إطلالة الكلمة المتجسد ابن الله علينا نجدها في كل إنسان. لم يكن التجسد فكرة؛ لأن كل فكرة تفقد فاعليتها عندما تظل على الورق، إذ تنتهي على رف في مكتبة يقرأها الناس، ليس بالضرورة بقدرة عقلية، بل قد تدخل الفكرة في غابات الغرائز، أو الخوف، أو النسك أو الغضب .. وهي كلها تدور حول محور محبة الذات، والدفاع عن النفس، ولو كان ذلك بالهجوم على الآخرين ..
ما أكثر الأفكار! .. الديموقراطية عُرفت منذ أرسطو، فهو صاحب هذه الكلمة، وهو أول من كتب عن الدولة المدنية في تزامُنٍ مع جمهورية افلاطون .. ولكن تأمل مسيرة الفكرة عبر قرونٍ سُفِكَ فيها دم البشر، وهُدمت مدنٌ على رؤوس ساكنيها في قلب العالم المتحضر الذي أفرز الفاشية والنازية والماركسية .. وعلى رفوف مكتبات هذا العالم المتحضر ظلت أفكار دعاة الحرية معروفةً، وفي قدرة كل إنسان أن يقرأها .. ولكن كل هذه الأفكار والمبادئ الجيدة المدونة على الورق، للأسف، لم تجد من يجسدها.
أقدم الشرائع وتخلف البشر:
يقولون لنا في كتب التاريخ إن حمورابي ملك بابل هو أول من وضع شريعةً مكتوبةً للدولة .. وتزامن هذا مع ما نشأ في مصر الفرعونية .. ثم جاءت القوانين الرومانية .. وقد سبقت روما الكثير من الحضارات القديمة إلى تدوين شرائع لا زال بعضها يحتل نصوص القوانين الأوروبية، بل والعربية أيضاً .. ولكن القانون لم يحمِ روما، ولا حتى جيشها المنظم، استفاد من تجربة الإسكندر المقدوني … وسقطت روما رغم تقدمها، ونقل قسطنطين عاصمة الإمبراطورية إلى ما يُعرف اليوم باسم اسطنبول … وضاعت عاصمة الامبراطورية تحت ضربات العثمانيين. ولم تُنقذ مدونة جوستنيان – وهي أكبر موسوعة قانونية عرفتها الحضارة الرومانية اليونانية – الإمبراطورية من الانهيار.
القانون، كما قال أساتذتنا في كلية الحقوق – جامعة القاهرة، هو قواعد السلوك التي تحميها القوة عند الاقتضاء .. سمعت هذا أكثر من مرة، وهو وصفٌ شاملٌ صحيح .. ولكن لم نسمع لا في كلية الحقوق ولا في غيرها، كيف يُعلِّم القانونُ الإنسانَ السلوك، ولا كيف يمكن أن يغرس الخوف من العقاب، الأمانة، وكيف تستطيع كل القوانين أن تعلِّم الإنسان احترام الآخر دون خوف من عقوبة، أو لوم، بل مجرد احترام للإنسانية .. ثقةً في أن الكل يعرف الاحترام الذي تزرعه الحرية، بل وتدعمه تلك القوة الخلاقة التي نعرفها باسم المحبة.
فشل قانون العقوبات عبر العصور:
السلوك الجيد قناعةٌ في القلب، هو وليد المعرفة، وهو يشرب من محبة الوالدين، ومن صداقات في المجتمع تربي الاطمئنان وتحترم رأي الآخر، لا تقسِّم المجتمع؛ لأن التقسيم هو بذرة العداوة التي لا يمكن لأي قانون أن يستأصلها من قلب أي إنسان.
العقوبة تؤكد الدونية وتغرس احتقار النفس، أي نفس من تعدى وأخطأ. والعقوبة تجيء من ينبوعٍ هو الخوف، والخوف صديقٌ حميم يغرس الاحتراس وتفضيل الذات، وبذلك يقتل التضحية والبذل الذي تزرعه المحبة.
لقد فشلت العقوبات في محكمة نورمبرج التي أعدمت قادة النازية في أن تستأصل الكراهية العرقية .. وعادت تطل برأسها في حرب البوسنة، وفي أحداث متفرقة في عالمنا العربي.
ونلاحظ أن الكراهية تأخذ عدة أثواب ترتديها في فخر: ثوب الانتماء الديني – الأصول العرقية – مصادرة الحريات الأساسية التي لا يمكن أن تعتبر ترفاً، مثل حرية التعبير عن الرأي، وغيرها .. سمعنا فكاهةً مؤلمةً عن قيادات شيوعية وسمعناها عن فرانكو اسبانيا، فعندما مات ستالين وفرانكو، كان أعوان كل منهما في حيرة: مَن الذي سوف يُبلغ الزعيم بأنه مات !!!
ومع ولادة طفرة الإعلام … دخلت السينما والموسيقى عالمنا، وأسرتها الأنظمة الشمولية .. وشبكة المعلومات، صارت ملاذاً للباحثين عن الجنس والمخدرات، بل والإرهاب وصنع القنابل وسرقة البنوك، ويقف القانون عاجزاً عن أن يمس مجرمين أذكياء يسرقون ويصدرون الإدمان ويزرعون الخوف.
فما هي أسباب عجز أشد القوانين ضراوة؟
السبب الأول: هو تحايل الإنسان على القانون نفسه، والالتفاف على النص سهل ميسور، لا سيما في ظل انعدام الحرية.
السبب الثاني: هو غلبة الغرائز لصوت العقل، وشريعة الغرائز دائماً بلا عقل. ورغم إحكام الأنظمة البوليسية في النظم الشمولية إلاَّ أن الفساد دخل قلوب النظام البوليسي نفسه؛ لأن فئةً تريد أن تحكم بالقوة والعنف لكي تهتك الأعراض وتسرق المال العام؛ لأن الوطن ليس وطناً للجميع، بل هو لفئة دون فئات أخرى.
السبب الثالث: هو ثقافة القهر وزرع الخوف بالسلطان، وهناك مقولة يرددها البعض دون بحث: “الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”. ولكن سلطان مَن؟ ومَن الذي يمسك بعصا السلطان أو سيفه؟ فهو ليس الله، بل هؤلاء الذين يدَّعون أنهم يحكمون باسم الله، وهم بشر لا عصمة لهم؛ إذ لا يوجد قلب إنسان يخلو من رغبات خاصة وشهوات خفية.
ما بين التقدم للخلف وفقدان المستقبل:
غريب أن نقول: “التقدم للخلف”؛ لأن الخلف والتقدم هما معاً حركتان في عكس الاتجاه .. لكن ذلك الحلم الذي يراه البعض عن عصر ذهبي كان موجوداً منذ ألف سنة أو أكثر أو أقل ليس أكثر من خرافة أو خيال. تأمل إنساناً في القرن الـ 21 وعقله في القرن السابع أو الثامن أو العصر الوسيط .. هو لا يعرف الحاضر، ولا يفكر في المستقبل .. مأساة وأي مأساة أن تحاول استرجاع ما مضى رغم أنه مضى وغاب في الماضي القريب أو البعيد .. ويكون حجم المأساة أكبر؛ لأن ما نظن أنه العصر الذهبي كان بلا مقومات تجعله يحيا أكثر ويدوم لفترة أطول. وعندما قال ابن خلدون في “المقدمة”، وهو كتاب لا بُد من دراسته بعناية تامة: “ما طار طير وارتفع إلاَّ وكما طار وقع”، فإن المغزى ليس في طيران الطيور، بل في تعاقب الثقافات والحضارات .. إن الصلاة والصوم وقراءة كل كتب ديانات الأرض لن تحرر فلسطين، فقد جاء قوم أخذوا بأسلوب الحرب الحديثة ولعبوا “لعبة الأمم” بمهارة دون صوم أو صلاة وبدون العودة للتوراة، وأخذوا الأرض.
التقدم للخلف هو أن نظن أن السابقين أقدر منا على كل شيء. هذا يساوي فقدان الثقة بالنفس، ويساوي فقدان الصلة بالحاضر، ويساوي ضياع المستقبل. والتقدم للخلف هو محاولة إحكام السيطرة على رقاب الناس وحياتهم بشرائع – مهما كان مصدرها – دون العودة إلى أصلها التاريخي، ومدى حاجات البشر في تلك الحقبة التاريخية إلى هذه الشرائع، وهي حقبة ذهبت ولن تعود لأن الأيام لا تسير إلى الخلف بل إلى الأمام.
كتب عبد الله العروي كتابه المشهور، الذي لم يعد مشهوراً “العرب والفكر التاريخي” في محاولةٍ منه لأن يقول إن ما حدث في حقبات التاريخ الماضي لا يمكن أن ينسجم مع التاريخ المعاصر، وإن النظريات والقوانين لا تقود التقدم، بل الذي يقود التقدم هو: حرية البحث – التجديد – الإبداع – ديناميكية العلاقات الانسانية التي تؤمن بالتقدم وتسعى دائماً الى البحث عن الأفضل.
هذا رأيناه في الطب – الزراعة – الهندسة – الاتصالات – وبكل أسف استفاد تجار الحروب من التقدم، كما استفاد تجار الجنس من شبكة المعلومات.
الإنسان هو مرجعية الإنسانية:
سألني صديق عن سبب إيماني بالمسيح، فقلت له دون تردد: تجسُّد الكلمة.
وابتسم صديقي، وقال: اشرح، فقلت له .. لقد مر الإنجيل، أي البشارة المفرحة، بكل منحنيات العجز والقهر والخوف والشك التي عرفها الإنسان. هاجمه النقاد. اتهمه الذين يدَّعون معرفة الديانات المقارنة بكل اتهام ممكن. صوَّره عابدي القوة بأنه دعوةٌ للضعف .. مئات من الملفات، بل ألوف من الأوراق تُكتب ضد الإنجيل، تحاول تحويل تجسُّد الكلمة إلى كتاب، مع أن الإسم نفسه “تجسُّد الكلمة” يفيد بأنه تجسَّد في حياةٍ إنسانيةٍ، وليس على الورق.
جاءت المجامع بكلمات دفاعية ضد الهرطقات: “المسيح واحد من طبيعتين”، ثم قال آخرون: “واحد في طبيعتين”، ودب شجارٌ لا زال ساري المفعول منذ 451م. مر عليه 1500 سنة! .. خلافٌ على “في” و”من”، ونسى المحاورون كلمة “واحد”… تحول التجسد إلى فكرة دفاعية .. وضاعت الإنسانية، نعم إنسانية يسوع، بل تخيَّل البعض إن الكلام عن إنسانية يسوع يتساوى مع إنكار إلوهيته. وصارت الكلمات هي معيار الحق .. ونسى الوجدان إن من قال: “أنا الحق” لم يكن عبارة أو كلمات، بل شخصٌ حي، علَّم، ومات، وقام وصعد إلى سماء الحياة العليا، تلك التي نزل منها ليجعل الحياة السفلى عليا …
صار الحوار حول “آيات الكتاب المقدس”، هذا يضرب بآيات، وآخر يدافع ويهاجم بآيات أخرى ..
تحول التجسد من حياة إنسانية إلى أفكار .. كلمات .. نظريات .. لكن من قال: “أنا الحق” لا يدخل قفص الفكر؛ لأنه أضيق من أن يسعه .. ولأن صديقي فيلسوف محترم سألني على طريقة الفلاسفة: كيف يمكن أن يكون الإنسان هو مرجعية لنفسه؟ سؤال جيد، ولكن الالتزام عند يسوع ليس بالإنسان كفكرة، ولا بالإنسان في إطار نظرية .. الإنسان عند يسوع هو الإنسان الجائع الذي لا يحتاج إلى نظرية تؤكد أنه جائع .. الإنسان الغريب الذي بلا مأوى هو فوق كل الدساتير والأنظمة .. المريض الذي يصارع الألم، السجين خلف قضبان .. الإنسان كما هو في الحياة، كما نعرفه … أمثال الملكوت كانت عبارة عن مناظر من الحياة اليومية: الزارع، الابن الضال، الفريسي والعشار – وغيرها. 99 % من تعليم من قال: “أنا الحق” ليست نصوصاً، ولا هي آيات، بل كانت مبنية على حركة الحياة .. تُعلمنا حركة الحياة مَن هو الإنسان في أشد حاجاته وفي أعظم تطلعاته.
الإنسان فوق كل العقائد؛ لأن العقائد ليست سجناً للإنسان، بل هي أصلاً للدفاع عنه، ولكنها تحولت إلى سكاكين لقتل حرية الرأي .. الإنسان مكانه فوق كل ما يأتي به القانون؛ لأن القانون لا يُلزمنا أن نعطي الطعام للجائع، أو نأوي الغريب، أو نزور السجين .. وعندما يأمر القانون بذلك ويعاقب المخالف .. لا تصبح الصدقة من الصدق، بل تصبح اتقاءً للعقوبة. ولم تعد زيارة المريض رحمة، بل حملاً ثقيلاً وفرضاً يقتل الحرية.
هكذا حذف يسوع كل الأفكار والنظريات وقال: أنا هو الجائع – أنا هو الغريب – أنا هو العريان – أنا هو العطشان .. وظهرت هذه الملامح في وقائع الصلب، فقد هرب أعز أصدقائه عند المحاكمة، وأنكره صديق مخلص أمام جارية، وصرخ عطشاناً، وكان غريباً لم يجد من يدفنه إلاَّ صديقٌ قديم، تقول عنه أُنشودة قديمة إنه تقدم إلى بيلاطس وفي رجاءٍ قال: “أعطني هذا الغريب ..”.
وبعد،
يا من تجسدت في شكلنا الإنساني؛ لأنك تحب الإنسان .. يا من عبرت كل حواجز الزمن والقوانين لتقول: أنا الإنسان، ويا من قيل إنك ابن الإنسان الذي لأجله وضع السبت، وهو أعظم من كل هيكل وبناء .. يا ليتنا نلحق بك عندما نتمسك بالانسانية.
وسألني صديقي أيضاً: ماذا قال يسوع عن الإنسان في أكمل حال؟ وقلت له: تكلم عن الكمال في المحبة .. فالمحبة هي طريق الكمال، وليس للمحبة شريعة أو قانون لأنها حركة الحرية في الإنسان، وللحرية باب واحد صحيح هو المحبة، إذا أغلق أمام الحرية ضاعت المحبة وضاعت معها الحرية .. فلا حرية بلا محبة ولا محبة بلا حرية.
عندما تخطئ المحبة تجد طريق الحق بسهولة؛ لأن طريق الحق يُكتشَفُ بالتقدم والاسم القديم للتقدم هو التوبة في لغتنا العربية، وفي لغة يسوع هو تغيير الاتجاه، أقصد اتجاه الحياة.
د. جورج حبيب بباوي