رحل الأبنودي، ولكن الأكفان لا تضم القصائدَ، والشعرُ لا يُدفَن في قبور. رحل الأبنودي، وقد سبقه أحمد فؤاد نجم، وصلاح جاهين، وفؤاد حداد، وهم رواد شعر العامية الذي يحفظ -بأقل كلمات عامية ممكنة- دقات قلوب الفلاحين والعمال والتلامذة والآباء والأمهات. رحل الأبنودي كما رحل روادٌ عظام، سلسلة تمتد من طه حسين مروراً بتوفيق الحكيم، وصولاً إلى نجيب محفوظ، وكأن الموتَ بابٌ يقف أمامه طابورٌ من الرواد كلما حل دور واحد منهم ولجه عائداً إلى خالقه.
سوف تبكيك حروف العامية يا خال. ستبكيك الألف، وقد تبكي الياء، ولكن الباء وهي أول حروف البسلمة، سوف تبقى لأن مصر دائماً حُبلى بالرجال. القوافي تسير مع الزمان، وتصارع الرتابة، وتدخل في دنيا الحالمين والمعذَّبين والمتمردين، تشق رتابة الحياة وتصبح أغنيةً أو قصيدةً تقال.
ينحت الشاعر من الواقع صوراً كلاميةً تخلق مشاعر جديدةً، وتجعل من ظلام الليل أماني الفجر ونور الصباح.
يقف الشاعر على شاطئ الحياة اليومية ليرمي طوقَ نجاةٍ من الغرق في اليأس، ومن عذاب الحياة وهمومها، فيأتي المغني ليجعل طوق النجاة هذا متاحاً لمن يُحسِن الاستماع.
يموت الشاعر، ويبقى الشعرُ؛ لأن القبور -على كثرتها- تعجز عن دفن الشعر واحتوائه؛ لأن الشعر نسجٌ من نسيج الحياة العقلية قوامه اللغة. وطالما نحن نفكر ونتمنى ونصرخ، تظل كلمات الشعر في ذاكرتنا، حتى تلك التي نرفضها، تهل علينا في زمانٍ يؤكد أن رفضها لم يكن القرار الحكيم.
قد نتفق مع الأبنودي أو نختلف، لكن الأبنودي يظل مثل مسحراتي رمضان، يدق الطبلة ليصحو النيام، وإن كان الأبنودي قد تجاوز المسحراتي وتعداه؛ لأن كل زمان هو رمضان، ولكل حادثٍ دقات قد تصيب من يسمعها بالإحباط، أو الدهشة، أو التمرد.
في زمان الهزيمة، أيام كانت مصر حزينة كتبت يا خال: وبلدنا عالترعة بتغسل شعرها، جاها زمان مقدرش يدفع مهرها. ولكني الآن أسمح لنفسي أن أقول -بعكس الأصل- إن بلدنا عالترعة بتغسل شعرها، جاها زمان بيدفع مهرها. لأن المهر يا خال يُدفع في كل يوم على حدود الوطن، وفي شوارع مصر المحروسة من رجال الشرطة والقوات المسلحة وأفراد الشعب البسطاء.
سوف نظل يا خال نذكر كلماتك والقوافي؛ لأننا مازلنا نفكر ونحلم ونبكي ونهمس ونصرخ ونفرح بلغة شعب مصر، العامية.