الديموقراطية، كلمة وُلدت على أرض اليونان، وتعني حكم الشعب بواسطة الشعب. ومنذ أن عرف الإنسان الحرية وهو يقاتل دفاعاً عنها، ومنذ أن عادت الحقوق العالمية للإنسان بعد تكوين الأمم المتحدة، إلى الحياة السياسية، ودول العالم تسعى جاهدة لكي تصل من حلم الديموقراطية الى واقع الديموقراطية.
وفي أشد عصور الظلام في عهد المماليك والعثمانيين وقبل هؤلاء الأمويين والعباسيين الذين حكموا مصر باسم الدين، كانت كنيسة مصر هي المؤسسة المصرية الوحيدة التي تمارس الانتخاب الحر في اختيار القس والأسقف والبطريرك. لم تكن هذه ديموقراطية بالمعنى السياسي، بل كانت “الشركة” هي الإسم والمعنى الذي فقدناه طوال المئة سنة الأخيرة، ولا يمكن أن نلصق هذا النقص في عصر الأنبا شنودة الثالث – ربما إذا شئنا الدقة التي يجب أن تكون نبراساً لنا، أن نقول أنه أي الأنبا شنودة لم يعمل على اعادتها. كان الرئيس جمال عبد الناصر قد أقدم على إعادة بناء الدولة الحديثة حسب رؤيته، وكان على حق في أشياء وأخطأ في أشياء، ولا داعي لأن نموت في سبيل وضع تاج العصمة على رؤوس القيادات السياسية أو الدينية. كان أول أخطاء الرئيس عبد الناصر إلغاء الصحافة والأحزاب، ثم جاء القرار أيضاً بإلغاء المجلس الملي العام، فأغلق عبد الناصر الباب أمام الانتخاب الحر في داخل المؤسسة الكنسية. وعندما جاء قرار عودة المجلس الملي مرةً أخرى أدَّى هذا لإشعال الصراع داخل الكنيسة بين المجلس الملي والمجمع المقدس والبابا البطريرك بالذات في محاولة حكومة ممدوح سالم خلق ذلك الصراع لكي لا يتم حل المشاكل التي ترتب عليها الوضع المتأزم منذ حريق كنيسة الخانكة.
وتحت قيادة الحزب الواحد في شكله القديم “الإتحاد الاشتراكي”، ثم ذات الحزب الواحد “الحزب الوطني”، وقبله “حزب مصر” غابت حتى أشباح الديموقراطية – حرية التعبير – المتهم بريء حتى تثبت ادانته – حق المعارضة… إلخ
ولا زال ملف الصدام المسلح مع الأمن في حاجة الى دراسة كاملة لتحديد، ليس فقط المسئولية، بل لأن إعادة اكتشاف التاريخ المعاصر تحدد خطوات المستقبل.
الديموقراطية والشركة الكنسية
لم نسمع طوال 100 سنة، أي قرن من الزمان الإسم القديم “أبناء المعمودية”، وهو الإسم الذي كان يحفر في الوجدان القبطي أن نعمة التبني هي نعمة أبدية لا يمكن لأحد أن يمسها. هي شركة في حياة الآب والابن (1يوحنا 1: 1 – 3)، وهي لذلك مختومة بختم الروح القدس العطية الأبدية لكل من نال التبني (غلا 4: 4)، ولكن غاب سر المعمودية في الصراعات النفسية والمذهبية التي ولدت كما نعرف جميعاً بعد نياحة البابا كيرلس السادس:
1- تحالف الأنبا صموئيل – الأنبا شنودة.
2- إقصاء الأب متى المسكين.
3- إقصاء الأنبا غريغوريوس.
ثم وُلد الصراع بعد ذلك بين نفس الأطراف بعد رسامة أسقف التعليم، وتم محاصرة الأب متى المسكين وعزل الأنبا غريغوريوس.
ودخلت العقيدة في ذلك الصراع الشخصي، وضاع في هذا الصراع القمص زكريا بطرس بعد أطول محاكمة صورية في تاريخ الكنيسة، وتم نفيه الى خارج مصر لأسباب سياسية بحتة.
ما غاب هو الشركة وعطية التبني التي لا يمكن أن تنزع إلاَّ بخطية الإرتداد والبقاء في الإرتداد، أي ليس الإرتداد فقط.
وقد بدأت ملامح معاداة المعمودية في كلمة واحدة: “أنت محروم”، صدرت ضد الأنبا مينا مطران جرجا – ثم ضد عدد آخر من الخدام العلمانيين، وكان آخرها ضد كاتب هذه السطور.
جرأة الحرم هذه هي استهتار بالسرائر، كأن الافخارستيا هي وليمة الأسقف أو الكاهن وليست وليمة المسيح نفسه. بل شمل التطاول على الروح القدس نفسه، ليس فقط بإنكار حلوله فينا، بل وصل الأمر إلى حد أن كتب أحدهم يسأل عن حقيقة التمييز بين الأسقف والقس، فقال إن الكاهن يملك حق استدعاء الروح القدس، بينما الأسقف يسكن فيه الروح القدس بطريقة دائمة ومتصلة .. وهو تمييز عجيب حقاً يعني حذف سر المعمودية والميرون، وتقسيم الكهنوت الواحد الخاص بالمسيح نفسه إلى رتبة أقل ورتبة أعظم، وضاع تعليم الرب نفسه بأن “أكبركم يكون خادماً لكم”، فقد دخلت التراتبية (من تقسيم الرتب) إلى الفكر لكي تمحو نعمة السرائر، وكأن المعمودية هي مجرد دُش ينتهي دوره بعد الاستحمام، وكأن رشومات الميرون، وهي عطية الروح القدس الأبدية حسب صلوات أم الشهداء هي مجرد رشم بالزيت ينتهي دوره بعد الرشم.
وطبعاً يتضح لنا أن نتيجة السؤال السابق، هي وضع الشعب خارج عمل الروح القدس .. هكذا دخل الاتحاد الاشتراكي والحزب الوطني، وربما بعد هذين، حزب الحرية والعدالة الفكر الكنسي نفسه؛ لأن أمين العاصمة وسكرتير لجنة السياسات ووكلاء الحزب هم في وضع متمايز عن الأعضاء. هكذا دخلت عدوى المرض السياسي الذي أراد إقامة دولة المؤسسات، ولكنه انقض على المؤسسات بتزوير الانتخابات. أما عندنا فقد نما سلطان الكهنوت خارج كل حدود التعليم الرسولي والآبائي؛ لكي ينقض على السرائر وفي مقدمتها أسرار الإنضمام الى الكنيسة الجسد الواحد – المعمودية والميرون والافخارستيا، ولم تعد الكنيسة جسد المسيح الواحد، بل مجرد مؤسسة اجتماعية يملك بعض الأفراد فيها الانفراد بسلطة ليس لها أرض المحبة، ولا قاعدة المصلوب حباً، وإلاَّ كيف نفسر مقالة المطران الأنبا بيشوي عن عقيدة الفداء والكفارة حيث يقول عبر كل صفحات المقال إن المسيح جاء لكي ينقذنا من الآب الغاضب وإن التعذيب الجسداني هو دواء الشفاء من عقوبة الموت والخطية.
وهو دفاع يؤكد أن مؤلف المقال غارق حتى أذنيه في مياه السلطة الراكدة التي لا تعرف المحبة الثالوثية، بل فقط التشفي والانتقام.
كان أي نقد للرئيس أنور السادات يعد هجوماً على مصر، ونقل المجتمع إلينا ذات المرض – وكان اختزال تاريخ مصر كله يدور على محورين: ثورة 23 يوليو 1952 وكل ما سبقها ظلام – الإسلام السياسي وكل ما قبل الإسلام هو الجاهلية رغم أن أدب الجاهلية هو شريان اللغة العربية. ودقت طبول الاختزال عندنا: كل قس أو أسقف هو المرجعية، ولا يوجد تاريخ سابق على رسامته، وهنا يحق لنا أن نسأل: هل سيوجد تاريخ لاحق بعد رسامته ونياحته؟
لقد اختفت المرجعية، وهي الآباء بشكل خاص، وغاب التاريخ الكنسي، وطلَّت علينا الأزمات بحلول لا تعرف الشركة ولا تفهم أن الذين لهم قضايا في المجلس الاكليريكي ليسوا مجرد طالبي زواج ثانِ، بل هم “أبناء المعمودية”، وأن الزواج والطلاق هما معاً لتهديد للوحدة الاساسية لجسد المسيح، أي الزيجة.
هناك زواج بلا تأهيل، وطلاق لم ندرس بعد أسبابه الطبية والعقلية والقانونية .. الخلاصة أن الشركة في خطر.
ثم يجيء البابا الـ 118 المسكين حقاً الذي لن يجد أمامه إلاَّ مشاكل مزمنة طال زمانها.
في الصراع السياسي الدائر الآن حديث جدير بالاهتمام حول ضرورة أن يكون هناك مجلس رئاسي للرئيس القادم .. تحالف القوى الوطنية لمواجهة حياة 90 مليون مصري، وهو أكبر تجمع سكاني في قارة افريقيا والشرق الأوسط.
لماذا لا نفكر الآن في رسم وتحديد شكل مستقبل الكنيسة في الـ 20 سنة القادمة.
مجلس بابوي – سكرتارية للأمور العقائدية تضم أهل الخبرة – لجنة للنشر والتأليف والترجمة – لجنة القانون الكنسي – لجنة الإصلاح الليتورجي – المعاهد اللاهوتية التي باتت تزحف على جلدها – وضع ميزانية عامة تشمل خدمات لكل الايبارشيات.
أقول ما ذكرته في البداية: إن الذي له حق يجب أن يطالب به؛ لأن الحقوق لا تعطى ولا تستجدى، ولا هي مطالب لفئة تقدم لفئة، بل هي حراك شعب الكنيسة بالكامل.
ولنا عودة.
تعليق واحد
أقتراح
دكتور جورج
لقد أوقفتنى متأملاً لكلماتك عن مصر وكنيسة مصر, لأكتشف مقدار عمق الوعى التاريخى الذى تتمتعون به, لأحداث كثيرة من حياتنا المصرية.
فأنتم لا ترون أحوال الكنيسة وما آلت إليه من ضعف ووهن, بمعزل عن أمراض المجتمع ككل.
لتعلمنا كيف نستخدم المعرفة كوحدات لبناء المستقبل, على أسس واعية فاحصة متأملة مستنيرة, ليدب الوعى فى ذهن وقلب كل من أحب وأراد للكنيسة نجاه من سقطات جهل المجتمع, لتحيا كنيستنا المستقبل فى حرص أخطاء جهل الماضى.
ليصدق أمير الشعراء أحمد شوقى حينما قال
الجهلُ لا تحيا عليه جماعة
كيف الحياة على يد عزرائيل
لأنه إن كان الجهل هو عزرائيل, فكيف يحيا البشر بالموت والخراب.
أذن فلنحذر فالموضوع جد خطير, ولا يمكن الأستهانه به.
فأن كانَ الحال كذلك… فهل لى من عرض أقتراحاً عليكم, أعتقد تماماً بأهميته فى الفترة القادمة, إن أردنا خلاصاً من عزرائيل!
ويهمنى ذى بدء التأكيد بأنَ الكوبتولوجى, هذا السايت العظيم الذى أعادَ بالفعل مدرسة الأسكندرية الأولى إلى الحياة الكنسية من جديد, ليجمع كل محبى تراث الكنيسة, وعشاق أصالة فكر الأولين, والناظرين للحياة الأبدية المذخرة لنا بكلمات ووعود أختبارات من ذاقوا فأبدعوا فغلبوا….
ليفوح عبير الأباء الأولين من كل الدراسات اللاهوتية العميقة التى تقدمونها بزخم علمى جامح لينير الطريق, ويترك أثراً لا يمحى مهما حقد الجاهلين.
من أجل هذا كله… أقترح أنشأ مكاناً خاصاً فى الكوبتولوجى ( للمصريــــات ) تقدمون فيه تحليلاتكم لأحداث تاريخ مصر العام, وليس الكنسى فقط, ليكون نواة حقيقية لبناء مصرى مستقبلى, ليس على أساس طائفى, بل على أسس أنسانية مصرية تجمع فى مضمونها كل المصريين, وتساعدهم على فهم وأدراك صحيح لتاريخنا ومستقبلنا فى أنً واحد.
صحيح أن التاريخ متاح بطرق أخرى كثيرة, إلا أن التاريخ أكثر من سرد قصة أو حكاية كحكايات جدتى قبل النوم, فنحن فى حاجة ملحة لتحليل علمى لاهوتى تاريخى واعى لاحداث تاريخنا المصرى.
ليتبصرالجيل الجديد, وليتعلم كيف يقرأ التاريخ, وكيف يبنى المستقبل بحجارة الماضى.
هناك من مقولة منتشرة يرددها الكثيرين, بأنه لا يمكن تقسيم مصر على أساس دينى أو عرقى, فبالرغم من صحة تلك المقولة لحد ما ـ وخوفى أن تصبح ضرورة فى وقت لاحق أسود ـ إلا أنه لا يمكن الأعتماد عليها إن أردنا البقاء, فالشعوب والأمم تندثر وتذبح إن جهلت تاريخها !
أما البناء الحضارى التاريخى فهو الوحيد القادر على توحيد كل أطياف وقوميات المجتمع, فيما فشلت ـ كل الفشل ـ الأطياف الدينية فى فعل ذلك.
لأن المتدينين ـ من كافة الأديان ـ هم دعاة فرقة وتمييز وأنعزال. فكلما أكتشفنا جذورنا الحضارية العميقة الضاربة فى أعماق التاريخ .. توحدنا لأصول المنشأ الواحد.
لهذا كله يهمنا جداً بأن تقودنا فى فترة فقيرة بمن يدرون, وغنية بمن لا يدرون أنهم لا يدرون.
ليتعرف كل المصريين مسلمين ومسيحيين بكل طوائفهم وأتجاهاتهم على الجذور المشتركة لمستقبلهم الواحد, فلا ثمار بدون جذور سليمة قادرة على جلب الماء.
ومع أننى أعلم تماماً بأن تلك المهمة شاقة, ولكن الله قد أعدك لتلك, من خلال سنوات طويلة قضيتها فى الدراسة والتأمل والبحث عن أصولنا الأبائية. فهذا المجهود الضخم سيكون من أجل تحضر وأزدهار الأمة المصرية كلها.
فهل لنا فى مصريـــــات من مصرى أصيل يعرف حق تاريخه.