناسوته؟ والجواب كان بدوره سؤالاً: هل كان الجالس وسط التلاميذ لاهوتاً بلا ناسوت، أو العكس ناسوتاً بلا لاهوت؟ وهل كان الصوت القائل: “هذا هو جسدي”، هل كان يقصد الجسد فقط، وكأنه نسى أنه الكلمة الابن الوحيد؟ وكيف يعطي الجسد ويقدِّم للحاضرين، وكأنه جزءٌ من الشخص، ومن أين تأتي قوة التقديم وسخاء التوزيع على الحاضرين؟
أيُّ إنسانٍ يمكنه أن يقدم جسده ودمه ويظل حياً بعد ذلك، يُصلَب ويُدفَن؟ أيُّ ناسوتٍ يمكنه أن يسفك دمه لغفران الخطايا؟
حقاً قال الرسول: إن بشارة الصليب عثرة لليهود لأنها فاقت كل ما كانت الشريعة قادرة عليه، ولليونانيين أهل الحكمة جهالة (راجع 2 كور 2: 23)؛ لأن القوة صارت للمحبة. وتغيير ما لا تقدر الأسلحة عليه بالمحبة، هو النفاذ إلى الوجدان والإدراك.
أراك بيديك “الطاهرتين اللتين بلا عيبٍ ولا دنسٍ” تقدم ذاتك، فالويل لمن قسَّمك إلى لاهوت وناسوت؛ لأن هذا التقسيم ينزع عنك محبتك للبشر.
ها أنتَ عند مائدة الكنسية لاتزال تقدم حياتك لنا في الليتورجية. حقاً إنك صُلبت مرةً واحدةً؛ لأن الموت غُلِبَ وهُزِمَ تماماً في العلية بالعطاء. وعلى الصليب سحقت الدينونة ومزَّقت حكم الإدانة. وفي القيامة أشرق الخلود، وحياتك غلبت الفساد.
وها نحن ندخل إلى خدمتك أنت؛ لأنك أنت هو مؤسِّسُها، وأنت واهبها. نقدم الخبز والخمر لك لكي نتواصل معك ونستجيب لدعوتك: “اصنعوا هذا لذكري”. وعندما نصنع الذكرى نشترك، وعندما نقف أمامك يا مَن عبرتَ من بوابة الموت لكي تنقذنا من الموت، تعبر إلينا في كل قداسٍ، فالموت “يعمل فينا” كعدوٍّ مغلوبٍ، والحياة تعمل فينا قوة اتحاد بك. ولو اتحدنا بناسوتك وحده، فقدنا ينبوع المحبة الحقيقية، وهو أُلوهيتك. ولو اتحدنا بلاهوتك وحده، تعذَّر علينا الخلاص من فساد إنسانيتنا التي تحتاج إلى ذات التحول العظيم والأبدي إلى من “لا يسود عليه الموت”، وكانت إشارة الغلبة Nika يسوع الغالب هي ختم محبتك الأبدية.
كل عام وأنتم بخير