أضف للتفضيلات أتصل بنا الصفحة الرئيسية
 
 المزيد مع رسائل القراء
 

الجفاف والفتور الروحي

 

رسالة إلى عصلم نسيم

 

مع رسائل القراء

الأخ المحبوب/ ....
سلام ومحبة في الرب يسوع لك ولكل الإخوة والأخوات. فرحت كثيراً بأخباركم لأنني دائماً أفكر وأصلي لكم لكي لا تحرق نار الشيطان كياننا الهزيلة الذي هو بدون المسيح هباء وتراب.

بخصوص موضوع الثالوث، وحتى لا تترك لاهوت العصر الوسيط الذي يخنق الكنيسة القبطية، ويقتل كل الذين يتمسكون به، أرجو – بصفة عامة – أن تلاحظ ما يلي:

أولاً: الثالوث هو إعلان محبة الله، والواحد في ثلاثة هو نموذج هذه المحبة، ونحن مدعوين إلى أن نتشبَّه بهذه المحبة، ليس بمجرد التأمل، لأن الشركة في حياة الواحد في الثالوث، شركة ليست تحت إرادتنا ولا نملك أن نوجه عقولنا لكي نتأملها، بل هي شركة في يسوع المسيح الذي منه نأخذ شركة في بنوته لأنه كابن الله الوحيد جاء لكي يجعل لنا نحن الضعفاء والترابيين شركة في الآب بالروح القدس. وعندما نُعطى هذه الشركة يصير لنا القدرة بواسطة نعمة الله الغافرة للضعف، أن ننال معرفةً مولودةً من المحبة؛ لأن المعرفة التي تسبق المحبة هي معرفة آدم الأول، أمَّا المعرفة ثمرة المحبة فهي عطية آدم الأخير ربنا يسوع المسيح.

ثانياً: عندما نسمع من غير المؤمنين إن يسوع لم يقل علناً وصراحةً "أنا الله"، نقول لهم إن توحيد المسيحية لا يشير إلى الله، بل إلى الآب، ولذلك لم يتكلم الرب يسوع عن الله إلاَّ مرتين: الأولى على الصليب، والثانية بعد القيامة، ولكن دائماً ما كان حديثه عن الآب؛ لأن إعلان أبوة الله هو أحد أهداف مجيء الابن إلينا متجسداً. فالابن الوحيد يقف بين الآب والروح القدس (إن جاز هذا الوصف الساذج) يعلن الآب لنا في شخصه، ويشير إلى مجيء الروح القدس الذي أُعلن في الحبل به، وفي معموديته وخدمته، وسوف يأتي في يوم العنصرة. لذلك السبب لم يقل المسيح أنا الله، بل أنا ابن الآب، أنا والآب واحد، أنا ابن الله، مؤكداً لنا بذلك أنه واحدٌ من ثلاثة، وأنه جاء لكي يعطي معرفةً بالشركة، وهي شركة المحبة. لذلك السبب يكون إنكار سُكنى الروح القدس فينا إنكارٌ لعقيدة الثالوث، وهدمٌ كاملٌ للخلاص – ربما عن جهل – وربما عن سوء نية يتكلم هؤلاء، الله الآب يعرف الضمائر.

ثالثاً: كيف أعلن الابن الثالوث؟

1- بإعلان الآب الحال فيه الذي يعمل ذات الأعمال التي يعملها هو.
2- بإعلان محبة الآب الذي أرسل ابنه الوحيد لكي يحاسب فعلة الكرم، ولكي يجمع الكل في وليمته.
3- لكي يجمع - كراعٍ صالحٍ - الخراف الضالة بشفاء الأمراض وتحرير الإنسان من الخطية.
4- بالموت على الصليب، وهو الموضوع الذي لم يُستوعَب بعد كإعلان عن المحبة؛ لأن موت الرب يسوع

- سواء قلنا عنا أو لأجلنا - لا يجب أن يغطي إعلان محبة الله الآب (يو 3: 16)؛ لأن الجدل في فقه اللغة هو لعبة الشيطان القديمة التي كادت أن تدمر الكنيسة في أثناء الصراع ضد الأريوسية.
لقد أعلن الابن محبة الآب، وهي ذات محبة الابن ومحبة الروح القدس، هنا يجب أن نعود إلى يوحنا 17، وإلى 1 كورنثوس 13: 1 – 8 لكي نرى أن المحبة

- لا تنقسم
- لا تدين
- لا تسعى وراء حقها
- توحِّد وتجمِّع.

رابعاً: إن محبة الله الثالوث هي محبة أقنومية، وأنا اعرف ماذا حدث لكلمة أقنوم في الكتابات المعاصرة، ولكن أقرب كلمة لدينا في اللغة العربية من كلمة أقنوم هي كلمة "شخص"، مع مراعاة أن الشخص ليس هو الفرد، ولذلك أرجو مراجعة كتاب "الوجود شركة" الصادر عن مركز دراسات الآباء بالقاهرة سواء في طبعته الأولى أو الثانية، وعلينا أن نلاحظ ما يلي:

1- الأقنوم ليس فرداً محصوراً في كيانه الذاتي، بل هو شخصٌ له وجود متمايز يفقد تمايزه إذا عاش في عزلة. (لاحظ أن العزلة هي إحدى مكونات الخطية، وهي ضد الشركة). الأقنوم هو كيانٌ خاص، نرى خصوصية كيانه بسبب شركته مع آخر له ذات الوجود والحياة، ولكنه هو أيضاً له وجود متمايز. إذا طبقنا هذا الكلام على الثالوث، نجد أن الابن له وجود وكيان متمايز هو بنوته، ولكن – حتى الاسم نفسه "الابن" يعلن أن له "آب"، وأن الابن لا يمكن إدراكه أو حتى الإيمان به بدون الآب. ولذلك فتمايز الابن عن الآب ضروري جداً ليس فقط لفهم الثالوث فقط، ولكن أيضاً لفهم الشركة ومعرفة محبة الله.

2- التمايز يعلن محبة المتساوين، واستخدام تعبير "الثالوث المساوي"، إنما يؤكد على أن هذه المحبة ليسن محبةً أكبر أو أصغر، بل محبة واحدة؛ لأن المحبة لا وجودَ حقيقي لها إذا وجد تفاوت فيما بين أطرافها. من هنا يجب التأكيد على أن تمايز الآب والابن والروح القدس هو تمايز يؤكد لنا شركة محبة بين متساوين كلٌ منهم يعلن الآخر، وكلٌ منهم حالٌ ومُتَّحدٌ بالآخر، والسبب في ذلك هو أن هذه هي طبيعة المحبة الإلهية التي هي أعظم اتحاد ووحدة؛ لأن حلول أقنوم في أقنوم ليس يعني فقط قبول هذا الأقنوم للآخر، بل لأن الآخر يصبح هو حياته الكاملة. وهذا النموذج يُقدَّم لنا لكي نتشبَّه به، ليس لأن الزوج في الزوجة، بل لأن "رباط الكمال" وهو "رباط المحبة" يجعل القلب كله مكاناً للآخر، حيث يسكن الآخر في القلب، ويجعل حياة "الاثنين" "جسداً واحداً"، أي حياةً واحدةً؛ لأن تعبير "الجسد الواحد" هو تعبير الكتاب المقدس عن وحدة الحياة. وطبعاً وحدانية القلب التي للمحبة هي اتحاد غير جسداني.

3- وطبعاً حلول أقنوم في آخر هو "حركة محبة" توسَّع الآباء في شرحها، لا سيما آباء القرن الخامس، واستخدم الآباء عبارة "الحلول المتبادل" اليونانية Perichoresis لتأكيد أن كل أقنوم يحل في الآخر ليس حلولاً كميَّاً حسب الكم، ولا هو حسب الحجم ولا هو حسب الاستيعاب، بل هو حسب المحبة التي تعطي وتأخذ. ولذلك أعطانا الآب ابنه لكي نأخذه، وبه نعود إلى الآب. وأعطانا الابن روح الآب لكي نقبله حتى ما نعود به إلى الابن.

نحن جزءٌ من هذه الشركة، وهي حركة محبة يفقد فيها الخاطئ "فردانيته"، فلا يصبح فرداً، بل يصبح شخصاً يتكامل وجوده بالشركة ويبقى متمايزاً حسب التعليم الرسولي "كعضو" عرف معنى التمايز، أي كعضو في جسد المسيح.

إن "الفردانية" هي حالة انكسار الوجود الإنساني والانكفاء داخل الكيان، إلى الحد الذي يفقد معه الشركة ويصبح صورةً تامةً للعزلة. (أرجو أن تحصل على كتاب "العزلة والمجتمع" لبرديائيف وقد نشر في سلسلة الألف كتاب الأولى – وهو مقدمة جيدة، طبعاً فلسفية – تشرح سبب هزيمة الإنسان عندما يعيش لنفسه).

الثالوث معلنٌ في الكنيسة، أي حياة الجماعة الواحدة التي نالت اسماً جديداً "جسد المسيح الواحد"، أي حياة المسيح الواحد. هذا الجسد تكوَّن أولاً في يسوع المسيح الإله المتجسد الذي تأقنم جسده ولم يعد أقنوماً ثانياً يضاف إلى أقنوم الابن - وهي مشكلة نسطور - بل صار جسده وحياته الإنسانية لها وجودها الإنساني الدائم والأبدي بسبب اتحادها بأقنوم الابن؛ لأن إنسانية المسيح الرب لا وجود لها خارج الاتحاد الأقنومي، ويصبح المسيح شخصاً إنسانياً كاملاً بسبب الاتحاد لا وجود لإنسانيته بدون هذا الاتحاد. وتبقى الطبيعة الإنسانية كاملةٌ فيه، ولكن بوجود جديد غير الوجود الآدمي القديم، وجودٌ يعتمد على الاتحاد. وجودٌ خاصٌ متمايزٌ كطبيعةٍ، ولكنه متأقنم، أي لا يُفهم إلاَّ من خلال الاتحاد.

وعندما مات الرب على الصليب، مات عن الفردانية وصارت حياته بسبب الموت والقيامة حياةً إلهيةً متجسدةً كاملةً لا يقوى الموت عليها، ولا يمكن فيها فصل الروح الإنسانية عن الجسد الإنساني، لأن الاتحاد قد غلب انفصال الموت بكل أشكاله وأسبابه، ومن هنا أخذت المعمودية قوتها؛ لأنها - كميلادٍ جديد - صلبت الفردانية، أي الإنسان القديم، ووُلِدَ فيها الإنسان الجديد المخلوق حسب صورة خالقه، أي الحي بالشركة، أو ما يمكن أن نسميه "الإنسان الكنائسي" الذي يُزرع في جسد المسيح الواحد، أي الكنيسة وينضم إلى هذه الحياة الواحدة الجديدة.

طبعاً هذا هو ما يريده الله الآب، وإن كنا نرى كيف تهدم الخطية وتمزق الجماعة الجديدة لكي يصبح كل واحد منهم "فرداً" يؤمن بالله الواحد الذي لا شريك له.

وتكوَّن هذا الجسد ثانياً بالتناول من جسد الرب ودمه، وهذا هو محور الحياة الجديدة الذي ضُرِبَ أيضاً بجدل عقيم أجوف شيطاني (يقسِّم الإفخارستيا إلى ناسوت ولاهوت) يهدف إلى أن نبتعد عن ينبوع الحياة الجديدة، لكن هنا أيضاً يضرب المسيحُ بقوة كل اتجاهات ومحاولات "الفردنة"؛ لأننا لا نأخذ أجزاءاً من جسد المسيح، بل نأخذ المسيح كله، ولا ينقسم المسيح بالتوزيع، بل هو - بالتوزيع - يجمع المنقسمين، ويوحِّد الكل "جسداً واحداً" حتى لا يبقى للخطية أي أثر في جسده الكنيسة، ولذلك تتكرر طلبة غفران الخطايا الشخصية وغيرها لأنها تهدم الاتحاد، ليس لأن الاتحاد ضعيف وتقوى عليه الخطية، بل لأن الإنسان كائنٌ حر قادر على أن يجنح إلى الخطية، ولذلك تقول الصلاة: "ولا يقوى علينا موت الخطية ولا على كل شعبك".

خامساً: نحن نصبح "ثالوثيين" إذا سلكنا طريق الشركة والمحبة، ووُلِدت فينا المعرفة ثمرة المحبة. ما هي خواص المعرفة ثمرة المحبة؟

1- تولد من الاختبار ولا تولد من الألفاظ، ولا من معرفة معاني الكلمات. ولذلك، "اللقاء" أو - حسب تعبير الأب متى المسكين - "التلامس" مع الله هو الذي يعطي للإنسان رؤية كيانه ورؤية الله.

2- استنارة من الروح القدس حيث تشرح المحبة معاني الكلمات، وتحدد المحبة الاتجاه، وترسم المحبة الهدف نفسه.

3- يعلو فحص المحبة على فحص المعرفة غير المستنيرة؛ لأن فحص المحبة يتجاوز كل قواعد المنطق غير المستنير بالروح. ولذلك المنطق الطبيعي يسأل: كيف يكون الثلاثةُ واحداً؟ أمَّا منطق الروح القدس فيقول: الثلاثة واحد؛ لأن الثلاثة شركة، والشركة محبة والمحبة وحِدة. والواحد غير الوحدة؛ لأن الوحدة في الثالوث هي الجوهر الواحد في الثلاثة المتساوين، ولذلك تحصر الوحدة معنى الواحد؛ لأن كل واحد هو واحد من ثلاثة، والثلاثة هم وحدة، وهم واحد حسب الحياة الواحدة.

الثالوث والصلاة

نحن نتبع الآباء، ولذلك وبما أننا نتبع الآباء نضع بعض علامات التعليم عن الوحدة والثالوث والصلاة:

1- الصلاة في المسيحية هي تحول كيان الإنسان كله جسداً وروحاً إلى صورة المسيح، وهي صورة التبني، وهي لذلك شركة، والشركة محبة.

2- عندما نصلي، فإننا نتقدم للآب وليس إلى الله، بل إلى الله الآب. وعندما نأتي إليه في الوسيط والشفيع، فإن علاقتنا بالله الآب هي علاقة الأبناء، وهو ما يرفع نوع ودرجات الصلاة على النحو الذي نراه في مراحل الصلاة في "كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية". وتأخذ الصلاة قوتها من المعمودية والميرون والإفخارستيا وسكنى الروح القدس.

كان جيل الشيوخ العظام الذين عِشنا معهم يقولون لنا: "هل صليت يا ابني معموديتك؟". وعندما قلت لواحد منهم كيف؟ قال: يعني كابن لله مات عن الخطية. وفي إحدى المرات قال لي أبونا مينا المتوحد: "هل شفت يا ابني رشومات الميرون فيك؟"، فقلت: لا. فقال لي: طيب صلي علشان تشوفها. ولم أهتم بالأمر كثيراً، ولكن أثناء صلاة الجناز العام يوم أحد الشعانين وجدت جسدي وقد أضاء بنور غريب لامع، وخفت. وعندما سألت أبونا مينا قال لي إن هذا هو نور مسحة الميرون. وأبونا مينا المتوحد هو صاحب العبارة المشهورة "رشم الصليب يا ابني هو أسكيم العلمانيين الصغير". وهكذا يقربنا الروح القدس من قوة موت الرب على الصليب ومن عمل الروح القدس.

لقد طال الخطاب ...... ولكن لنا عودة إلى نفس الموضوع حسب مسرة الله.

د. جورج حبيب بباوي
16 يونيو 2007