المواطنة ليست فكرة جديدة جاءت مع بزوغ فكرة الدولة الحديثة، فقد كانت الامبراطورية الرومانية التي أرادت أن توحِّد العالم المتدين الذي أُطلِقَ عليه اسم “المسكونة”، هي أول من أسَّس فكرة المواطنة؛ لأن المواطن Civil هو من يحيا داخل مدينة تتمع بالحقوق المدنية التي تعطي للمدينة mtramuros ثم صارت هذه الحقوق هي ذاتها التي تُعطى لكل مواطن في أية ولاية من ولايات الامبراطورية الرومانية.
وكان حق المواطنة يورِّثه من يملكه. وكان قوام هذا الحق عدة عناصر أساسية هي: الحرية – المحاكمة العادلة أمام قاضِ – الاستعانة بالشهود – حق الدفاع عن النفس – الولاء للإمبراطور – السلوك حسب القانون الروماني – المساواة التامة بين كل سكان المدن ما عدا العبيد. وكان الامبراطور كراكلا (212) هو أول من توسَّع في إعطاء حقوق المواطنة ومنح حق التصويت في مجالس المدن ius sutragil وحق رفع الدعوى أمام المحاكم. ثم جاءت مدونة جوستينان في القرن السادس الميلادي؛ لتؤكد كل ما حدده القانون الروماني القديم، لكن تحت باب Civis Romans أكدت مدونة جوستينان أن المواطنة منحة وليست حقاً.
المواطنة السماوية في رسائل القديس بولس:
المواطنة الرومانية وردت في سفر الأعمال (16: 37 – 38) واستخدمها القديس بولس ليمنع جلده بدون محاكمة (أع 22: 25 – 27)، بل دفع بأنه وُلِدَ وورث حق المواطنة (أع 22: 28)، وهو ما أعطى القديس بولس الحق في أن يقدم شكواه ويرفع دعواه لدى قيصر.
استخدم القديس بولس كلمة “مواطنة” لتعريف الوجود المسيحي في المجتمع الروماني نفسه، ولكنه أضاف في عبارة مشهورة في رسالته إلى كنيسة أفسس: “أنكم رفاق مواطنون مع القديسين وأهل بيت الله” (2: 19). وهنا لاحظ – عزيزي القارئ – ان كلمة “مواطنة” تُرجمت – في الترجمة البيروتية – إلى رعية / رعوية، وهي كلمة غامضة([1]).
أمَّا مواطنة السماء، فهي هبة الله في يسوع المسيح، وهو ما نراه جلياً في صلوات التسبحة السنوية:
“بقى إلهاً كما هو
وصار إنساناً كاملاً
لكي يحل زلة آدم
ويخلص مَن هلك
ويصيِّره مواطناً mpolit/c
في السموات
ويرده إلى رئاسته
كعظيم رحمته” (ثيئوطوكية الثلاثاء – 5)
ورغم سقوط النظام الروماني، إلاَّ أن فكرة المواطنة ظلت حيةً، ودخلت في أدبيات وقوانين الشعوب الأوروبية قبل وبعد الثورة الفرنسية، ولعبت دوراً كبيراً في تأكيد مبدأ المساواة في الحقوق، وهي أول دعامة للديموقراطية (حكم الشعب).
ويُلاحَظ أن المواطنة ليست معروفة في اليهودية ولا في الإسلام. أمَّا في المسيحية، فهي الانتماء الأبدي “لأهل الله” (أفسس 2: 19)، أو “لأهل بيت الله”، وهو شعب الله الذي يحمل الاسم الذي اختاره الرب يسوع المسيح نفسه، وهو “الكنيسة”. وقد فقدت الكلمة معناها؛ لأن كلمة “إكليسيَّا” من الفعل اليوناني “يدعو”، وهو لا يختلف عن دعوة واختيار الله للإنسانية كلها في يسوع المسيح قبل خلق العالم (أفسس 1: 3 – 4)، فالمختارين = القديسين = المؤمنين = شعب الله = المواطنين السماويين.
هذه المنحة أو العطية الإلهية لا يمكن لأي مخلوق أن يعبث بها أو ينكرها؛ لأنها دعوة من الله وليست من البشر، ولذلك السبب استقرت العبارة المشهورة أن من ينطق بحرمٍ باطلٍ يقع الحرم على رأسه.
العبث المعاصر:
عندما نقرأ في أدبيات جماعات التطرف أن مصر يجب أن تُفتح من جديد، وأن الجزية يجب أن تُفرض على النصارى، فهذا نوع من العبث السياسي ينكر حق المواطنة الذي رسخ في الوجدان والقانون المصري، ويدعو مسيحيي مصر إلى التمسك حتى النفس الأخير بالمنجزات الحضارية والإنسانية التي توصلت إليها البشرية في صراعها الطويل مع الأنظمة الفاشية التي عفى عليها الزمن، وتجاوزتها مواثيق حقوق الإنسان في العصر الحديث.
والدعوة إلى إعادة فتح مصر، تعني انتقال العداوة من الممارسة السياسية إلى ممارسة دينية تهدف إلى إقصاء الذين يختلفون في العقيدة وفي الانتماء إلى جماعة غير تلك التي تنادي بالإقصاء، وبالتالي ينهمر سيل “الحرمان والإقصاء” متوازياً مع سيل إنكار “المواطنة” ليؤكد أن المواطنة أضحت تخضع لتقدير زعماء سياسيين ارتدوا مسوح الدين للعبث بأحد مقومات الشخصية المصرية (راجع الأعمدة السبعة للشخصية المصرية للدكتور ميلاد حنا)، أو لرجال دين أضحوا يتعاطون السياسة من خلال منظار ديني يفرض عليهم تأثيم الآخر؛ لأن الصراع السياسي – بكل أسفٍ – سار في طريق الإقصاء، بل والإلغاء، إلغاء الأحزاب السياسية – تأميم الصحف – وضع رقابة على كل ما يُنشر، بل وحتى ما يقال في الاجتماعات الخاصة بواسطة أجهزة التنصت، أو وجود من يمثل القوى السياسية من أجل زعيم هذه القوة لا من أجل المصلحة الوطنية العليا.
رئيس كل المصريين:
سادت مصر قبل ثورة 25 يناير توصيفات سياسية واقتصادية أُضفيت على الفترة ما قبل ثورة يوليو 1952، وما بعدها، وقد توزعت هذه التوصيفات ما بين: الرجعية – الاشتراكية – الرأسمالية – النظام الملكي – النظام الجمهوري .. إلخ. وهكذا تم تقسيم حقبة ما قبل 25 يناير 2011 إلى قسمين: عهد الرجعية وعهد الثورة .. تزامن هذا مع إقصاء رموز الحياة السياسية مثل أقطاب حزب الوفد وغيرهم، بل وإقصاء بعض قيادات “الضباط الأحرار” ذاتهم، وأخيراً تجيء موجة تكفير المجتمع، وهي الثمرة السامة لما حدث في المعتقلات، والبذرة التي غرسها الجلادون .. وهكذا سمعنا عن الفلول – النظام السابق– الثأر للشهداء.
والتقسيم والإلغاء والمصادرة، خلقت شرخاً كبيراً في حياتنا الوطنية. وكان ولا يزال طريق إرساء الحقوق بواسطة القانون والمحاكم هو تراثنا الوطني الذي جسَّده الجهد الفقهي القانوني الذي احتواه التشريع المصري في مجمله منذ عصر السنهوري، وهو أعظم ما عرفه العالم العربي والإسلامي أيضاً في العصر الحديث في باب التشريع.
الرئيس القادم والبطريرك القادم
لذلك يجب أن يكون الرئيس القادم رئيساً لكل المصريين، يعبِّر عن ذلك الدستور الجديد الذي يجب أن يرى النور في القريب العاجل. الرئيس القادم لديه مرجعية القانون – مراقبة البرلمان – المحكمة الدستورية العليا، ثم رفض شعب مصر لكل ما يخرج على الشرعية الدستورية. تماماً مثل البابا الـ 118 الذي يجب أن يكون الأب الروحي لكل المصريين، ليس للكنيسة الأرثوذكسية فقط، بل لكل شعب مصر، من مسلمين ومسيحيين، لديه في ذلك أعظم مرجعية في تاريخ المسيحية، وهي شريعة المحبة كما صِيغت في: (1 كور 13: 1 – 8).
وإذا كانت موجة العداء المعاصرة في الحياة الكنسية قد سبقتها مطاردة نشطاء وقيادات حركة مدارس الأحد واستبعادهم وإقصائهم، باعتبارهم عملاء للغرب، فها هو التاريخ يعيد نفسه – وإعادة التاريخ دليل على عدم التقدم إلى الأمام بل التراجع والتقهقر إلى الخلف – حيث اتهم بعض المطارنة نشطاء التيار العلماني في الكنيسة بأنهم عملاء للغرب، بل وألصقت التهمة بكل من يكتب في موضوعات خاصة بالكتاب المقدس أو اللاهوت بأنه ينقل عن الغرب، فضلاً عن اتهامه بأنه عميل لإسرائيل، وهو اتهام غريب وعجيب!!!
جاءت انتخابات البابا 116 الأنبا كيرلس السادس بنهاية الصراع بين الجيل الجديد الذي قدَّم القمص مكاري السرياني – القمص متى المسكين – القمص أنطونيوس السرياني، وبين الجيل السابق على عصر مدارس الأحد، وحُسِم الصراع بعد انتقال الأنبا كيرلس السادس لمصلحة الأنبا شنودة الأسقف العام والأنبا صموئيل أسقف الخدمات .. ولكن الصراع عاد يبرز من جديد بدون المرجعية الأولى والأخيرة، وهي “المحبة”. وقد سبق رحيل الأنبا شنودة الثالث صراعات غير معلنة على الملأ إلاَّ من طرف واحد، وهو مجلة الكرازة، وشرائط الكاسيت. واحتدام الصراع الآن يجب ألاَّ يتحول إلى ذات الصراع الذي تشهده الساحة المصرية بين مرشحي الرئاسة المصرية في جولة الإعادة .. الهدف مختلف تماماً .. الأبوة الروحية في مقابل رأس السلطة التنفيذية، رئيس الجمهورية. كما أن آليات الصراع غير آليات الخدمة، وهي البذل والمحبة، حتى محبة الأعداء التي حرص قداس القديس كيرلس أن يضمنها أوشية السلامة: “الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم، أعدائنا وأحبائنا اللهم ارحمهم”.
فهل يستطيع الذين تقدموا للترشح أن يتنازلوا لمن هو قادر على أن يكون خادماً للكل، أم أن هناك فزاعات نسمع عنها: ملفات خاصة – الانتقام من الرجل الحديدي الذي يخيف البعض بأن تحت يده ملفات تحوي شروراً وتجاوزات كنسية لبعض الأساقفة، فإن كان ذلك صحيحاً وصمت عنها، فيجب أن يحاكم علناً لأن الصمت هو مشاركة في الشر، فقد عرف الشر وسكت عليه.
وإذا كان الرئيس القادم لديه مؤسسات قادرة على حماية الحرية وإعطاء الحقوق على المستوى المدني في الدولة، فإن الوضع في الكنيسة على غير ذلك؛ وذلك لغياب مؤسسات كنسية مثل المحكمة، وليس المجلس الإكليريكي الذي لا قانون له، وهو بذلك يكون فاقداً للشرعية، كما أن غياب مدونة قانونية تعترف بها الكنيسة كمرجعية، جعل كل الصراعات تسير على نمط واحد، هو التقدير الشخصي.
وإذا كنا قد قرأنا عن المواطنة السماوية وعضوية جسد المسيح الكنيسة، وأنها فوق كل قدرة إنسانية يمكن أن تمسها، ولكنها تعرضت لانتهاكات خطيرة في الفترة الماضية. ففي أول زيارة لبابا الإسكندرية بعد انقطاع يعود إلى 451 م سأل البابا بولس السادس عن أسباب حرمان المتنيح الأنبا مينا، وهل حوكم، وما هي التهم التي أُسندت إليه؟ ولم يكن لدى الذين سمعوا السؤال – وأنا واحد منهم – رداً، بل غلب الخجل الكل. وقال البابا بولس السادس أنه لا يملك أن يمنع كاهناً من الخدمة بقرار شخصي، ولمَّا سئُل عن الأسقف لوفيفر، وكان يقود حركة انقسام في فرنسا، وشريكاً لليمين السياسي الفرنسي، قال إن الفاتيكان في حوار معه، وهذه مشكلة تحتاج إلى بعض الوقت، لكن لم يصدر قرار بحرمانه.
رأب الصدع:
يجب أن ينص الدستور الجديد على تجريم التمييز بين أبناء الوطن الواحد على أساس الدين، أو على أساس الانتماء السياسي لأي حزب يعترف به النظام السياسي المصري.
كما يجب إعادة هيكلة التعليم، وهو الثورة الحقيقية التي سبق أن قُدمت كمشروع للرئيس السادات، ولكنه ضاع في صراعات كامب ديفيد، والصراعات الداخلية، حيث يجب أن يعود التعليم إلى المهمة الأولى في حياة الإنسان هي:
– حرية التفكير لا ضرورة الإتباع.
– القدرة على التفكير لا الحفظ عن “ظهر قلب”؛ لأن الحفظ هو بمثابة “تحنيط للفكر” وتحويل العقل إلى مومياء أو آلة تسجيل.
“نتعلم لكي نفكر بحرية”، تلك العبارة التي سخر منها أحد قيادات مباحث أمن الدولة وهو يقرأ مذكرة قدمت للرئيس السادات بعنوان “مستقبل التعليم في مصر”. فهو لا يريد لأي انسان يفكر كما يريد، بل كما تريد وزارة الداخلية. وعندما يدخل التعليم رواق الأمن أو حتى رواق الدين – مهما كان هذا الدين – فإن قمع حرية التفكير هي الحفرة التي لا يمكن تفاديها في طريق الحياة؛ لأن الدين هو ارتباط العضوي بالمطلق، أمَّا التعليم فهو بحث دائب دائم عن الأفضل الآتي في المستقبل الذي لم تظهر بعد كل صفحاته …
رأب الصدع في الكنيسة
التعليم الأرثوذكسي له مرجعية معروفة وثابتة، وهي: الكتاب المقدس – الآباء – الليتورجيا.
لقد شهدنا إقصاء البعض بتهم عقائدية كاذبة .. صدرت عن تقدير شخصي وبلا مرجعية، بل أشاعها الذين يجهلون العقيدة الأرثوذكسية والكتاب المقدس … وأنا أخشى أن نستمر في ذات النهج، ولكن القضاء على هذا الخوف هو في المواجهة بمرجعية كنسية لمن يشاع عنه أنه هرطوقي.
إذا جاء البابا الـ 118 بذات أسلوب المحاكمات في الإعلام، وحشد الاتهامات وقتل حق الدفاع عن النفس، فإن التاريخ سوف يعيد نفسه، أي العودة أو التقدم للخلف …
إذا كان الشباب هو الشرارة التي أشعلت ثورة 25 يناير، فإن على شباب الكنيسة تأمين وجود المرجعية الكنسية بالرد الكنسي على أكاذيب عاشت معنا طوال أكثر من ربع قرن من الزمان، والنشر لا يحتاج إلى مال وفير لأن شبكة المعلومات صارت هي العدو الأول للقهر والظلم والمواجهة بالحق والمحبة معاً، بالشهادة من التاريخ الكنسي بمحاصرة المشاكل في مربع واحد هو مربع المحبة .. ربما هذا هو الجهد المطلوب قبل أي جهد آخر؛ لأن “الله محبة”. كما يجب أن تكون المحاكمات علنية وذلك يتفق مع ما هو سائد في القانون الكنسي مثل قوانين الرسل. أمّا أن يستمر ما هو متبع الآن، فإن ذلك يعني أن تصبح هذه المحاكمات مجرد وسيلة سياسية لحشد الأتباع، وهو أسلوب النظم الشمولية، والكنيسة ليست نظاماً شمولياً، بل هي جسد المسيح الواحد.
الحل بالتعليم هو أسلوب مؤسِّس الكنيسة، وهو حلٌ يبقى في القلب لأنه جزء لا يمكن فصله عن الحياة الأبدية. ولذلك يجب العودة إلى معاهد التعليم لزيارتها ورؤية ما حل بها وإقالتها من عثرتها: الكلية الإكليريكية وفروعها – معهد الدراسات القبطية – المعاهد المتخصصة. المدرس المؤهل الذي يقدم ما لديه من المرجعية الكنسية هو المطلوب، أما شطحات الفكر وخيالات العصر الوسيط وتأملات لا تخلو من التقوى، فهي لا تبني صرح الحياة؛ لأن الأرثوذكسية قائمة دائماً على تعدد الشرح لأقوال الله، وهو تعدد فيه اقتراب من الحقيقة لا لهدم الحقيقة. وتفاسير الآباء وعظاتهم هي الشاهد الأول والأخير على ما نقول، فقد وضع كل من آباء الكنيسة الكتب التي تفسر الكتاب المقدس حسب الاحتياج، وحسب ما يشغل الكنيسة من صراعات وأخطار وحسب كل أب في استيعاب سر المسيح.
لغة الحوار
عندما درست كتاب د. مصطفى حجازي: التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور – المركز الثقافي العربي – الطبعة التاسعة 2005، أحسست أنه يكتب عن نصف قرن من تاريخ الكنيسة القبطية. طبعاً تغيير بعض الأسماء ضروري، ولكن يظل الجوهر واحد.
كان الاتهام الموجه لي مكتوباً بخط البابا شنودة نفسه، هو أنني أشجع الطلبة على قراءة الأدب العلماني مثل قصص نجيب محفوظ، كان هذا الاتهام هو أعظم اتهام لأنني أردت أن يعرف مَن يدرس معي أن مصر ليست هي تلك التي يرى منها شريحة صغيرة في الحياة الكنسية.
الإنسان المقهور هو إنسانٌ عاجزٌ عن الحوار، وهو إلى حدٍ بعيد سبب استمرار قهره؛ لأنه مثل غيره يتستر على الجرائم التي تُرتكب في الخفاء، ويقبل الخضوع التام للسلطة التي تقهره.
والقهر أحادي الاتجاه، فهو يبث صوت الزعيم ولا يقدم مرجعية ولا يرضى بالبحث، وهو يخشى الحوار، ولذلك، التمسك بالحوار هو شرارة التغيير، أما تفتيت المعارضة فهو دأب سياسة القهر. ولا يجب أن ننسى أن اجتماع المعارضة ظهرت أول باكورة له في “صوت المعمدان” الذي صرخ في وجه السلطة: “لا يحل لك”.
الإنسان المقهور لا يعرف حقوقه الإلهية، أي تلك التي وُهِبَت له في يسوع المسيح، ولك أن تتأمل التقوى الشعبية التي تفسر تقبيل يد الأسقف أو الكاهن لأنه يحمل جسد المسيح، ولكن ماذا عن أن كل مؤمن هو نفسه عضو في جسد المسيح، وهو الذي يتناول جسد المسيح ليكون “واحداً مع المسيح”؟
لا بد وأن يستغرق رأب الصدع وقتاً، ولكن اختصار الوقت ممكن لو نشأ مجمع للعلمانيين غير المجلس الملي الذي هو عبارة عن مجلس أعيان منذ نشأته وبحكم هذه النشأة. مجمع للعلمانيين لا يسعي للاعتراف به بالمرة، يكون مجمع شهادة وصدق، يستند على الحق الإلهي المدون في الكتب المقدسة، وفي الممارسة الليتورجية التي تمنع القس والأسقف من الصلاة لو رفض شخصٌ واحد أن يعطيه الحل.
الطريقُ طويلٌ، ولكنه دائماً ما يبدأ بخطوة واحدة، ومن كان يصدق أن ينهار حكم 30 سنة في عدة أيام؟ لكن ذلك حدث، عندما وقف الشباب أولاً وبعد ذلك سار الشعب كله مسيرة بدأت بيوم 25 يناير.
نتمنى أن يجيء على الكنيسة يوم مثل ذلك اليوم. لا نقدم طلبات إحاطة، بل نقدم البديل ونرفض الاعتراف بما يصدر من قرارات غير منسجمة ولا متوافقة مع ما استقر في تراث كنيستنا.
([1]) راجع ترجمة الرهبنة اليسوعية التي نشرتها دار المشرق بلبنان، حيث تقول: “بل أنتم من أبناء وطن القديسين، ومن أهل بيت الله”.
5 تعليقات
ثورة الملائكة (١)
رائع يا دكتور جورج
الله يطيل من عمرك وعطاءك الفريد فى هدفه, لأخراجنا من دائرة صغيرة إلى رحاب ثقافية تاريخية أوسع وأعمق, لأن التاريخ لا يمكن تجزأته, ولا يمكن الأستغناء عن شريحة من شرائحة مهما تناهت فى الصغر واللامركزية, وإلا تعطلت الخدمة نفسها, فالكنيسة لا تحيا لأجل نفسها, ولا من أجل مُرديها, ولكن من أجل الجميع, بل من أجل المرضى بداء عدم التحضر أيضاً …… حَيتْ وتحيا وستحيا !!
أما عن تلك الدائرة الصغيرة التى حُبسنا فيها عمداً عقوداً طويلةً من الزمان, كانت صغيرةً وضيقةً جداً, فهى محددةً بمتطلبات رغبات أشخاص الرئاسة من أجل مصالح شخصية, لأستعمار عقول ونفوس البشر …. بل وأموالهم أيضاً, لتدمير ما تبقى من معانى الحضارة والقيم والأخلاق لتنحصر عضوية الكنيسة فى صياغة الولاء والبراء ….
ولاء لأشخاص مريضة بداء السلطة والهيمنة, وبراء من كل قيم الحضارة والأخلاق المضادة لشهوة الظلم من أجل البقاء, ولكى تبراء من ظلم الولاء, عليك أن تدفع من حريتك وحضارتك وأنسانيتك إن أردت البقاء.
فرحم الله زماناً كان يُقدَم فيه البطريرك للرسامة مكبلاً بالقيود حتى لا يهرب, ليتولانا الله برحمته فى زماناً يتكالب فيه الجميع على الكرسى الشاغر الذى لا يتسع إلا لمقتعد وحيد, حتى الاساقفة أصحاب الوزنة المتميزة فى الخدمة, تركوها للبحث عن وزنة أكبر وأثقل وأغنى وأوفر مجداً وسلطةً, ليكملوا الانزلاق وراء العالم وشهواته.
وأنا هنا أتشرف بأن أكرر عرض أقتراحنا السابق مرة أخرى, لأنشأ دراسات فى علم المصريات, لننتفع بها جميعاً, حتى ولو كانت بصياغة عناوين أرشادية لضيق وقتكم وما يسمح به, لتقمون بفتح كوى المكتبات والتاريخ أمام المتعطشين لمعرفة الأصول, لنتأصل جميعاً فى تربة واحدة, لأنه كما كان هكذا يكون, فننموا جميعاً فى معرفة حق الأنسانية, لأجل رفعة الأنسان- أى أنسان- لتسقط الطائفية والأنعزالية, ليتحقق لنا- كما تمنيتم أنتم- لتسقط ورقة التوت الأخيرة, التى يحتمى بها جهل الرئاسة فى دهاليز طاعة طيور الظلام التى نشرها ليستمر وينتشر ويتوغل ليقتل كل معارض تجرأ وفتح الشباك!
ليتم تجنيد مواهب وقدرات خدمة المسيح لأجل خدمة أغراض شخصية من أجل البقاء والاستمرار بالنهج النرجسى, الذى يضاد ويعارض بشدة نهج خدمة صليب المسيح, الذى جاء لحياة كل العالم.
وبأقرار هذا الحال المتدهور المتأزم منذ عقود طويلة, نتأكد من ضرورة ثورة الملائكة من أجل تأصيل المحبة لكل العالم, التى ستعيد الأتزان لتربح المحبة والبذل والعطاء ومحبة الآخر مهما كان مختلفاً.
أذن فثورة الملائكة ضرورة لتعيد رجل الدين إلى مكانه ومكانته كحارس لأنتشارالمحبة الباذلة فى ربوع العالم.
ولربما كان من الضرورى ان نتذكر مقولة فولتير:
رجل الدين الجاهل يثير أحتقارنا,
ورجل الدين المتعصب يثير أشمئزازنا,
وأما رجل الدين المثقف الواعى فهو الجدير بحبنا وأحترامنا.
لأن الثقافة الحقيقة الواعية لرجل الدين هى حكمة جهالة الصليب من أجل العالم. ليحيا مثالاً للبذل ومحبة الآخر. لأنه ليس من عبد أفضل من سيده.
الله عليك يا أستاذ سوستانيس
تعليقك رائع … ويفتح أبواب أسئلة كثيرة ومجالات كثيرة أيضاً.
أنت بالبلدي كده … لوحت دماغي … يعني صححت فكري ونظرتي لأشياء كثيرة.
أرجوك أكمل … الموضوع عاوز تكميل.
اشكرك
ثورة الملائكة (٢)
شكراً لك يا أستاذ أنسى فؤاد
طلباتك أوامر
بدايةً وقبل أن نخوض فيما لا شاطئ له … يلزمنا أن نذكر بأن تسمية هذه المقالات بهذا الأسم أستُعيرا من رائعة ” أناتول فرانس ” وروايته الشهيرة ” ثورة الملائكة ” ١٩١٤م إن جاز لنا تلك الأستعارة.
ركائز ثورة الملائكة:
أولاً: السلطان الكنسى الذاتى:
إن أردنا الصدق …. نجد أنه لا وجود لمصطلح السلطان الكنسى فى الأنجيل, فالمسيح لم يأتى لينصب سلاطين, بل ليمسح ملوكاً ليسوا من هذا العالم !
وننتهز فرصة غياب المفاهيم الأبائية عن حياتنا الكنسية, لنذكر حقيقة ما وصلنا إليه ….
السلطان الكنسى هو أصل مصابنا, ومُجَرِى دموعنا, وسبب نكبة عصرنا, لأن ذاتية السلطان لها سكين غليظ يعمل فى رقابنا.
ليتم ذبحنا بشرعية سكين الكبير, بحجة أن المؤمن المتضع المداس عليه بمطانية الخضوع الذليل, هو التقدمة المقبولة لدى الله الآب, لجلب سيل بركات وعطايا السماء , للشعب المسكين الخاضع لأرادة الحامل الوحيد لكهنوت المسيح !
غير عالمين بأن الروح القدس لم يأتى ليُتَدنَ بالأنسان مرتبةً, بل ليرفعه درجات ليعلو ويعلو حتى يجلس عن يمين الآب.
أما هؤلاء المنتفعون من سلطنة السلطان, نجدهم يقررون كذباً بأنه الوحيد الذى يسكن الروح داخله, ليهبه بدوره للآخرين. ليثبتوا حُكْمَهُ الغاشم السمائى علينا, ليبررون لباقية الشعب بعدم جواز ظهور آراء أخرى بجوار رأيهُ الرشيد, الذى لا يأتيه الباطل لا من تحته ولا من فوقه ولا حتى من جوانبه !
لأنه من يستطيع أن يقاوم الروح الساكن فيه, وأذكر هذا بحزن شديد, ليظهر السلطان وكأن الروح القدس أكل أنسانيته ومقوماتها, ليعطيه مقومات أخرى أضافيةً كأوزوريس أحد أنصاف آلهة الفراعنة !
والعرض السابق يضعنا وللأسف فى مواجهة ما لا نحب الاقرار بوجوده, إلا أنه بالحق موجود, ولا مفر من الأعتراف به, كأسلوب كنسى مثبت من الأصول السلطانية, للتعامل مع شعب المسيح. فتقديم كرامة الشعب كذبيحة مقبولة من السماء لدىّ هؤلاء المرضى, جعلت التحليل النفسى لهم واجب وشرط أساسى لنفهم سر ما نعانيه.
لنجد هؤلاء المرضى يتحدثون بأستمرار وبعلانية وبأصرار عجيب عن وجوب خضوع ذليل لشعب المسيح ” رب الحرية الحقيقة “, لمُدَعىِ سلطان سمائى مطلق والسماء منه براء, ليطيع الشعب طاعة عمياء بلا نقاش أو جدال, فلا فكرة للأمام ولا خطوة للخلف, فالسلطان من أمامكم والبحر من خلفكم !
وهذا السلوك الكنسى المشين يكشف لنا عن أمراض نفسية قد تفشت فى السلطان وزبانيته من الشعب على حد سواء. فميل زبانية السلطان للخضوع الذليل يكشف عن أتجاهات ماسوكية Masochism لدى الممارسين له, وفيه يشعر المرء بأرتياح من تلقى الأهانة والأذى النفسى من محبوبه, وخاصاً إن كان السلطان طليق اللسان وحلو المعشر وتلقائى الفكاهة.
أما حب التسلط والهيمنة الجوفاء من كل معنى راق فهى تكشف عن ميول سادية عند السلطان, Sadism وفيها يستمتع المرء بأنزال العقاب الصارم بلا رحمه لمستحقيه, ويستطيبَ له ألحاق الضرر النفسى بهم, بدون أن يراجع نفسه أو يعطيهم فرصة الدفاع عن أنفسهم, لئلا يعودوا فيرحمهم, وهكذا ينتشر فى عصر السلطان السادى أقاويل كثيرة, وأتهامات أكثر على مستوى روايات المصاطب, بدون محاكمات حقيقة, أى بدون عدالة حقيقة, لئلا تتعطل متعته السادية.
وقد نسبت السادية إلى ” الماركى دى ساد ” Marquis De Sade الذى يعتبر من كبار الكتاب الفرنسيين فى القرن الثامن عشر” ١٧٤٠م – ١٨٨٤م “. ولم يكن ” ساد ” مجرد ماجن ينوع اللذات ويتذوق منها ما امتزج بالألم, وانما كان مفكراً وفليسوفاً أستغل خياله الخصب فى صياغة فلسفته فى الحياة. ومحور هذه الفلسفة التمرد على نظام الكون الذى يبيح الشر وعلى الطبيعة الأنسانية التى تستطيبه, ومن ثم فأن ” ساد ” يحتل مكاناً فريداً فى عداد المفكرين الذين واجهوا الحياة برفض مطلق.
ونخلص إلى أن السادية لا تعنى بالمرة فقد القدرة العقلية والذهنية, فهو انحراف نفسى ينطبع ويظهر فى السلوك العام, مقترناً بحكمةً عقليةً قويةً تبرر وجوده, وتملى فروضه على مستقبليه, وبكل آسى وحزن نؤكد أن قوة حجة السلطان وفصاحته, وطلاقة لسانه, وعمق منطقه, وشمولية ثقافته, وبراعة حكمته, ودقة رؤيته, وثقابة نظرته, لا تشكل بأى شكل من الاشكال حماية له من اصابته بالسادية, بل على العكس من ذلك تماماً, فكلما زادت وبرزت مواهبه كانت الفرصة اكبر وارحب واكثر أماناً للنفس المريضة بان تظهر وتطفو على السطح بكل نقصانها بدون خجل لأنها تملك من أدوات التأثير والاقناع الكثير لتختفى فى ثوب الحملان ! فليرحمنا الرب الأله الحقيقى من ذوى المواهب المرضى.
وليس من الضرورى ظهور تلك الميول بصورتها النقية فى كافة الحالات, فأختلاط الميول السادية والماسوكية بنسب متفاوتة تشكل البعد أو القرب العام من المرض النفسى, فالتصور بوجود خط فاصل بين ما هو طبيعى وما هو مرضى, لهو تصور خاطئ فالمسألة ليست فصل بين الابيض والاسود. لذلك من السهل جداً جداً ظهور التشوهات النفسية فى فترة من حياة السلطان الحاكمية, إن توفر لها الغطاء النفسى والجماهيرى, الذى يتشكل من مواهب السلطان الخداعية السادية ومن إيمان الجماهير بصدق مواهب السلطان, لذلك نرى الكثير من السلاطين الذين يبدأون حسناً غير متطرفين لينتهى بهم الامر إلى أقصى حدود التطرف والقسوة وعدم الأتزان.
ويحمل لنا بولس الرسول ذات النصيحة ( أهكذا أنتم أغبياء. أبعد ما ابتدأتم بالروح تكملون الآن بالجسد) غل٣:٣ لتبقى هذة النصيحة الدهرية كاشفة لعورة نفوسنا التى يسهل خداعها بالمجد الباطل.
لذلك يسدد بطرس الرسول ايضاً نصيحته السهمية لهؤلاء الرعاة هكذا:
( أرعوا رعية الله لا كمن يسود ” يتسلط ” على الأنصبة بل صائرين أمثلة للرعية ) ١بط ٢:٥-٣
وكم أود لوشرحت الكنيسة فلسفة سلطانها ” إن وجد ” بعيداً عن هذا الشرح المميت, لأنها إن لم تنتبه وقعت لا محالة تحت المعاير النفسية الدقيقة التى لا تعرف للرحمة ولا للمجاملة طريق.
فلنحذر أذنً من السلطان الكنسى الذاتى حذار الموت لأنه يلعب فى إثارة كمون المصلحين دوراً اساسياً واضحاً, لأنه لابد أن يأتى يوماً نهب فيه جميعاً ونثور, لأدراك ما فاتنا من حرية وكرامة, الموهوبة لنا, ليس بيد انسان, بل بوجودنا, وجلوس طبيعتنا البشرية فى المسيح يسوع عن يمين القوة والحرية والمجد, له ” الكرامة ” إلى الأبد آمين
أستدراك إيضاحى
إن لفظة ” سلطان “ التى أطلقناها على شخصيات سيادية, إنما تشير وبكل دقة إلى كل درجات الكهنوت, أصحاب المسؤليات الكنسية الخدمية, منهم البطريرك والأساقفة والكهنة والشمامسة ذوى السلطان, والأكليريكيون الذين عرفوا من أين يأكل الكتف ! فنالوا من السلطة الكنسية نصيباً وفيراً, ليدخلوا أنفسهم إلى جحيم ميزان النفوس المريضة.
ولقد أستخدمنا تلك التعبيرات المجازية, لننأَ بمصطلحاتنا الأرثوذكسية العظيمة, والقاب بطاركتنا القديسين, بعيداً عن هرج ومرج السلطة, وصراع المناصب, وجشع نفوس الطامعين فى الملذات بكل اشكالها والوانها. لتبقى على تلقائية دفقتها الاولى, من نقاء وعفوية وطهارة, وشحنتها العاطفية التى دفقها بها أبائنا العظام إلى أيدينا, هكذا نسلمها لأبنائنا الذين كتب عليهم ميلاد فى زمن الأختلاط والتلوث والأنحدار إلى مستنقع شهوات العالم.
لنفصل فصلاً تاماً ودقيق بين أحترام ومهابة درجات خدمة كهنوت المسيح, وبين تصرفات تلك النفوس المريضة, التى تظهر وتترعرع فى عصور الضعف والرخاوة الروحية.
ورسالتى إلى “سلطان” عصرنا “اى سلطان”, أنتبه لقد آلى بك الزمان إلى زمن فيه تثور الملائكة, إلى زمن المكاشفة الحقيقية, وتأكد من انك لن تستطيع خداع الملائكة …….. أم أنك ممن يستنبت شاربه ليتسول أحتراماً !!
ثورة الملائكة (3)
ثانياً: مفسدة السلطان الكنسى:
كَتَبت ونَشرت سيمون دى بوفوار أولىّ روايتها ” المدعوة ” عام 1943م, وهى سيرة مبطنة تشير من بعيد لتجربتها الخاصة, لتصب نقمتها وتذمرها من إحدى تلميذاتها, التى كادت أن تدمر حياتها مع شريكها جان بول سارتر, الفليسوف الفرنسى الكبير, توأم روحها وقرين عقلها ومصدر الهامها, التى ظلت ترقب مدفنه من شرفتها حتى ماتت لتدفن بجواره.
تحكى الرواية قصة زواج مثالى لزوجين ” فرانسوار وبيار” إلى حين ظهور ” كازافيير” الطالبة الصغيرة التى نزلت ” كمدعوة ” لمدة طويلة عندهما فى منزلهما. فتبدأ المدعوة فى أنتقاد مثالية الزوجان, وحياتهما المرتبة والمنظمة, والتزامهما بالواجبات السخيفة فى نظرها كالمسرح والكتابة والفن وغيرها الكثير, لأنها لا تريد سوى أن لا يفعل المرء أى شئ, وأن لا يسعى لأجل شئ, وأن لا يرهق نفسه فى سبيل أى شئ, فهى تريد الحصول على سعادة تنزل عليها كالمن السمائى !!
ولكن من الغريب فى الأمر أن ” بيار” بدأ فى الأعجاب بوجهة نظر الساذجة ” كازافيير” وهو الفليسوف الحكيم ذو العقل الفهيم, ليرى العالم برؤية جديدة من خلال عينيها, ليؤكد بأن تلك الرؤية السطحية فى فحواها, إنما تجرد العالم من زيفه وتحافظ على نقائه ! وإن الأنسان لا يكون نقياً وأصيلاً وحراً, إلا أذا فعل ما يريد, بالشكل الذى يريد, مع من يريد, بدون أى قيد أو شرط.
ففى تلك الرواية ناقشت سيمون علاقة الضمير الفردى بالضمير الجماعى, معلنة ان كل ضمير فردى, إنما يعيش على حساب ضمائر الآخرين.
فمشكلة الضمير الفردى إنه من صنع الضمائر الجماعية, فهو بالحق من صنع المجتمع, فالضمير الشخصى لكل فرد يتم تشكيله من خلال خبرات الآخرين المتعددة على مدار سنوات طويلة. ويتحكم فى هذه العملية مقدار انخراط واندماج الفرد فى الحياة الأجتماعية.
– فهل الأنسان حيوان اجتماعى؟ كما قال أرسطو ومن بعده ابن خلدون !
المهم أن الضمير لا يمكن ان يوجد منفرداً تماماً ليتفرد فى خصائصه وصفاته, بعيداً عن ضمائر الآخرين. ليظل مرتبطاً بعلاقة ما مع الضمائر الأخرى الذى ساهمت وعملت فى تطويره بصفة مستمرة, لتزوده بالمبادئ الجديدة الضرورية لأتمام عملية الأنسجام بينهما, أذن سلطة الحياة الأجتماعية هى التى تقوم بأعادة بناء وتشكيل الضمير بحسب متطلباتها وأحتياجاتها وقناعاتها.
وإلى هنا نلحظ خطورة الموقف, فالضمائر الجماعية الفاسدة, تفسد الضمائر الفردية السليمة, مهما كانت قوتها, فهى تصاب وللأسف بذات الفساد ! وإلا فقدت أنسجامها وصارت منبوذةً بمقتضى قوانين وقناعات الحياة الأجتماعية التى لها مقدرة الأملاء لسلوكيات جديدة حتى ولو كانت فاسدة.
أمثلة واضحة لذلك:
– فى عصور غابرة كان الضمير الجماعى يقنن ويبيح التقدمة أو التضحية البشرية, من أجل أسباب نراها اليوم أنها واهية وتافهة, وكان القائمون بعمليات قتل البشر, يفعلون ذلك وضمائرهم الشخصية مرتاحة بدون أدنى توجس أو ريب أو تأنيب للضمير.
ولنأخذ أمثلة أخرى اقل حدة وعنف, ولكنها أكثرتوغلاً فى حياة الناس بعيداً عن الجريمة.
– نحن نعرف بأنه يتم شراء الزوجة بالمهر فى بعض البلدان. إلا أننا فى ذات الوقت نجد الأمر مختلفاً تماماً ومعكوساً فى اليونان وفرنسا مثلاً, حيث يتم شراء الزوج من قبل الزوجة بالبائنة.
– أما فى النظام الصينى القديم, الذى يبيح للزوج أن يطلق زوجته لا لشئ سوى أنها ثرثارة. فالزوج الصينى يستطيع أن يطلق امرأته وضميره مرتاح تماماً !
فنلحظ هنا بأن قناعات الضمير الجماعى تتعدى مرحلة الجريمة, لتشمل كل ظواهر الحياة الاجتماعية, فهى تتسرب لكافة جوانب الحياة, وهناك الكثير والكثير من الأمثلة التى لا يتسع المجال لعرضها الآن.
ومن الواضح من العرض السابق ……
بأن الضمير الجماعى الكنسى, دائماً أعمى عن الحق المطلق. فهو لا يدرك الحق فى ذاته, ولكنه يدرك تلك الأجزاء المتوفر لها أدراكاً بالنسبة له, فهى تلك الأجزاء المدعومة والمصرح بها من قبل قيادته, والتى تتفق مع ضمير السلطان, ليتم تدعيمها وتثبيتها كأصول للسلوك الكنسى العام.
ونلحظ هنا أيضاً …..
بأنه بالرغم من توافر الأختلافات البينية الغير جوهرية بين البيئات الكنسية المختلفة, بين الشعوب المتعددة فى كل العصور, إلا انها قد حققت أختلافاً واضحاً فى القيم والمبادئ التى تعتبر بدورها ركيزة لتواجد كنسى خاص بها, لدرجة أنه من الممكن …..
أن نجد الفعل الأخلاقى ونقيضه موجود فى نفس الوقت بين بيئتينِ كنسيتينِ مختلفتينِ فى العادات والقيم والمبادئ , كما هو الحال ” على سبيل المثال وليس الحصر” فى موضوع الطلاق والأجهاض.
فمن الواضح أن الضمائر ترتاح على كل لون وشكل, فالضمير لا يهمه الفعل الأخلاقى فى حد ذاته, بقدر رضا المجتمع الكنسى عنه لأنه صانعه.
– فهل يعنى هذا بأن ضمائر أعضاء المسيح تتلوث وتفسد إن فسد الضمير الكنسى العام؟
– نعم ….. وللأسف هذا ما يحدث, وحدث بالفعل فى كل أزمنة الضعف والخيبة الروحية بلا أستثناء.
فالضمير الفاسد لمولانا السلطان يشكل السبب الرئيسى للفساد الكنسى العام. فحينما يُضرب الرأس بالفساد فى مقتل, تمرض بقية الاعضاء بنفس العدوى وتصاب ضمائرها السليمة بالفساد و بالشلل أيضاً.
لذا فالأمر خطير ويجب الأنتباه إليه, إن أردنا أصلاح لمجتمعاتنا الكنسية, التى تخضع بالسليقة وبالضرورة وبالقانون, لضمير السلطان. فأذا ” فسد الملح فبماذا يملح. لايصلح بعد لشئ. إلا لأن يطرح خارجاً ويداس من الناس” مت 13:5
لأن فساد الضميرالسلطانى يؤدى إلى مصير محتوم من الفساد, فقط لتلك الأعضاء المشتركة فى ذات الهدف والمصير.
ولكننا نجد أن وصول الضمير إلى درجات متقدمة من الفساد مرهوناً بمدى قربه أو بعده عن مصدر الفساد. ويشبه هذا بالضبط الدوائر المتكونة من القاء حجر فى مياة راكدة وساكنة, وتتسع تلك الدوائر حتى تختفى بمقدار بعدها عن مركز أنبعاثها. بالضبط هذا ما يحدث فنلاحظ بأن الضمائر القريبة من السلطان الفاسد هى أشد فساداً من تلك الموجودة على مسافة أبعد من مركز الانبعاث الفسادى.
وهو أيضاً ما ذكره لنا بولس الرسول:
” فأى موافقة لهيكل الله مع الأوثان ….. لذلك أخرجوا من وسطهم, وأعتزلوا يقول الرب ولا تمسوا نجساً فأقبلكم ” 2كو 16:6-17
و” أعزلوا الخبيث من بينكم ” 1كو 13:5
لهذا كله يجب علينا الأبتعاد عن تلك الدوائر المميتة لضمائرنا ….
أما إن تشابكت مصالحك الدنيوية عزيزى القارئ ومنفعتك الخاصة, ومتطلبات عائلتك وتجارتك ….. الخ, مع مولاك السلطان الفاسد, أو مع زبانيته …… فأقول لك ” البقية فى حياتك ” فى ضميرك, وليعفو الله عنك وينجيك إن أردت النجاة والرحمة.
فأننى كنتُ ولا زلتُ أتعجب حقاً, كيف تمتد يد الرب بقوة وبكل الطرق والوسائل, لتعزل أولاده الطالبين رحمته وحقه, عن تلك الدوائر المسمومة الطاحنة لكل صلاح وتقوى.
أما إن كنت من ضمن المتكيفين مع دوائر الظلم والفساد, فأرفع صراخك للرب المنجى والمعين لتهرب لحياتك وخلاصك. لتنجو بضميرك بلا تلوث وعيب, تدان عليه فى يوم مجئ رب الحق والصلاح.
ومع أن زبانية السلطان تعمل ليل نهار على أخفاء نفسها عن الحق, بنشر فسادها, فى محاولة يائسة منها للقضاء على الضمائر الطاهرة المتبقية, من أجل التخلص من أدلة اثبات فسادها, إلا أننى أوكد بأن الملائكة الثائرة ستثبت فساد السلطان وزبانيته, بنقائها وشفافيتها وقوة الحق والصلاح الساكن فيها. آمين