ملاحظات آبائية للأخ عصام نسيم
سوف أمتنع عن الاتهامات العامة الشخصية حتى لا ندخل في مهاترات لا تليق إلاَّ بالغوغاء؛ لأنني لم أكتب، ولا ذكرت بالمرة عبارات من قبيل: "كل المسيحيين في ضلال" كما اتهمنا بذلك الأخ عصام؛ لأن إضافة كلمة واحدة على سطر أو جملة يغيِّر المعنى والقصد، وهو ما برع فيه الأنبا شنودة عندما يعرض عبارات مبتورة للأب متى المسكين، بل والكتاب المقدس نفسه، ويسير معه في ذات الطريقة الأنبا بيشوي .... سوف أعرض عن كل هذا لأجل القارئ الذي يحترم أدب الحوار.
أولاً: تألُّه جسد المسيح
لا زلت عند حسن ظني بأن بعض الأقباط قادرون على قراءة المجلد الخاص بكتابات القديس أثناسيوس، وأهم ما فيها الرد على الأريوسيين وكتاب تجسد الكلمة، وسوف نتجول فيها
عندما يقول أثناسيوس:
1- "لكي يؤلهها" (المقالة الأولى : 39).
2- "من أجل تأليه البشرية" (المقالة الأولى: 45).
3- "نتمجَّد ونؤلَّه" (المقالة الأولى: 47).
4- "لكي يجعل الإنسان قادراً على تقبُّل الإلوهة" (المقالة الأولى 59).
ألا يجب أن نتوقف ولو دقيقة واحدة لكي نسأله كيف يحدث هذا للبشر، وما هو المصدر؟
إن لم يكن تجديد الإنسان قد بدأ، بل وتأصَّل بتجديد الجسد الإنساني الذي أخذه الكلمة ابن الله، فكيف يمكن أن ينال الإنسان شيئاً لا وجود له في الكلمة المتجسد؟ وقد أجاب القديس أثناسيوس نفسه عن هذه الأسئلة في المقالة الثالثة ضد الأريوسيين فقرة 23.
الأخ عصام نسيم لا يريد أن يقرأ كلمات أبيه الروحي القديس العظيم أثناسيوس، بل يريد للغضب أن يكتب، ولكن هذه هي كلمات المعلم السكندري العظيم:
"لأنه من أين يأتيهم الكمال،
لو لم أكن، أي كلمتك قد أخذت جسدهم
وصرت إنساناً.
لأن البشر قد افتُدُوا من الخطية،
لا يبقون بعد أمواتاً،
بل إذ يتألَّهون، فأنهم بنظرهم إليَّ يصير لهم رباط المحبة" (المقالة الثالثة: 23).
ولعلك ترى كيف شرح القديس السكندري أثناسيوس التحول الكبير من خلال المقارنة بين آدم الأول وآدم الأخير:
"إننا نحن جميعاً من الأرض
وفي آدم نموت
هكذا نحن إذ نولد من فوق من الماء والروح،
فإننا في المسيح نُحيا جميعاً
فلا يعود الجسد فيما بعد أرضياً
بل يصير إلهياً كالكلمة
وذلك بسبب كلمة الله الذي لأجلنا صار جسداً" (ضد الأريوسيين 3: 33).
وبدون مهاترات ولا اتهامات، هل يمكن أن يتحول الترابي إلى سمائي بقوة مخلوقة؟ أليس بقوة الكلمة الخالق الذي حوَّل جسده هو نفسه أي جسده الذي أخذه من العذراء؟
"جسد قابل للموت" (تجسد الكلمة 9: 1).
"جسد لا يختلف عن جسدنا" (تجسد الكلمة 8: 1).
"جسداً مماثلاً لطبيعة أجسادنا" (تجسد الكلمة 9: 1).
أعتقد أن هذه العبارات تكفي أي أرثوذكسي يبحث عن خلاصه.
ثانياً: تحوُّل الجسد في الرب نفسه بسبب الاتحاد بأقنوم الكلمة
"لم يكن ممكناً أن يُقضى على فساد البشرية بأي طريقة أخرى
سوى الموت .....
"من غير الممكن أن يموت الكلمة
لأنه غير مائت
اتخذ لنفسه جسداً قابلاً للموت
حتى أنه عندما يتحد هذا الجسد بالكلمة الذي هو فوق الجميع
يبقى في عدم فساد" (تجسد الكلمة 9: 1).
وتحول الجسد الإنساني إلى جسد متألِّه – الذي يرفضه الأنبا شنودة – هو ما يؤكده القديس أثناسيوس نفسه، حيث يقول: "قال الرسول نفسه إن المسيح عندما تألم، لم يتألم بلاهوته، بل لأجلنا بالجسد .... بينما هو نفسه غير قابل للتألم بالطبيعة، ويظل كما هو لا تؤذيه هذه الآلام، بل بالحري إذ هو يوقفها ويلاشيها، فإن آلام البشر تتغير وتتلاشى في ذلك الذي هو غير متألم، وحينئذ يصير البشر أنفسهم غير متألمين وأحراراً من هذه الأوجاع إلى الأبد. .... ولأن هذا حدث بالفعل فلا يعترض أحد من الهراطقة قائلاً: كيف يقوم الجسد وهو بالطبيعة مائت؟ وإن قام، فلماذا يجوع ويعطش ويتألم ويظل مائتاً؟ الجسد من تراب، فكيف يمكن أن تتغيَّر طبيعته؟ عند هذا السؤال بالذات يستطيع الجسد أن يجاوب هذا الهرطوقي المقاوم ويجيب: أنا من تراب وبحسب الطبيعة الترابية مائت، لكن قد صرت جسد الكلمة. هو حمل أوجاعي مع أنه هو نفسه غير متألم، هكذا صرت أنا حراً من هذه الأوجاع لم أعد مستعبداً لها لأن الرب حررني منها ... لأنه عندما لبس الرب الجسد وصار إنساناً هكذا نحن البشر، فإننا نتألَّه بالكلمة باتحادنا بواسطة جسده، ولهذا نرث الحياة الأبدية".
هذا هو المقصود بتأله الجسد: أن يصير مثل جسد الله الكلمة، ليس ترابياً يأكل ويشرب ... مثل تعليم الإسلام عن الحياة بعد الموت في "الجنة".
وفي الفقرة 39 يرد القديس أثناسيوس على الفكرة اليهودية التي ينشرها أريوس وأتباعه، وهي الفكرة التي تقول إن الجسد والتجسد كان هو سبب رفعة ومجد الله الكلمة، ويقول:
"لكن الكلمة جاء وسكن بيننا لكي يفدي الجنس البشري، صار الكلمة الجسد لكي يقدس البشر ويؤلههم ... وما كان يخصه لأنه الكلمة، قد أخذه عندما تأنس وصار إنساناً وقام من الموت، وذلك لكي يصير البشر على الأرض شركاء الطبيعة الإلهية وينالون بذلك السلطان على الأرواح الشريرة، أما في السموات فلأنهم يملكون إلى الأبد لأنهم تحرروا من الفساد" (راجع المقالة الثالثة: فقرة 38).
وتألُّه الجسد هو تأله البشرية، وتأله كل من له شركة مع المسيح، وهو في عبارة موجزة يؤكد فيها القديس أثناسيوس إن القيامة من الأموات التي حولت الجسد إلى عدم فساد هي أحد جوانب التأله، ويشرح القديس أثناسيوس هذا في الفقرة 48 من الرسالة الثالثة، فيقول:
"صعد كإنسان إلى السماء ورفع معه الجسد الذي لبسه ... لأن الجسد عندئذٍ كان قد قام وخلع عنه الموت وتألَّه" (راجع أيضاً الفقرة 58 من ذات الرسالة الثالثة).
ثالثاً: تألُّه ناسوت الرب يسوع والإفخارستيا
لقد دُهِشتُ تماماً لأنك تأخذ نفس منهج الأنبا بيشوي في إجادة الاتهامات والشجب والدفاع عن تعليم بروتستانتي، بل وتعليم خاطئ أيضاً. والغريب أنك لم تذكر اسم المرجع الذي استقيت منه اتهاماتك، مع أنه مرجع معروف، وهو كتاب الأنبا شنودة "مجموعة تأملات في أسبوع الآلام – 5 كتب – طبعة 1991 ص 132"، حيث يقول الأنبا شنودة: "عجيب أن يتكلم أحد عن سفك دمه بهذا الهدوء ... نلاحظ أنه قال دمي الذي يُسفك، وليس الذي سُفك. وكذلك قال جسدي الذي يُبذل وليس الذي بُذل ... لأن دمه قد سُفك يوم الجمعة، وجسده قد بُذل يوم الجمعة، اليوم الذي تم فيه الخلاص ... إن حديثه يوم الخميس كان عن الخلاص الذي سيتم يوم الجمعة. والفصح الذي احتفل به يوم الخميس كان رمزاً للفصح الحقيقي الذي للعهد الجديد الذي يُذبح عنا يوم الجمعة، وكأن الرب أراد أن يقول: إن هذا الفصح الذي تأكلونه اليوم يرمز إلى جسدي الذي يُبذل عنكم غداً، وإلى دمي الذي يسفك عنكم غداً .....".
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ماذا كنت تقول لو أن الأنبا شنودة الذي تدافع عنه دفاعاً باطلاً كتب عبارة القديس أثناسيوس الواردة في الرسالة 51 من مجموعة الرسائل سنة 371م، حيث يقول:
"نحن نتأله، ليس بالشركة في جسد إنسان (عادي) مثلنا، بل بتناول جسد الكلمة نفسه" (578 – 579 من المجلد الإنجليزي).
المشكلة يا أخ عصام تطرحها عبارة واحدة وردت في شذرة من خطاب عيد القيامة رقم 29 سنة 357 حيث يقول أثناسيوس:
"ما هو إنساني يفنى
وما هو إلهي لا يفنى" (راجع المجلد الإنجليزي ص 550).
هنا القول الفصل
هل الحياة الأبدية – وعدم الموت – والخلود – وعدم الفساد هي هبات وعطايا مخلوقة من العدم، أم شركة في حياة الله نفسه الذي أرسل ابنه الوحيد لكي نحيا به (كما تقول التسبحة السنوية)؟
هل يوجد لدينا في المسيحية خلود مخلوق؟
إن ما هو مخلوقٌ من العدم فانِ بطبيعته.
الإنسان فانِ بطبيعته لأنه خلق من العدم ..." (تجسد الكلمة 4: 6).
إن تعبير الخلود المخلوق ينطوي على تناقض لفظي؛ لأن ما هو خالد لا يُخلق. كما ينطوي أيضاً على تناقض لاهوتي أيضاً؛ لأن الرسول يقول عن الله: "الذي له وحده عدم الموت" (1 تيمو 6: 16).
الخلود المخلوق هو تعليم الإسلام، وهو تعليم الفلسفة اليونانية القديمة (راجع كتاب الوجود شركة للمطران يوحنا زيزيولاس الصادر عن مركز دراسات الآباء بالقاهرة).
ما هو التناقض بين الخلود والخلق من العدم؟
1- عدم القدرة على البقاء إلى الأبد.
2- نوع وجوهر الحياة نفسه المخلوق من العدم، ولذلك نتأله لكي نبقى أحياء إلى الأبد في يسوع المسيح؛ لأن ينبوع عدم الموت والحياة الأبدية هو الله نفسه، وليس أي كائن آخر في كل الخليقة.
وجسد الرب المتأله هو الذي نأخذه في وليمة الإفخارستيا؛ لأن الأسرار هي طعام الحياة الأبدية. وماذا نقول عن عبارة الشهيد أغناطيوس الأنطاكي: "واكسوا خبزاً واحداً. دواء الخلود وترياق antidote ضد الموت يجعلنا قادرين أن نحيا إلى الأبد في يسوع المسيح" (الرسالة إلى أفسس: 20).
وتعليم الآباء تجده عند كل الآباء الذين شرحوا الإصحاح السادس من إنجيل يوحنا مثل ذهبي الفم وكيرلس الكبير وأغسطينوس، هل يكفي هؤلاء؟
ونضع هنا أيضاً الحد الفاصل الذي يميِّز الأرثوذكسية الحقيقية عما يبدو من الألفاظ أنه الأرثوذكسية وهو منها على طرفي نقيض:
لا يكفي أبداً أن نردد عبارات عن اتحاد اللاهوت والناسوت، وإنما يجب أن نشرح كيف غيَّر هذا الاتحاد - أي الاتحاد الأقنومي – علاقتنا بالله. وتطبيقاً لذلك نعرض ما قاله الأنبا شنودة عن عبارة الرب نفسه: "أعطيتهم المجد الذي أعطيتني" (يو 17: 22). ففي كتابه تأليه الإنسان ص 3 يقول: "كل ما أعطاه لهم هو مجد بشري روحي".
وهنا يطرح السؤال نفسه: هل مجد الابن الوحيد الذي أعطاه إياه الآب هو مجد روحي بشري؟!!!! أليس هذا هو تعليم الأريوسية؟ ألم يقل أريوس: صار مجد الابن مخلوقاً بشرياً ... لأن الابن مخلوق، ولأن مجده ليس هو مجد الآب؟ أيعقل أن يكون "المجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم" (يو 17: 5) مجداً بشرياً؟!!!!
لنا كلام كثير – سوف يصدر في حينه – يتناول كل ما جاء في كتب اللاهوت المقارن التي أصدرها الأنبا شنودة بما ورد فيها من عبارات وأفكار غير مسيحية، لكن يكفي الآن أن نطرح التساؤل: كيف نأكل جسد المسيح ونشرب دمه منذ ما يزيد عن 1900 سنة؟
لقد كتب الباحث الإنجليزي جون واطسون مقالة عن البابا كيرلس السادس قال فيها إنه أقام ما يقرب من ربع مليون قداس إذا أخذنا في اعتبارنا أنه كان يصلي قداساً كل يوم منذ أن رُسِمَ قساً حتى رقد في الرب، فلماذا لم ينتهِ جسد الرب؟ أليس لأن جسده هو جسد الحياة التي هزمت فناء الموت بالقيامة؟ لماذا لم ينتهِ جسد الرب؟ أليس لأنه جسد ابن الله الذي يجمع كل المؤمنين إلى واحد في شخصه غالب الانقسام والموت والفناء والخطية؟ (راجع الرسالة إلى سيرابيون 5: 19).
ونختم بعبارة القديس كيرلس:
"أعطانا المسيح جسده من أجل حياة الجميع
وأيضاً بواسطة هذا الجسد
يجعل الحياة تحل فينا
والآن سوف لأقول كيف؟
لأن كلمة الله الواهب الحياة حل في الجسد
وحوَّل الجسد إلى صلاحه الخاص، أي الحياة
وبواسطة الاتحاد الذي يفوق قدرة النطق
هو في جسده
يجعل هذا الجسد واهباً للحياة كما هو واهب للحياة بالطبيعة
لذلك يعطي جسد المسيح الحياة لكل الذين يشتركون فيه
لأنه يطرد الموت عندما يُعطى للذين يموتون
ويطرد الفساد لأنه مملوء من الكلمة الذي أباد الفساد" (شرح يوحنا 4: 2 – آباء الكنيسة مجلد 49 ص 409 - 410).
د. جورج حبيب بباوي
|